لقد خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم، ووهبه بنية قوية وعقلًا ذكيًا وسرعة بديهة تؤهله لتحقيق الخلافة في الأرض. يتقلب الإنسان في هذه الحياة من مرحلة إلى أخرى منذ أن تُنفَخ فيه الروح وهو في بطن أمه، ثم يُولَد ويمر بفترة الطفولة والمراهقة والشباب، ثم ينتقل تدريجيًا لمرحلة الشيخوخة. فيصيبه الهرم والوهن، ويضعف جسمه ويصير قديمًا ومنهكًا مثل الثوب البالي أو العربة المستعملة لسنوات طويلة. قال تعالى: ﴿ ‌اللَّهُ ‌الَّذِي ‌خَلَقَكُمْ ‌مِنْ ‌ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾ [الروم: 54].

فبين تعالى أن الإنسان يبدأ من ضعف الطفولة إلى قوة الشباب ثم يعود إلى الضعف مرة أخرى في الكبر. وهذه مرحلة لابد وأن يمر بها كل إنسان لم يمت قبلها. لذا، كان حريًا بكل إنسان أن يتحضر لها حتى يستطيع تجاوزها بسلام إلى أن يسلم الروح لبارئها. ويفضل أن يبدأ بالتحضير منذ الشباب؛ لأنه لو انتظر قدومها ربما لن تكون لديه القدرة على ذلك من شدة الضعف.

مرحلة الشيخوخة

هي مرحلة حرجة في حياة الإنسان وامتحان صعب له ولمن حوله من أقارب وأبناء. تقل فيها قوة تحمله وتضعف بنيته. يصيب كبار السن أمراض عضال مثل الضغط والسكري والفشل الكلوي والسرطان وغيرها. ويضعف قلبه ورئتاه فلا يعودان يتحملان الإرهاق. كما تضعف عضلاتهم وتصيبهم أمراض المفاصل وهشاشة العظام والروماتيزم. لذا، تجد الكبار يتعبون من أقل مجهود بدني، فلا يتحملون العمل ولا كثرة الخروج أو السفر، ولا تقوى أبدانهم على مفارقة الفراش.

الشيخوخة

بالإضافة إلى ضعف سمعهم وبصرهم، فتقل مخالطتهم للناس بسبب ذلك. معظمهم يبقون في البيوت ولا يخرجون منها إلا ما ندر. لذا، كان على ذويهم الترفق بهم ورعايتهم ومؤانستهم وعدم إهمالهم. هذه الوصية خاصة للأبناء والبنات، فالكبار في تلك الأيام الصعبة يشعرون بالوحدة والانعزال ويحتاجون للرفقة والأنس. تتوق أنفسهم لرؤية أبنائهم وأحفادهم خاصة، فهم أحب الناس إليهم وأقربهم إلى قلوبهم.

متطلبات رعاية كبار السن

رعاية كبار السن تتطلب من ذويهم القيام بكثير من الأعمال التي يقوم بها الأصحاء. يحتاجون من يقف على أكلهم وشربهم والعناية بنظافتهم وصحتهم، وربما لا يستطيعون حتى قضاء الحاجة بدون مساعدة. يسبب ذلك توترًا لهم وتسوء حالتهم النفسية، وربما يصعب التعامل معهم أحيانًا. وهذه كلها مهمات صعبة تتطلب صبرًا كبيرًا ومجهودًا بدنيًا وقوة عضلات حتى يستطيع المرء تحملهم والعناية بهم وتنظيفهم وحملهم من وإلى الفراش وتغيير ملابسهم. إطعامهم عادة يحتاج مجاهدة لضعف شهيتهم للطعام وقلة أكلهم. يقاومون من يحاول إطعامهم أو تحسين أوضاعهم. يقلق الأبناء عليهم ويشفقون ويهمهم الأمر، لا سيما عند نقص أوزانهم.

بالإضافة إلى انشغال البال والقلق والتوتر النفسي المصاحب لرعايتهم، هناك تكاليف العلاج والطعام والأدوات الطبية والمستشفى وأجرة الممرض، والتي عادة ما تكون باهظة التكلفة. يصبح كبير السن عبء ذهني وبدني ومادي على الفرد، يحتاج للصبر وقوة العزم. فلا يتحمله إلا المسلم التقي الذي يخاف الله تعالى. لذلك تجد كثير من المسنين مهملين في البيوت أو حتى ملقون في الشوارع، وبعضهم يودعون في دور العجزة. هذا يكثر في بلاد الكفر. أما بلاد المسلمين، بفضل الله ثم بصبر المسلمين وسعيهم في رضا الله، تجد كبار السن في أوضاع أفضل.

