تعتبر قيمة السلعة وطريقة تحديد الأسعار من بين المرتكزات الأساسية في أي نظرية اقتصادية، وباختلاف المبادئ الخاصة بتحديد القيمة تختلف النظريات ما بين رأسمالية واشتراكية ورأسمالية حديثة، غير أن الباحث في المفاهيم الإسلامية للاقتصاد سيعثر على مفاتيح فكرية تؤكد أسبقية الفقهاء في التعرف على الكثير من مظاهر النشاط الاقتصادي وتحديد القيمة.
ويقول الدكتور عبدالعظيم إصلاحي، أستاذ قسم الباحثون معهد الاقتصاد الإسلامي جامعة الملك عبدالعزيز بالسعودية في كتابه الصادر بالإنجليزية حول “إسهام العلماء المسلمين في مجال الفكر والتحليل الاقتصاديين” إن نظرية القيمة ظهرت عند فقهاء الإسلام الذين استفادوا من ترجمات اليونانيين لتطوير نظريات كانوا قد أسسوا لها قبل ذلك بفترة.
وبحسب إصلاحي فإن نظرية القيمة بشكلها المعاصر طرحت على يد عالم الاقتصاد المعروف، آدم سميث، الذي عاش بين عامي 1723 و1790، خلال طرحه لأفكاره حول العمل، ولكن مفهوم القيمة لديه اختلط بـ”مبدأ قيمة كلفة الإنتاج، وقد حاول بعد ذلك عالم الاقتصاد ريكاردو، الذي عاش بين عامي 1772 و1823 تصحيح تلك الأخطاء، ولكن نظرياته كانت أيضا محل جدل.
وقام المفكر الألماني كارل ماركس بدراسة نظريتي سميث وريكاردو حول القيمة، وخلص إلى النتيجة الطبيعية لها، وهي نظرية “الاستغلال” لظروف العمال، بينما قام علماء الاقتصاد الحديث بدراسة القيمة من خلال دمج عدة مفاهيم تتعلق بالعرض والطلب لتحديد القيمة الحقيقية للأشياء.
ويلفت إصلاحي إلى أن العلماء كانوا يفترضون غياب نظريات واضحة حول القيمة قبل عصر آدم سميث، ولكن الواقع هو أن الكثير من عناصر تلك النظرية تظهر في كتابات علماء الاقتصاد والفقهاء في الحضارة الإسلامية، بل إن نظرياتهم سارت بعكس الاتجاه الغربي، إذ بدأت في ما انتهى إليه الغربيون لجهة القول بأن القيمة تتحدد على أساس عاملي العرض والطلب. رغم أن الذين كتبوا في هذا المجال لم يحددوا ما إذا كان مفهومهم للقيمة متعلقا بقيمة السلعة في السوق أو بقيمتها الذاتية.
ويعدد إصلاحي من بين الذين كتبوا بهذا المجال الإمام العز ابن عبدالسلام، الذي التقط أسس نظرية “المنفعة الحدية” التي تعتبر أن منفعة السلعة تكمن في قدرتها على إشباع من يحصل عليها، وتتراجع قيمتها بالتالي بعد اكتفائه منها، وينقل ابن عبدالسلام قول الإمام الشافعي بأن الفقير ينظر إلى الدينار نظرة مختلفة عن نظرة الثري له لتباين نظرتهما إلى قيمته، وهو رأي كان له صداه لدى الإمام الجويني أيضا.
ويضيف إصلاحي أن الفقهاء المسلمين لم يكتبوا حول “المنفعة الحدية” وحدها، بل حول ما يعرف بـ”انعدام المنفعة” إذ كتب في هذا الإطار العالم محمد ابن الحسن الشيباني، كما يعرض ابن الجوزي إذ يشير إلى أن كمية ما سيتناوله المرء من طعام أو شراب يعتمد على مدى جوعه وعطشه، بل يصل إلى القول بأن المبالغة في الأكل والشرب قد يكون لها نتيجة عكسية وتسبب الألم للناس.
أما الإشارات الأكثر وضوحا إلى القضية فتبدو في كتاب المقدمة لابن خلدون الذي حمل خلاصة نظرياته الاجتماعية والاقتصادية، وكتبت الأكاديمية سهيلة زين الدين حول القضية قائلة إن ابن خلدون ذكر في الفصل الذي بعنوان “نقصان الدفع يؤدي إلى نقصان الإيراد” يقول إنه إذا “حجب السلطان البضائع والأموال والإيراد، أو فقدت فلم يصرفها في مصارفها قلَّ حينئذ ما بأيدي الحاشية والحامية، وقلَّت نفقاتهم، وهم معظم المشترين (السواد) وهجرت الأسواق (يقع الكساد) وتضعف أرباح المنتجات، فتقل الجبايات” لأن الضرائب تأتي من الزراعة والتجارة والتبادل التجاري.
وتضيف زين الدين أن ابن خلدون “سبق آدم سميث في وضع أسس نظرية القيمة والأثمان” مضيفة: “للنقود في نظر ابن خلدون خاصية ترتبت عليها وظيفتان: أمَّا الخاصية فهي الثبات النقدي. وأمَّا الوظيفتان فهما: اتخاذ النقود أداة مبادلة، وفي الوقت نفسه اتخاذها أداة ادخار.”
ويضيف ابن خلدون أن الأموال “أداة مبادلة” عند ابن خلدون لأنَّها “قيمة لكل متمول”، أو “مستودع القيمة”، وإلاَّ لم يحصل أحد من اقتنائها على شيء، وهي عنده أيضًا أداة ادخار حيث يقول: “إنَّ الذهب والفضة هما الذخيرة والقنية لأهل العالم غالبًا.”
وتلفت زين الدين إلى أن ظاهرة الثبات النقدي “كانت السبب الأول في صيرورة الذهب والفضة مستودع القيمة، وفي اتخاذها أداة للادخَّار والمبادلة” بالنسبة لابن خلدون وتضيف: “كون الذهب والفضة بمعزل عن حوالة الأسواق التي تحدث لغيرهما عند ابن خلدون يرجع إلى أنَّ الإنتاج منهما ليس مضمونًا، حيثُ إنَّ نتيجة استغلال أي منجم منهما تخضع لعوامل مختلفة، حتى أنَّ النتيجة قد تكون معاكسة، ومن ثَمَّ فقد كان للطابع الاحتمالي للإنتاج، بالإضافة إلى ضآلة القدر المنتج الأثر الكبير في جعل عرض الذهب والفضة في الأسواق يكاد يكون ثابتًا بصورة منتظمة دائمًا.