انتشرت بفضل الله المواقع الإسلامية ودور النشر التي تخدم كتبة الإسلام والعلوم المختلفة، وكذلك المكتبات العلمية وغيرها، وأصبح في وسع الكاتب أن يكتب كتابه أو مقالته في وقت وجيز وبسهولة نسبية أكثر مما كان عليه الحال في الماضي. حيث كان طلبة العلم يرحلون المسافات والأميال ويشدون الرحال لتلقي العلم من العلماء.
والحمد لله قد يسر الله لنا البرامج الإسلامية التي سهلت عملية الكتابة والبحث، فلم يعد هناك صعوبة في البحث عن الآيات والأحاديث، وكذلك تخريجها وتوثيق المعلومات ونحوها. وزاد عدد الكتاب الذين يخدمون الدعوة والعلم الشرعي، جزاهم الله خيرا وجعل ما يقدمونه في ميزان حسناتهم، وهذا القسم هم الكتبة المخلصون الذين همهم تحصيل الأجر ونشر العلم والدعوة إلى الله وإصلاح المجتمع. وهؤلاء يبحثون بأنفسهم من المصادر ويكتبون ويشغلون أذهانهم. وعندما يستعيرون نصا أو معلومة يعزون لمصدرها ولا يكتبونها باسمهم، لأن هذا يعتبر سرقة علمية.
تعريف السرقة العلمية
السرقة العلمية (plagiarism) تعني “استخدام عمل شخص آخر دون منحه العزو المناسب. وفي الكتابة الأكاديمية تتضمن السرقة العلمية استخدام كلمات أو أفكار أو معلومات من مصدر دون الاستشهاد بها بشكل صحيح[1]“.
لماذا اختيار هذا الموضوع؟
لقد اخترت هذا الموضوع للكتابة فيه لعدة أسباب، منها:
- انتشار السرقات العلمية وتكرارها كثيرا في المواقع الإسلامية والكتب والمقالات، وإنتشار النقل المختلس في شبكات التواصل الاجتماعي والمنتديات العربية وحتى الإسلامية.
- قلة الكتابة عن هذا الموضوع عموماً. لذا كان حرياً لفت نظر الناس إليه. فمن كان جاهلاً به يكون قد علم، ومن كان متغافلاً قد يهتدي أو تقام عليهم الحجة يوم القيامة.
- تعجبي من أن أجد غير المسلمين أكثر التزاماً في التوثيق العلمي من المسلمين. فزاد ذلك غيرتي على أمتنا المسلمة وكيف أنها سقطت بين الأمم في هذا المساق.
- من باب الإصلاح لمجتمعاتنا لابد من كشف ما اعتاد على فعله الناس دون البحث في حرمته. والنصح مأمور به في الإسلام في نصوص كثيرة. منها قول الله تعالى: {خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَٰهِلِينَ} (الأعراف: 199). وكذلك ما رُوي عن جرير بن عبد الله أنه قال: (بايعت النبي ﷺ على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم)[2]
- الغيرة على حرمات الله وحقوق المسلمين والعلماء والكتاب.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد ركز الله تعالى على الأمر بهذا الأمر في سورة آل عمران في أكثر من موضع. منها قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104)،. وقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110).
- إرادة النجاة لمن يقوم بهذا من هذا الخطأ الفاحش وتوبته قبل فوات الأوان.
- رفع مستوى المواد المنشورة في الكتب والمواقع الإسلامية وشبكات التواصل وغيرها وتحقيق مصداقيتها.
- رفع اللبس عن القراء والباحثين.
- إعطاء كل ذي حق حقه. والغيرة على محارم الله وحقوق العباد. وهي صفة يحبها الله تعالى. قال ﷺ: (ما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش)[3].
- عدم كتم العلم، قال ﷺ: (من كتم علما يعلمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)[4].
انتشار النقل المختلس والسرقات العلمية
للأسف ظهر بين العلماء المخلصين من يتقَّمَّص شخصهم وينقل من هنا وهناك المعلومات دون العزو لمصدرها أو كاتبها الأصلي. فهؤلاء إن كانت نيتهم نشر الخير أو السمعة أو غيرها من الأغراض فقد أخطأوا الطريق وأجحفوا بحق الكاتب وملكاته الفكرية. وهذه تعتبر سرقة علمية دون شك، ومن يقوم بها سيسأل عما اختلسه يوم القيامة، وسيأتي كل من نقل منه ليقاضيه في حقه، ولا ضير بالنقل إن كان موثقاً، بل هو نشر للخير ومندوب في الإسلام، ولكن أن يأتي شخص وينقل أقوال الآخرين دون أن يعزوها لقائليها أو مصادرها ويجعلها تبدو وكأنها أقواله فهذا ظلم ويوازي السرقة المحرمة، وإن كانت أقل منها مرتبة ولكنها لا تزال داخلة في هذا الباب.
