دائما ماكان الإنسان هو الفاعل في الأرض منذ بِدأ الخليقة، فهو الذي يحرث ويزرع في العصور البدائية، وهو الذي يسعى وينتنقل من مكان لآخَر في سبيل تدبير أموره ومعايشه. هذه السردية تدلنا بصورة أولية على أن الإنسان هو الفاعل في الكون بأمر الله -عز وجل- وتهيئته لذلك .
هذا الذي يمكن لنا أن نطلق عليه الإنسان الفاعل في كافة المجالات، فهو صاحب السلطات المتعددة على كل من حوله من المخلوقات .
إلا أننا بلَغْنا مرحلة انتقل فيها الإنسان من حيّز الفاعل إلى المفعول، فهذه هي المرحلة الثانية التي يصبح فيها مأمورًا تمارِس عليه التكنولوجيا سلطاتها؛ فمع ظهور الطفرات الصناعية والتكنولوجية في العالَم بدأ الإنسان في التحول من الفعل إلى المفعول أو رد الفعل، فغدت الآلة تمارس سلطاتها عليه، وبهذا فقد وقع أسيرًا لتلك التقنيات الحديثة التي أخذت في التغول على كافة أنماط الحياة.
فالكل يسعى ليكون له موطء قدم أمام تلك الآلات والتقنيات، فهذا ممثل يسعى لأن يكون له عملا دراميًا يشاهده الناس، فالظاهر للناس أنه النجم والفنان الكبير إلا أنه في الحقيقة صغيرًا أمام الكاميرا والأضواء، التنقيات هي التي جعلت منه نجمًا، هذه هي الحقيقة سلطة الآلة وفقط .
وهذا رائد فضاء يسعى إلى تأسيس شركات طيران، وهذا يريد أن يحصل على وظيفة مرموقة في مكان معين، الآلة أجبرت الكل على تغير المسار والقناعات، وأن يصبح ترسًا في منظومة التقنية.
الكل تحوّل في طرفة عين إلى آليات وتروس في خدمة التقنيات والوسائل الجديدة، وأصبح الصراع في سبيها على أشده حتى يتمكن من الظَفْر بها من يستطيع تجاوز ذلك كله. هاتان الحقبتان عاشتهما البشرية طيلة الفترة منذ خلق آدم حتى ظهور الحقبة الثالثة، حقبة الانعزال أو العزل بصورة مباشرة .
يمكنني تقسيم تاريخ البشرية إلى تلك الثلاث مراحل: مرحلة الفاعل، ومرحلة المفعول، ومرحلة الانعزال ..
والمرحلة الأخيرة هي التي نعيشها الآن من التغول الرهيب من الذكاء الصناعي، ومحاولة إقصاء الإنسان من كافة المستويات، والاستغناء عن خدماته بصورة مباشرة.
في القريب العاجل لن يكون هناك حاجه للطبيب التقليدي أو المهندس التقليدي أو المدرس التقليدي- أو بصورة حاسمة الأعمال التي كان يؤديها الإنسان بصورة كلية –؛ فالذكاء الصناعي هو البديل لذلك كله.
حتى فكرة الزواج والاستقرار، يوجد بدائل لها تؤدي الغرض من تحقيق الرغبة والنشوة – الدُميَة الصينية – .
مريع أن يصبح الإنسان عاطِلا، ليس لكونه جاهلا أو لم يحصل على مؤهل علمي أو حظا من التعليم، وإنما لكونه أصبح ضمن الفائض أو القوة غير المؤثرة لصالح القوى الأخرى – الذكاء الصناعي- .
إننا أمام إزاحة مباشرة، ومتعمدة للطاقات البشرية لصالح الذكاء الصناعي، وسوف يترتب على ذلك مئات من الأعداد المعطلة والطاقات المهدرة، هذه هي الكارثة التي تنتظر الجميع.
التغول الرقمي والتقني الذي نشاهده من حولنا لا يمكن أن يسير فيه إلا من له نصيب في صناعته وبناءه، وليس المُمارِس للمنتجات المتولده عنه .