من أكثر ما يؤخذ على البنوك الإسلامية، محاولاتها المستميتة في التخلص من المخاطرة كليا، وتجلى ذلك في جنوحها إلى البحث عن الاستثمار الآمن الذي لا خسارة فيه.
وهذه الرغبة في التخلص من الخسارة، ليست محرمة ولا ممنوعة في ذاتها، فليس في ديننا ما يفرض على صاحب المال أن يبحث عن المتاعب، ولا ما يوجب عليه أن يُعرِّض ماله للخسارة، بل على العكس من ذلك، فإن من الأسباب التي ندب الشرع إلى التجارة من أجلها، تفادي تآكل المال، حتى وإن كان تآكله بسبب الزكاة، فعن عمر رضي الله عنه قال : ” اتجروا فى مال اليتامى لا تأكلها الزكاة “.
كما أن الدين نفسه ينهى عن إضاعة المال. فعن المغيرة قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ،ووأد البنات، ومنع وهات. وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» [متفق عليه]
وأظهر من ذلك أن الحفاظ على المال أحد الكليات الخمس التي اتفق العلماء على الحفاظ عليها، ومن وسائل الحفاظ على المال، تثميره، وصيانته عن الخسارة.
مكمن المشكلة
لكن تكمن المشكلة حينما يريد أحد المتعاقدين أن يجنب نفسه الخسارة ويحملها على الطرف الآخر، فإن الخسارة واقعة في الدنيا لا محالة، فمهما أُحكمت الدراسات، فستتعرض بعضها لخسائر حقيقية، ومن يتصور أن كل الخطط الاستثمارية ستتوج بالنجاح، لا يعرف عن الدنيا ولا الاقتصاد شيئا.
فإذا كانت الخسارة قدرًا لازما في بعض الخطط الاستثمارية، فإن عدالة الإسلام تقتضي توزيعها وتفتيتها على أطراف المعاملة التي أنتجت هذه الخسارة، توزيعا يتحدد حسب طبيعة التعاقد الذي جمع بين هذه الأطراف.
من هنا يكمن النقد الموجه للبنوك الإسلامية أنها تريد في حالة الخسارة ألا تتحمل فيها شيئا.
الوعد الملزم
ففي بيع المرابحة للآمر بالشراء، تخوفت البنوك الإسلامية من رفض العميل تنفيذ صفقة المرابحة بعد طلبها من البنك، وهذا يعرض البنك لخسارة بيعها في السوق لمن يطلبها؛ وذلك سيكون بخسارة في الغالب، فاتجه التفكير إلى أن يكون وعد العميل ملزما له، لا يسمح له بالنكول عن تنفيذ ما وعد به.
وفي المرابحة أيضا، تخوفت البنوك الإسلامية من ظهور عيب في سلعة المرابحة، فاتجهت إلى التفكير في البيع مع البراءة من العيوب.
المماطلة والشرط الجزائي
وفي عقود المداينات تخوفت البنوك الإسلامية من مماطلة العميل، فكان السؤال عن مشروعية وضع غرامات التأخير، إلا أن مجمع الفقه الإسلامي الدولي قرر حرمتها، فبدأت في التفكير في وضعها دون الاستفادة منها، بأن توجهها إلى جهات البر. وبعض البنوك الإسلامية للأسف تضع غرامات تأخير بناء على رأي هيئاتها الشرعية.
وفي عقود المداينات أيضا، كان التفكير في قلب الدين على العميل المعسر عند تعثره عن السداد، إلا أن مجمع الفقه الإسلامي الدولي حرم هذه الفكرة كذلك.
الخسارة والمضاربة
وفي المضاربة تخوفت البنوك الإسلامية من خسارة العميل إذا ضارب في أموالها، حيث إن الخسارة حينئذ ستتحملها البنوك شرعا، فكان التفكير في عدد من الإجراءات، بعضها لم تجزه الهيئات الشرعية ولا المجامع الفقهية، مثل تحميل المضارب الخسارة في كل الأحوال.
وبعض هذه الإجراءات أجازتها الهيئات الشرعية ، لكنها لم تكن كفيلة بدرء الخسارة عن البنوك وقت حدوثها، فكانت النتيجة في تقلص صيغة المضاربة في البنوك الإسلامية إلى ما نسبته 2% من حجم المنتجات المالية التي تقدمها البنوك الإسلامية.
بل إن البنوك الإسلامية حديثة النشأة، مثل بنك التمويل المصري السعودي ( البركة حاليا) لم يستخدم صيغة المضاربة من الأساس لارتفاع درجة المخاطرة بها.
والأمر لا يختلف كثيرا في صيغة المشاركة عن المضاربة، من حيث التوجه إلى تقليص العمل بها والبعد عنها، ليصل حجم العمل بها إلى نسب متدنية تضاهي نسب المضاربة.
السَلَم
ولم يختلف الأمر في السَلَم، حيث أثبتت دراسة حديثة أن نسبة حجم التمويل بالسَّلم كانت (0.02%) من حجم التمويلات الإسلامية لسنة 2010 .
فقد كان تخوف البنوك الإسلامية من تطبيق عقد السلم، هو أن البنك سيحصل مقابل رأس مال السلم على سلع وبضائع، فكيف يقوم بتسويقها؟ وكيف يحقق هذا التسويق ربحا له؟ إنها مخاطرة لا يريد البنك أن يتحملها!
وفي هذا الصدد قدم المنظرون السلم الموازي حلًّا لمشكلة التسويق، فلم ينجح هذا الإجراء في حل المشكلة.
فاقتُرح أن يوكل البنك المسَلمَ إليه ببيع سلعة السلم بسعر يحدده البنك، فقوبلت هذه الصورة بتحريم هيئات الفتوى.
فاقترح أخيرا السلم المنظم، فقوبل بالتحريم، فكانت النتتيجة كما ذكرنا توجه البنوك الإسلامية إلى تقليص العمل بهذا المنتج، الذي كان يظن المنظرون أنه سوف يكون المنتج الأكثر منافسة للقرض الربوي.
والمشكلة نفسها بتفاصيلها وجدت في عقد الاستصناع، حيث يحمل العقد مخاطرة بيع السلعة المستصنعة، ومخاطرة بيعها بربح، وقدمت الاقتراحات السابقة في السلم، ووجهت بما ووجهت به هناك، فكانت النتيجة توجه البنوك الإسلامية إلى تقليص العمل بهذا المنتج.
التورق المنظم
التورق المنظم هو ” أن يتولى المصرف ترتيب الحصول على النقد للمتورق، بأن يبيعه سلعة مخصوصة بأجل، ثم يبيعها نيابة عنه نقداً، ويقبض الثمن من المشتري ويسلمه للمتورق”.
ويمتاز التورق المنظم بأنه يجنب البنك الخسارة والمخاطرة، فالسلعة التي يتم التورق عليها، يتفق عند شرائها مع الجهة التي سوف تشتريها بخسارة يتحملها طالب التمويل، فلا توجد خسارة محتملة للبنك، إلا خسارة مماطلة العميل فيما بعد أو تعثره.
وبعض البنوك الإسلامية تتعامل وفق هذا المنتج لأن هيئاتها الشرعية تجيزه لها، برغم تحريم المجامع الفقهية له.
وبالجملة، فمحاولات البنوك الإسلامية المستميتة في التخلص من المخاطرة كليًّا أدخلها في نفق التمويل بالديون، كما أدخلها في نفق الحيل والمخارج التي من الصعب أن يتفق العلماء على جوازها، وإن وافقت عليها بعض الهيئات الشرعية.