اعتبار الإسلام للحقوق المعنوية
وقد وضع الإسلام للحقوق المعنوية وزن كما للحسية، والدليل على ذلك تشريع حد القذف واللعان والردة رغم أنها جميعا جرائم معنوية وليست حسية. كما نهى الإسلام عن الشتم والغيبة والنميمة، وأذى المسلمين باللسان. واهتم بأعمال القلوب وأحوالها، ووضع وزناً كبيراَ للعقيدة والتفريق الكبير في الدنيا والآخرة بين ذوي العقيدة الصحيحة والفاسدة.
وكل ذلك يؤيد أن الحقوق المعنوية معتبرة في الإسلام ولا سبيل لتضييعها أو إستلابها، ولا شك أن في النقل دون عزو فيه ظلم للكاتب وإجحاف لحقه وتضييع لمجهوده وسرقة لملكاته الفكرية، ويسبب له ذلك ضررا معنوياً وفكرياً واجتماعياً. ومن ينقل منه دون عزو تعدى على حقوقه.
والبعض يعتبر هذا خللا بسيطا لإهماله ما كان غير محسوس، فهو في عينه بسيط ولكنه عند الله القاسط العدل ليس كذلك، فإنه تعالى لا يظلم أحداً، وهو مع المظلوم وسينصفه في كل حق له ضاع أو استلبه منه غيره. وسيعطي كل ذي حق حقه حتى ولو كان صغير. قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8). ولذا كان على المسلمين نصحهم وتصحيح هذه الأوضاع الخاطئة التي تتخلل صفحات الإنترنت والكتب والمباحث الإسلامية والعلمية والمواقع الإسلامية وشبكات التواصل والمنتديات العربية.
السكوت عن المصدر لا يبرئ الاختلاس
لا يعني السكوت عن المصدر وعدم ذكره أن ذلك يبرئ الناقل من جريمة الاختلاس العلمي، فالكاتب مطالب بالعزو في كل الأوقات، وهذه القاعدة يطبقها حتى غير المسلمين، وتدرس في دول الغرب كأساس من أصول الكتابة والبحث العلمي. فما بالنا نحن المسلمين لا نلتزم بها. وقد أمرنا النبي ﷺ بالأمانة، في قوله: (لا إيمانَ لمنْ لا أمانةَ لهُ، ولا دينَ لمنْ لا عهدَ لهُ)[5]. والأمانة العلمية هي جزء لا يتجزأ منها.
أمثلة للسرقات العلمية
ومن أمثلة ما يدخل في باب السرقات العلمية ما يأتي:
- سرقة الكتب والمقالات.
- سرقة البحوت العلمية وخطط البحث والرسائل العلمية.
- سرقة الأقوال وبثها في المقالات العلمية دون العزو لأصحابها.
- عزو التلاوات لغير قرائها.
- سرقة الأفكار دون الإضافة عليها ونسبتها لأنفسهم.
- سرقة موضوع الكاتب وتحويره ليبدو وكأنه منشور جديد، بينما صلبه هو نفس المحتوى والفكرة التي كتبها الكاتب الأصلى. فلا بأس أن يقرأ الناقل من هنا وهناك ليفتح ذهنه، ثم يستعين بالله ويكتب مقاله دون النقل من غيره. وإن نقل فعليه بالعزو والتوثيق العلمي.
مثال من الواقع
ومثال لذلك أن في يوم أرسلت خطة بحث لأحد المشرفين، وشاء الله أني غيرت الموضوع، وقال لي المشرف أنه أعطى خطتي لطالبة لأنه يحب أن يساعد الطلبة. فهذا المشرف قد ارتكب بفعله هذا مجموعة من الأخطاء التي لا تغتفر حتى ولو كانت نيته الخير، وهي:
- سرقة حقوقي الفكرية دون أخذ إذن مني.
