“الماء والهواء، السائلين الأساسيين اللذين تعتمد عليهما الحياة كلها، أصبحا علب قمامة عالمية”[i]، تتعرض الطبيعة لتعديات كبرى من الإنسان، غير أن الطبيعة لا تقف ساكنة عاجزة مستسلمة، ولكن ترد الصاع صاعين وأكثر مع كل تجاوز في حقها، لعل الإنسان يعود إلى صوابه ورشده.
أزمة رؤية
نبه القرآن الكريم أن يد الإنسان قد تمتد إلى الطبيعة بالإفساد، لكنها ما أن تلبث أن تُذيقه سوء عمله، قال تعالى:” ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”[ii]، جاء في التفسير: ” ثم يكشف الله لهم عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس وكسبهم؛ وأن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد، ويملؤها براً وبحراً بهذا الفساد، ويجعله مسيطراً على أقدارها، غالباً عليها، فظهور الفساد واستعلاؤه لا يتم عبثاً، ولا يقع مصادفة؛ إنما هو تدبير الله وسنته.. {ليذيقهم بعض الذي عملوا} من الشر والفساد، حينما يكتوون بناره، ويتألمون لما يصيبهم منه: {لعلهم يرجعون} فيعزمون على مقاومة الفساد، ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح وإلى المنهج القويم”.
والحقيقة أن أزمة الإنسان المعاصر مع الطبيعة، قبل أن تكون أزمة سلوكيات، فإنها أزمة رؤية، فذلك الإنسان الذي تربعت في أعماقه المادية بصورتها النفعية الجشعة، أو الاستهلاكية المفرطة، أو المغرورة الراغبة في السيطرة التامة، جعلت الطبيعة غير صامتة في مقاومته، فالإنسان عندما ينفصل عن الخالق سبحانه وتعالى وقيمه وتعاليمه، فإنه يتوحش مع كل شيء، بما في ذلك نفسه، ويسيء استخدام كل شيء، ويبدد كل شيء، لذا فالإيمان بالخالق-سبحانه وتعالى- هو نقطة الإنطلاق المركزية للحفاظ على الكون والطبيعة، وما فيها من خيرات، لذا كان التأمل طويلا أمام الحديث الشريف عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ ؟
قَالَ : أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ ؟
قَالَ : نَعَمْ ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ “[iii]
فما الذي يأخذه الوضوء من ماء النهر؟! بل إن الماء المتحدر من الوضوء يرجع جزء كبير منه إلى النهر، لكن الإسلام يغرس مبدأ رفض الإسراف، في أعماق الإنسان، ويعلمه أن يقاوم إغواء الاسراف، حتى وهو يرى الماء الغزير الجاري في النهر، فإذا تعلم الإنسان الدرس في هذا المكان، ستكون حياته بعيدة عن الإسراف والهدر.
ومع الإيمان المتعاظم بالمادية أصبحت الطبيعة نقطة ارتكاز فلسفي في الفكر المادي، ما بين الإيمان المطلق بها، وبين محاولة إخضاعها، والتدخل الإكراهي في نظامها المحكم، فتحولت الطبيعة إلى مجال لذلك الإنسان المادي لتفريغ شحناته، استنزافا أو تخريبا وتعطيلا، أو حتى إهمالا.
لذا يمكن النظر إلى الجانب الاستهلاكي المفرط في كل شيء لدى الإنسان المعاصر، والذي يستنزف الطبيعة، ويخلق مشكلات بيئية عظيمة، على أنها تجلي لهذا الإنسان المادي الذي يسعى للانتقام من الطبيعة، يقول الكاتب اليساري الأمريكي “موراي بوكشين” Murray Bookchin :” الرأسمالية بطبيعتها معادية للبيئة، المنافسة والتراكم يشكلان قانون الحياة الخاص به ، وهو قانون يمكن تلخيصه في عبارة “الإنتاج من أجل الإنتاج”، فأي شيء ، مهما كان مقدسًا أو نادرًا ، “له ثمنه” وهو لعبة عادلة للسوق، وفي مجتمع من هذا النوع، تُعامل الطبيعة بالضرورة، على أنها مجرد مصدر للنهب والاستغلال، إن تدمير العالم الطبيعي ، كان نتيجة لأخطاء فادحة ، يتبع بلا هوادة منطق الإنتاج الرأسمالي “.
