يستطيع الباحث في تاريخ الإسلام والغرب أن يلاحظ أن تاريخ العلاقة بينهما قد بدأ مبكرًا جدًّا، مرتبطًا بالسنوات الأولى لنشأة الإسلام؛ وأن هذا التاريخ قد مرَّ بمراحل متعددة صعودًا وهبوطًا، سلمًا وحربًا.

أما عن نشأة العلاقة بينهما، فيمكن أن نسجل أنها بدأت بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم كتابه إلى هرقل، في السنة السابعة من الهجرة، يدعوه فيه إلى الإسلام([1]).

ويرى بعض المفكرين أن العلاقة بين الإسلام والغرب قد تأثرت بالعلاقة السابقة بين الشرق والغرب؛ فقد حرص الغرب- قبل ظهور الإسلام- على استعمار الشرق ونهب ثرواته، كما استطاع أن يفرض عليه التفسيرات الغربية للمسيحية، والتي تتناقض في كثير من أصولها مع شريعة المسيح عليه السلام، التي تدعو- مثل بقية الشرائع- إلى توحيد الله وتنزيهه.

يقول د. عمارة: “تاريخ الاستعمار الغربي للشرق، سابق على ظهور الإسلام. ولأن الإسلام هو الذي حرر الشرق من الاستعمار الروماني، فقد بدأت الصورة الغربية المعادية للإسلام وحضارته تتبلور في الثقافة الغربية منذ ذلك التاريخ. لقد كانت الحضارة الشرقية، بنصرانيتها اليعقوبية [بالنسبة للغرب] هي العدو- البربري- الهمجي. فلما أصبحت الحضارة الشرقية إسلاميةً، أصبحت هي العدو الجديد. وفي ذلك يقول القائد الانجليزي جلوب باشا كلمته التي توقظ النيام: إن تاريخ مشكلة الشرق الأوسط، إنما تعود إلى القرن السابع للميلاد”([2]). أي إلى ظهور الإسلام!!

ثم أخذت هذه العلاقة منحنى متصاعدًا من المواجهة، حين رأى رجال الكنيسة بأوروبا، في الدين الجديد خطرًا شديدًا عليهم، وتعاظم إحساسهم بهذا الخطر مع امتداد الفتوحات الإسلامية ووصولها إلى أوروبا، فأخذ بعضهم يصور الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم على أنه زعيم مخاتل وهارب من الكنيسة، وأن عقيدته عقيدة بدائية همجية، وأن أتباعه قراصنة معتدون، وأطلق عليهم في الفكر الأوروبي اسم” السراسنة”، وأصبحت هذه الصورة جزءًا من الأدب الشعبي، ومن الرؤية الخيالية للإسلام([3]).

ثم جاءت مرحلة أخرى تمتد من القرن الثاني عشر إلى القرن الخامس عشر الميلادي. وهذه المرحلة هي الأساس الذي يشكل طبيعة العلاقة بين الإسلام والغرب بعد ذلك، وما زالت آثارها حاضرة حتى الآن. حيث شهدت تلك الفترةُ الحروبَ الصليبية (489- 690هـ/ 1096- 1291م) التي “وإن تكن غذَّت روح العداء، فإنها منحت أوروبا لأول مرة فرصة التعرف الموضوعي المباشر على المسلمين وحضارتهم([4]).

ومن التناقض المثير للدهشة أنه في الوقت الذي وُصف فيه الإسلام بأنه دين الهرطقة والخرافات والأساطير، “كانت هناك جهود للوصول إلى معرفة موضوعية في مجال العلوم العربية والعلوم الطبيعية؛ ولكن هذا الاتصال العميق بحضارة الإسلام لم يكن له تأثير في تغيير النظرة الغربية للصورة العقيدية أو الإلهية أو التاريخية للإسلام”([5]).

وإذا كان التاريخ يخبرنا بما مرَّت به هذه العلاقة من توتر وتعارف، فإن السؤال المهم ينبغي أن يتعلق بكيفية الوصول إلى فهم أفضل متبادل بين الطرفين، خاصة مع وجود نقطتين مهمتين:

الأولى: أن التاريخ شاهد على أن أحد الطرفين لن يستطيع القضاء على الآخر؛وأن سنة الله تعالى قاضية بوجود هذا الاختلاف؛ ومن ثم علينا التعامل معه وإدارته.