- غش الجامعة، حيث ستقدم تلك الطالبة الخطة بإسمها وهي لم تحضرها.
- تنزيل مستوى مصداقية المؤسسة التعليمية التي يعمل بها.
- إن كان قبض مال من الطالبة على تلك الخطة فهو داخل من باب الرشوة والمال الحرام.
- يبدو من كلامه أنه لم تكن المرة الأولى، وأنه قام بفعل ذلك مع طلبة آخرين، والله أعلم.
- خلطه بين المساعدة والفساد، وبين المعروف والمنكر، وبين الحلال والحرام.
- ضرر الطالبة أكثر من مساعدتها، حيث هي ستلتزم بكتابة بحث لم تحضر له ولم تكتب الخطة بنفسها، والتي هي أهم خطوة في التحضير للبحث وتهيئة ذهن الباحث للكتابة في العنوان المختار التابع للخطة.
- والاسوأ من ذلك كله أنه ظلم نفسه في الآخرة، وكذلك جر معه الطالبة لظلم نفسها أيضاً، وذلك بأخذ ما ليس له بحق وإعطائه لما ليس له حق فيه.
- تدني المستوى العلمي بتسهيل الحصول على درجات علمية لأشخاص غير مؤهلين لها تماما. فمن يقبل على نفسه أخذ خطة غيره ليس مؤهل علمياً لأنه ليس محل ثقة ليؤتمن على العلم والفتوى ويحسب على العلماء.
- تقليل منزلته العلمية في أعين الطلبة، إذ كنت أكن له احتراماً كبيراً لمكانته العلمية، ولكن بفعله هذا تبين لي ضعف التقوى عنده أو الجهل أو كلاهما. ولم تعد مكانته العلمية عندي كما كانت، ولا شك أن ذلك سيحدث مع غيري من الطلبة. لذا ينبغي على المعلم أن يلتزم الأمانة ولا يقع في هذه الأخطاء الفاحشة. وليعلم كل معلم أن الطلبة يراقبون تصرفاته لا شعورياً، إذ هو لهم بمنزلة القدوة وله المكانة التي يتمنون الوصول إليها، فإن أخطأ اهتزت صورته وقل وزنه عندهم.
- ظلم الطلبة الآخرين، إذ لو ساعد أحد الطلبة لتفوق على أقرانه دون وجه حق، ولحل بهم نوع من الظلم لعدم التكافؤ في قياس الأداء، وذلك لأن تلك الطالبة تفوقت عليهم وسبقتهم وهي لم تحرك ساكناً سواء نسخ ولصق، بينما الطلاب الآخرون ساهروا الليالي ليتموا أعمالهم وخططهم، فأصبح هناك عدم تكافؤ في تقييم أعمالهم كصف.
- اختلاط الحابل بالنابل، فلو نقل الناقل كلام علماء كبار كابن القيم مثلا دون عزو ثم أضاف عليه من عنده شيء، لوثق فيه الناس وفي علمه بسبب ما نقله. ولكنه أضاف عليه من عنده ما هو ليس بنفس الدرجة من العلم والثقة، فيخلط ذلك الصحيح بالخطأ والقوي من القول بالضعيف. ولإختلطت المعلومات على القارئ.
- قد تحبط السرقات العلمية الكتاب الأصليين وتثبطهم عن الكتابة، إذ بعد اجتهادهم في الكتابة يأتي ناقل وينقل كتابتهم دون أدنى احترام لهم أو مراعاة لحقوقهم العلمية.
كيفية الكشف عن السرقات العلمية
كثيرا ما ينكشف أمر المختلسين في النقل بمجرد قراءة المحتوى، وكثيرا ما يفضحهم الله أمام الناس بأخطاء بسيطة، ويمكن الكشف عنها بما يلي:
- بسهولة يمكن نسخ النص والبحث عنه ليظهر منشورا في أماكن أخرى بتواريخ أقدم ولكتاب آخرين.
- التأمل في السياق ونمط كتابة الناقل، فعادة لا تجد تناسق كامل، وتجد فقرات بليغة كثيرا تنم على العلم العميق لصاحبها ولا تتناسب مع بقية محتوى المقال.
- عدم تناسب الأسلوب مع وتيرة بقية مقالات الناقل، فهي تنتمي لآخر، وكل كاتب عادة له حس وطعم في كتابته ويختص به.