أزمة الطبيعة
تشير الدراسات العالمية أكثر من 70 ٪ من سطح الأرض قد تغير بفعل الإنسان، وأن خطر الانقراض يزحف بقوة على الكائنات الحية والنباتات، وأن 40% من النباتات مهددة بالانقراض، وأن المياه العذبة مهددة، وأن الأزمة أصابت الأنهار الكبيرة ، فأكثر من 75٪ من الأنهار التي يزيد طولها عن 1000 كيلومتر لم تعد تتدفق بحرية على طول مسارها بالكامل، وأن أكثر من ثلثي المحيطات في خطر بسبب الأنشطة البشرية والنفايات، وهنا تناقص في الأحياء البحرية خاصة الأسماك المفترسة الضخمة.
كذلك هناك تزايد في تلوث التربة، وانخفاض في مستويات الخصوبة على كافة المستويات، بما فيها التربة والإنسان والحيوان ، وتدني في جودة الهواء والماء، وزيادة في الفيضانات والحرائق خاصة حرائق الغابات، ورغم ذلك فهناك عدم جدية عالمية في مواجهة تلك الأزمات، لأن معظم أهداف التنمية المستدامة لم تدمج بشكل كاف وجاد بين البيئة وبين العوامل الاجتماعية والاقتصادية الأخرى، لذلك ، فهناك ارتفاع في مستوى المعيشة، بالرغم من الخسائر البيئية المتزايدة، يقول البعض “تدير البشرية مخطط بونزي[iv] البيئي حيث يسرق المجتمع الطبيعة والأجيال القادمة لدفع تكاليف زيادة الدخل على المدى القصير”، أو كما يقول الكاتب “إسحاق عظيموف” في كتابه “سر الكون” Secret of the Universe :”أليس من المحزن أن تتمكن من إخبار الناس أن طبقة الأوزون آخذة في النضوب، والغابات يتم قطعها، والصحاري تتقدم بثبات، وأن تأثير الدفيئة سيرفع مستوى سطح البحر بمقدار 200 قدم، وأن الاكتظاظ السكاني يخنقنا، أن التلوث يقتلنا، وأن الحرب النووية قد تدمرنا – وهم يتثاءبون ويستقرون بقيلولة مريحة، لكن أخبرهم أن المريخ سيهبطون عليه، ستجدهم يصرخون ويركضون. “
وقد اعترف المنتدى الاقتصادي العالمي بأن التهديد بفقدان التنوع البيولوجي باعتباره أحد أكبر التهديدات للاقتصاد العالمي، فاختلال التنوع البيئي، قد يتسبب في ظهور بعض الأوبئة أو تدهور في صحة الإنسان وثروته، وتشير الدراسات أن ما يقرب من ثلاث أرباع الأمراض المعدية الجديدة ناتج عن التفاعلات بين الإنسان والحيوان، وأن أحد المسببات الكبرى للتدهور البيئي ناتج عن أزمات المناخ، وإزالة الغابات، ومن ثم تزايدت العوامل المسببه للمرض، في ظل ضعف المناعة البشرية.
لكن تبقى التغيرات المناخي أكثر وضوحا في حياة البشر من فقدان التنوع البيلولوجي، إذ تشهد الأرض ارتفاعا في حرارتها، يشير “جون مكمورتري John McMurtry ” في كتابه “مرحلة السرطان في الرأسمالية ” The Cancer Stage of Capitalism أن: “الهواء والتربة والماء تتدهور بشكل تراكمي؛ المناخات والمحيطات تزعزع الاستقرار؛ الأنواع تنقرض عبر القارات ؛ تزداد دورات التلوث وأحجامه لتهدد أنظمة الحياة على جميع المستويات في التأثيرات التعاقبية ؛ ينتج نظام الغذاء العالمي المزيد والمزيد من الأطعمة السريعة الملوثة المسببة للعجز، والتي لا تحتوي على قيمة غذائية ؛ تتكاثر الأمراض غير المعدية لتصبح أكبر قاتل في العالم مع علاج الأعراض فقط”
لكن الأخطر هو الحلول المتطرفة لمواجهة أزمة الإنسان المعاصر مع الطبيعة، إذ كانت هناك حلول بخفض أعداد البشر، تحت ستار أن الكوكب يواجه حالة طواريء مناخية، والحل يكمن في الوصول بأعداد البشر عند حجم مثالي وتثبيته.
[i] مقولة لعالم البحار الشهير جاك إيف كوستو
[ii] سورة الروم: الآية: 41
[iii] رواه الإمام أحمد، وابن ماجة
[iv] تطلق عبارة: “مخطط بونزي Ponzi scheme” على كل عملية نصب أو احتيال، وبصفة خاصة عمليات الاستثمار التي يتم دفع عوائد للمستثمرين القدامى من خلال استثمارات المستثمرين الجدد، وهو ما يطلق عليه المخطط الهرمي.