( وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) البقرة : (111)
زعمت اليهود أن لا أحد يدخل الجنة سواهم ممن اعتنق عقيدتهم واتبع ملتهم ، واعتقدت النصاري نفس الاعتقاد فلا أحد – في نظرهم – يدخل الجنة إلا من شيعتهم وأتباعهم ، لكن الله كذبهم واعتبر ما صدر منهم ( أماني ) فارغة يطلبها صاحبها ولا يدركها ، و أمر سبحانه نبيه الكريم – عليه الصلاة والسلام – أن يطالبهم بالبرهان ( الحجة والدليل الساطع القاطع المقنع ) على ما قالوا وزعموا إن كانوا صادقين . قال الزمخشري : ” هاتوا برهانكم : هلموا حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة إن كنتم صادقين في دعواكم، وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين، وأن كل قول لا دليل عليه فهو باطل غير ثابت ..” . تفسير الكشاف.
عجيب أمر هذا القرآن !! إنه يدعو إلى أعلى درجات الإنصاف وأسمى معاني العدل والاعتدال، وإلى الذوق الرفيع في مناظرة المخالفين مهما كانوا – حتى لو كانوا كفارا – و لو زعموا أمورا واعتقدوا عقائد في نظرنا – معاشر المسلمين – باطلة تافهة كاذبة لا قيمة لها !! كل ما هنالك ( هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) .
إن القرآن الكريم يربي في أتباعه عقلية منصفة منهجية موضوعية متوازنة ، تعتمد الدليل والبرهان في الحجاج والمجادلة بالحسنى ، وتبتعد عن مجرد اتهام المدعي و المخالف أو المناظر ووصفه بالضلال والكفر والفسوق والسخافة ..الخ .
” علم القرآن أهله أن يطالبوا الناس بالحجة ؛ لأنه أقامهم على سواء المحجة . وجدير بصاحب اليقين أن يطالب خصمه به ويدعوه إليه ، وعلى هذا درج سلف هذه الأمة الصالح ، قالوا بالدليل وطالبوا بالدليل ونهوا عن الأخذ بشيء من غير دليل ، ثم جاء الخلف الطالح فحكم بالتقليد ، وأمر بالتقليد ، ونهى عن الاستدلال على غير صحة التقليد ، حتى كأن الإسلام خرج عن حده ، أو انقلب إلى ضده ، وصار الذين يعلمون أن الإسلام امتاز عن سائر الأديان بإبطال التقليد ، وبالمطالبة بالبرهان والدليل ، وعلم الناس استقلال الفكر ، مع المشاورة في الأمر ، يطالبون المسلمين بالرجوع إلى الدليل ، ويعيبون عليهم الأخذ بقال وقيل ، ويا ليته كان الأخذ بقال الله ، وقيل فيما يروى عن رسول الله ، ولكنه الأخذ بقال فلان وقيل عن علان..” تفسير المنار.
إن القرآن الكريم – دستور ومنهج الحياة – ليفرق بين تقرير الحقائق وتقرير الحقوق ، فلكل منهما باب ومدخل ومبحث ، فحقيقة أننا – معاشر المسلمين – على الصراط المستقيم والبصيرة الواضحة ، وأن ديننا الحق الذي لا شك فيه ولا ريب ، و أن مخالفنا في ضلال مبين وجهل مستحكم ، لا ينفي أن يكون لهذا المخالف حقوق تستوجب الأخذ بها والتزامها من قبل أتباع الرسالة السمحاء ، ومن بين هذه الحقوق و أشرفها احترام ذات المخالف ومشاعره وكيانه ، ومراعاة آدبيات النقاش والحوار معه ، ومجادلته باللين وأخذه بالقول الحسن لعله يتذكر أو يخشي . فهؤلاء القوم – مدار حديث الآية – هم أنفسهم الذين قال الله فيهم ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ) البينة : 6. ولم يمنع ذلك احترامهم و مناقشتهم بالدليل و مطالبتهم بالبرهان ومجادلتهم بالحسنى .
والمحزن في الأمر : أنك ترى اليوم مسلمين يتناظران في أمر شرعي فقهي ، أو فكري لا يتعدى كونه وجهة نظر في أمر من أمور فروع الدين لا من أصوله ، والذي يقبل في مثله الاجتهاد وتعدد الآراء ، فتسمع عبارات التشنيع والتبشيع على المخالف ، ووسمه بالضلال و الفسوق – وربما الكفر – أو الغباء وقلة العقل أو سوء النية وخبث الطوية وقائمة اتهامات لا حصر لها !. والمفروض أن يكون شعارهم ( هاتوا برهانكم ) بعيدا عن كل هذا . فهم الأولى بها والأحرى باتباعها مع المخالفين من أتباع دينهم و أبناء عقيدتهم وجلدتهم .