الثانية: أن العلاقة بين الإسلام والغرب انتقلت من “التجاور” بين دول وحضارات إلى “التداخل”؛ حيث تقيم جاليات إسلامية في قلب الغرب، ويزداد عددها عامًا بعد آخر، وحيث الحدود مفتوحة للتبادل التجاري والثقافي والسياحي بين الطرفين، بما لم يحدث من قبل.

فهاتان النقطتان- التاريخ الشاهد، والتداخل الحاصل بعد التجاور- توجِبان العمل على مزيد من الفهم والتفاهم.

وهنا يمكن أن نرصد عدة أمور مهمة، نكتفي بالإشارة إلى أربعة منها:

أولاً: ينبغي ألا تُحمَّل الأديان أخطاء أتباعها

لتظل ساحة الأديان نقية من السجالات والنقاشات الحادة؛ حتى يمكن لملمة الآثار بسهولة، وحتى لا نسيء لرسالة الأديان التي هي رسالة سلام وتعارف.

وكما نرفض أن يقال “الإرهاب المسيحي” لأن مسيحيًّا قام بعمل إرهابي، فينبغي أن يكون هذا أيضًا هو السلوك تجاه الإسلام؛ فلا يُوصم الإسلام بالإرهاب لخطأ بعض أتباعه، ولا يُعمَّم الخطأ على المجتمعات الإسلامية لأن البعض فيها انحرف عن الطريق القويم.

وهذا الفرز والتخصيص، لا التعميم، منهجٌ قرآني في التعامل مع الآخر؛ قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (آل عمران: 75). وقال أيضًا: {لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (آل عمران: 113).

ثانيًا: من الضروري الإقرار بأن حرية الرأي لها ضوابط

فهذا أمر واضحٌ جليّ فيما يتصل بمصالح الدول، تحت مسميات شتى؛ مثل “الأمن القومي” أو “المصالح العليا”. وإذا كان هذا أمرًا ثابتًا على هذا المستوى فينبغي تطبيقه على مستوى آخر لا يقل أهمية، وهو حفظ مكانة الأديان ومراعاة مشاعر أهلها؛ بحيث لا تُستباح حرمات دينٍ بذريعة حرية التعبير، ولا يُساء إلى أهل شريعةٍ بدعوى حرية الرأي!

إن حفظ حقوق الأديان وصونها من الإساءة إليها، ينبغي أن يُدرَج ضمن مقررات القانون الدولي والثوابت الفكرية الإنسانية؛ حتى لا يُترك هذا الأمر بيد متهور أو مخادع، كما نرى في أزمة الرسوم المسيئة المتجددة!

ثالثًا: على المسلمين تصحيح المفاهيم فيما يتعلق بالعلاقة مع الآخر

فالإسلام لم يكن أبدًا رسالة إكراه ولا عنف، وإنما هو يسعى إلى هداية الناس وإبلاغهم كلمة الله. ولا يجوز أن يكون رفضُ سياسيات ما- تهدف لنهب الثروات أو إشعال الصراع أو تحكيم القوة- سببًا لنسيان أن الإسلام رسالة هداية، وأنه بلاغ للعالمين جميعًا، وأن وسيلته الدعوة والإقناع.

ولهذا بيَّن السيد محمد رشيد رضا عند حديثه عن (قواعد الحرب والسلام في الإسلام) أن حالة السلم هي الأصل التي يجب أن يكون عليها الناس، ولذلك أمرنا الله بإيثارها علي الحرب إذا جنح العدو لها، ورضي بها، فقال سبحانه {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الأنفال: 61). كما جعل سبحانه الأمر بقتال المعتدين؛ لكفِّ عدوانهم، وقرنه بالنهي عن البغي والظلم، فقال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) فتعليل النهي عن قتال الأعداء بأن الله تعالى لا يحب المعتدين مطلقاً، دليلٌ على أن هذا النهي مُحكم غير قابل للنسخ، ولذلك كانت حروب النبي صلي الله عليه وسلم للكفار دفاعًا ليس فيها شيء من العدوان([6]).