- ذكر معلومة أو معلومات لابد أن يكون لها مصدر دون ذكر مصدر. ومن أمثلتها أقوال السلف أو تفسير لابد فيه من النقل مثل سبب نزول أو معنى كلمة يصعب عادة التخمين فيها.
ومنها حدث تاريخي، او قصة واقعية، أونحوه. فهذه الأشياء لا يستطيع الكاتب أن يقولها من عنده ولابد لها من مصدر عادة، فذكرها دون مصدر يعنى أن الكاتب نقلها من مكان بإختلاس دون عزو فيما يبدو.
- أحيانا قراءة سيرة الكاتب تبين إذا كان الناقل هو الكاتب الأصلي أو لا. ولا يمكن التأكيد بذلك وحده، ولكن لتقوية الأمور السابقة مجتمعة أو بعضها مع بعض. ومثال ذلك أن يفتي مهندس زراعي بتحليل أمر مستحدث أو تفسير ممرض لآية ونحوه. وهذا لا يستحيل، فهناك من أصحاب المجالات الدنيوية من تفقهوا في الدين، ولكن هذا مع البديهة ومجتمع مع من سبقه قد يساعد في تحليل إن كان النص أصلي أو مختلس. وأقواها النقطة الأولى وهي البحث عن النص في المصادر والإنترنت.
كيفية العزو والتوثيق العلمي
هناك طرق عالمية للعزو يتبعها جميع البحاثين والكتاب في العالم، وهي تدرس لطلبة الثانوية العامة في مدارس الغرب. وجميعها تهتم بذكر المصدر سواء كان كتابا أو مجلة علمية أو موقعا إلكترونيا أو قول قائل أو غيره، وذكر المؤلف والجزء والصفحة في التزييل، وفي البحوث العلمية يذكر الباب والتاريخ.
وأما في قسم المراجع والمصادر يذكر الكتاب والمؤلف ودار النشر والطبعة وسنة النشر والاسم الكامل للمؤلف وغيرها. وهذا معروف ومتعارف عليه في جميع أنحاء العالم، ولا ينكره إلا جاهل أو متجاهل بأصول الكتابة والحس العلمي وأدب الكاتب.
وطريقة التوثيق تعتمد على نوع النمط المتبع، وهناك نمطان مشهوران متبعان عالمياً، وكذلك يطبقان في رسائل الدكتوراة والماجستير، وحتى في المدارس والجامعات والبحوث العلمية والكتب وهما:
- أسلوب APA من الجمعية النفسية الأمريكية: هو “أسلوب كتابة وتنسيق للمستندات الأكاديمية مثل المقالات والكتب العلمية، ويشيع استخدامه للاستشهاد بالمصادر في مجال العلوم السلوكية والاجتماعية”[6]. “ويوفر أساسًا للتواصل العلمي الفعال لأنه يساعد الكتاب على تقديم أفكارهم بطريقة واضحة ودقيقة وشاملة”[7]. وأسلوب الـ apa هو المعتمد في معظم الرسائل العلمية والجامعات الأمريكية والعربية.
- أسلوب جمعية اللغات الحديثة (MLA) “تم تطويره كوسيلة للباحثين والطلاب والعلماء في مجالات الأدب واللغة لتنسيق أوراقهم ومهامهم بشكل موحد. تسمح هذه الطريقة الموحدة أو المتسقة لتطوير ورقة أو مهمة بالقراءة بسهولة”[8].
السرقات العلمية من منظور مقاصد الشريعة الإسلامية:
- السرقات العلمية فيها تضييع حقوق الكتاب والعلماء أصحاب الأقوال الأصليين، وفي ذلك إجحاف بحقوقهم وظلم لهم. وقد حرم الإسلام الظلم بين العباد. قال تعالى: {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} (الفرقان: 19). وروي عن النبي ﷺ فيما روى عن الله تبارك وتعالى، أنه قال: (يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا)[9]. وهذا يناقض مقصد التشريع.
- السرقات العلمية فيها تقليل من مصداقية الكتب والمنشورات العلمية، مما يفسد المكتبة الإسلامية. وهذا يناقص مباديء الصدق والأمانة، ويتنافي بذلك مع مقصد الآداب الإسلامية.