رابعًا: يجب أن يتصدى الغرب لتيارات اليمين المتطرفة الآخذة في الصعود

فهذه التيارات يتجاوز عداؤها الإسلامَ والمسلمين إلى السود وإلى المهاجرين عمومًا؛ كما أنها- فضلاً عن توجيه عدائها للإسلام- تهدِّد السلم الاجتماعي الغربي، وتزرع الشقاق بين أبنائه، ثم تجعل من نفسها طريقًا للساسة إلى صناديق الانتخاب، وتجعل من الإسلام ثمنًا انتخابيًّا وصيدًا سهلاً!!

وهذا ليس ادعاءً على الغرب دون دليل، وإنما اعترف بذلك عقلاء غربيون كثيرون؛ منهم الصحفي الفرنسي “إيدوي بلينيل” الذي أصدر كتابه (من أجل المسلمين)- وقد أحدث دويًّا في فرنسا- رغبةً منه في كشف قطاعات سياسية وإعلامية رأى أنها “جنحت إلى خطاب صراع الحضارات المثقل بماض استعماري لم يتم التخلص منه قط”([7]).

ولفت “بلينيل” إلى محاولات إحلال العداء للمسلمين محل العداء لليهود، في لعبة صناعة “العدو الداخلي”؛ قائلاً: “إنه فخ مكشوف، ولكنه فعال مع الأسف. إن اليمين المتطرف لم يغيّر أبدًا أصله التجاري؛ أي الخوف والكراهية المتأججة وتعيين أكباش فداء؛ لكنه غيّر الهدف، من خلال الحدس بأنه في ظل الارتباك العام المستشري والعقول المبلبلة، فإن حركة معادية للأجنبي ستحظى بالحق في الاحترام إذا نأت بنفسها عن معاداة السامية”([8]). ويستشهد بما رصدته الباحثة والمؤرخة “فاليري إيغوني” من أنه مع نهاية سنوات الألفين لم يعد اليهودي هو عدو الجبهة الوطنية، بل المسلم الفرنسي([9]).

ويقول “بلينيل” في صراحةٍ نغبطه عليها: “الكراهية المسلَّطة على الإسلام وممارسيه، من طرف لائكية متعصبة وخائنة للائكية الحقيقية، هي تعبير عن الإنكار الاجتماعي للمهيمنين على المضطهِدين”([10]). أي أنهم يهربون من استحقاقات المسألة الاجتماعية، عدالةً ومساواةً، بإثارة مسألة الوجود الإسلامي!

إذن، بمثل هذا التصحيح للمفاهيم، والصراحة في النقد، والأخذ على يد المتطرفين؛ يعتدل المسار باتجاهِ فهمٍ أفضل متبادل، يمثل ضرورة ومصلحة للطرفين معًا..


([1]) مراد هوفمان، الإسلام كبديل، ص: 17، دار الشروق، ط1، 1997م.

([2]) د. محمد عمارة، صورة الإسلام في الخطاب الغربي، مجلة “المسلم المعاصر”، ص: 29، عدد 108، المحرم 1424هـ.

([3]) د. أحمد كمال أبو المجد، الإسلام والغرب، ص: 535، بحث منشور ضمن أعمال المؤتمر التاسع للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ط1، 1998.

([4]) المصدر نفسه، ص: 536.

([5]) د. محمود حمدي زقزوق، في مواجهة الاستشراق، مجلة “المسلم المعاصر”، ص: 19، العددان 65– 66، المحرم 1413هـ.

([6]) الوحي المحمدي، رشيد رضا، ص: 321، 322، 325، طبعة مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، ط3، 1406هـ، لبنان. باختصار.

([7]) من أجل المسلمين، إيدوي بلينيل، ص: 48، هدية مجلة “الدوحة”، عدد يونيو 2015، ترجمة عبد اللطيف القرشي.

([8]) المصدر نفسه: 44.

([9]) المصدر نفسه: 43.

([10]) المصدر نفسه: 88.