- السرقات العلمية تعطي العلم لمن لا علم له فيعتمد عليه الناس ويرجعون إليه في الفتوى والقول وهو ليس أهل لها. قال أنس بن مالك – رحمه الله -: (إنّ هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم)[10]. ويؤيده قول النبي ﷺ: (يحمِلُ هذا العِلمَ من كلِّ خلَفٍ عدولُه ينفونَ عنهُ تحريفَ الجاهِلينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الغالينَ)[11]. فيفتوا الناس برؤوس جهال، فيضلوا الناس ويهلكوا أنفسهم.
وقد حذر الله تعالى من التقول عليه بغير علم في عدة مواضع، منها قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: 36). وقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33). فلا يجب أن يتصدى لهذا الأمر إلا العلماء الذين أحاطوا بالأمر من جوانبه في الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ثم القياس لمن وهبه الله تعالى العلم الرباني. وهذا يتناقض مع مقصد التعليم. كما أنه ربما يروج لعقائد الناقل الفاسدة إن وجدت وتنشر الإنحراف العقدي بين العامة على أساس أن الناقل رجل علم يُعتد به وبأقواله، وهو ليس كذلك. فيتناقض هذا مع مقصد تصحيح الإعتقاد وتعليم العقد الصحيح.
- اختلاس حقوق الناس وكتاباتهم تزرع بذور الظلم والحقد بينهم وقد تجر لمشاكل كبيرة، حيث يتظلم الكاتب ممن يسرق كتابته فيحذ ذلك في نفسه ويحمل الضغينة على سارقه. وربما يجر لمشاكل لو لم يستطع الصبر عليها. وهذا ربما يتناقض مع مقصد وحدة الأمة وسياستها.
عواقب الاختلاس العلمي
لا يظن الناقل أن نقله ذلك سيعدي دون عقاب، فإما أن يقتص منه العدل في الدنيا أو يفضحه الله على رؤوس الأشهاد أو يقتص منه صاحب الحق في الآخرة. كما أن ما نقله واختلسه سيجر عليه ذنوب بدل من الحسنات، فإن الله طيب ولا يقبل إلا طيب. ولا يتوقع أن يقبل منه خير مع اختلاسه وظلمه. بل إن تعبه في النقل سيُحسب عليه لا له، ولو أنه وثق مقاله وعزاه لمصادره لنال أجر التوصيل وزاد في رصيد عطاءه العلمي ولكبر في أعين الناس.
التوصيات المقترحة
- لا بأس من النقل، بل هو نشر للخير والعلم المأمور به، ولكن ليحرص الناقل على العزو إلى المصادر الأصلية، حتى لا يضيع أجره ووقته ويسيء لسمعته فلا يهتم بقراءة منشوراته بعد ذلك أحد، لعلم الناس بتلك الصفة السيئة فيه، فيحكمون عليه بالترك.
- التزام الأمانة العلمية وعدة سرقة أقوال الآخرين، حتى لا يأتوا خصمائه يوم القيامة في حقوقهم العلمية، ولا يستهين بهذا الأمر، وليتذكر أن حقوق العباد لا تسقط إلا بعفوهم.
- أحياناً يؤجل الكاتب العزو لبعد الإنتهاء من مقاله، ولكن كثيرا ما ينسى فيما بعد من أين نقل المعلومة، فيقع بذلك في خطأ فادح. ولذا عليه التنبه والعزو في لحظة النقل.
- الأفضل للكاتب ألا يكون مجرد ناقل، وأن يضيف شيء ولو قليل ينفع الناس به ويغني به موضوعه. وإن نقل ألا يكون معظم موضوعه نقل، وسأخصص كتيبا آخر للحديث عن آداب الكاتب وما يلزمه.
وأختم القول بإن الكتابة سلاح مهم للمؤمن للدعوة إلى دين الله ونشر الخير ونصرة الإسلام. وهي مصدر للأجر العظيم الذي لا ينقطع بعد موت الإنسان. فكل ما سطّره الإنسان إن أخلص فيه النية وصح فيه القول ونفع به الناس كان مصدر دخل له من الحسنات التي تفعه عند الله، يوم لا ينفع مال ول بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم. فأوصي نفسي وإياكم يا كتبة الإسلام وحماته أن تحرصوا على العزو ولا تظلموا العلماء والكتاب وتجحفوا بحقوقهم الفكرية والعلمية. بل انتفعوا بما كتبوا مع العزو إليهم، وأضيفوا إليه وأوصلوه للناس … نفعكم الله ونفع بكم ورزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل والقبول منه.