حق المسنين في الرعاية

رعاية الوالدين المسنين جزء لا يتجزأ من البر الذي أمر الله به. إهمال الأبناء لهم ينافي ذلك البر وفيه من الظلم وتناسي الجميل. قال تعالى: ﴿ ‌وَقَضَى ‌رَبُّكَ ‌أَلَّا ‌تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: 23]. كبار السن أغلبهم كانوا آباء وأمهات قاموا برعاية أبنائهم في صغرهم وتعبوا معهم وصرفوا وقتهم وجهدهم عليهم. كان من حقهم أن يرعاهم الأبناء في كبرهم كما رعوهم هم في الصغر. يفضل للمسلم أن يشمر ويحضر نفسه ويهيئها لهذه المرحلة من حياة أبويه. تلبية لأمر الله تعالى الذي قال في سورة البقرة: (بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).

معاناة كبار السن

كرر القول نفسه في سور النساء والأنعام والإسراء، مما يدل على التأكيد على الأمر. فلا يسع مسلم بعدها أن يعق والديه أو يقصر في حقهما أو يتنكر لهما أو يؤذيهما بالقول أو الفعل. ينبغي أن يرعاهما خير الرعاية ولا يهملهما في الكبر لأنهما طريقه للجنة. هذه وصية الله تعالى بهما، وهما أولى بالرحمة والرفق والاحترام من غيرهما، لاسيما بعد كل ما فعلاه لأجله في الصغر من عطاء لم ينقطع وحب دون مقابل وسهر وتعب وشقاء.

تعاون الأبناء في الرعاية

الأفضل أن يتشارك الأبناء في رعاية والديهم، فلا يلقون حملها على واحد منهم. لأنها مهمة كبيرة ويصعب تحملها على فرد واحد. تتطلب عادة تعاون الأبناء بالتناوب والمشاركة لتسهيلها وتقليل التكلفة وكمية العمل. فهذا أقرب للعدل بينهم. كما أن العمل الجماعي يشرح النفوس ويجعل المهمة ممتعة بدلاً من ثقيلة ومملة. سيتشاركون الأجر بذلك العمل القليل. مثال على ذلك: جدتي كانت في كبرها تقضي أسبوعًا مع أمي وأسبوعًا مع خالتي حتى توفاها الله. كان ذلك يفرح الأحفاد وينتظرون مجيئها ويرحبون بها. فيه تسلية كبيرة لها وتخفيف العمل على أمي وخالتي. رحمهم الله جميعًا.

التحضير لمرحلة الشيخوخة

ينبغي للإنسان أن يحضر بنفسه لمرحلة شيخوخته. رغم أن الكثير من الناس يموتون صغارًا، إلا أن الموت في الكبر هو الغالب. لا يدري الإنسان متى يأتي أجله، لأن الله تعالى أخفى موعده عن الناس لحكمة. قال تعالى: ﴿‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌عِنْدَهُ ‌عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: 34]. مرحلة الكبر صعبة على الإنسان، لا يقوى فيها على العمل. يصعب عليه حتى العناية بنفسه. لذا، كان عليه أن يعمل على التحضير والتهيؤ لها طيلة حياته.

ذلك بتوفير المال اللازم وتدبير السكن المناسب، ليستقطع مما كسبه في شبابه ليعينه على توفير احتياجات وقت الكبر من مأكل ومشرب وملبس ومأوى ودواء وغيرها. يمكنه أيضًا توفير أدوات صحية وشرائها مبكرًا مثل العكاز والكرسي المتحرك وتوليت السرير والمسواك وغيرها مما يستعمله كبار السن. ذلك تحوطًا لما قد يطرأ على صحته من أمراض وعجز في كبره. فيستطيع بذلك أن يحفظ نفسه من سؤال الناس وطلب العون منهم.

الأفضل أن يهيئ له منزلاً صغيرًا لإيوائه إن استطاع، حتى ولو كان غرفة واحدة. ليقلل من متاعه فيه ويحصره للضروريات؛ لتسهل عليه الحركة فيه وترتيبه والعناية به. يفضل أن يعوِّد نفسه على ذلك البيت ويدربها لمعرفة أماكن الأشياء واستعمالاتها فيسهل عليه إيجادها عند الحاجة. يمكنه ذلك من تدبير كل أموره أو جلها بنفسه في كبره دون الحاجة لطلب العون من أحد. ذلك أحفظ لكرامته وأهنأ لعيشه. كما أنه أقل مشاكل وتكلفة وأكثر هدوءًا وفرصة للراحة. فلا أحد يستطيع أن يمن عليه بعد ذلك بالمساعدة ولا يعرض نفسه لظلم الناس وذل السؤال.

رأينا في مواقع التواصل حوادث كثيرة عن أذى المسنين، كم من ابن عاق في هذا الزمان يذيق والديه صنوف العذاب والذل في تقديم تلك المساعدة التي لا تساوي إلا جزء صغيرًا جدًا مما قدماه له في صغره. للأسف، نرى مثل تلك الصور المشينة في بعض بيوت المسلمين.

تحضير الأبناء لشيخوخة آبائهم وأمهاتهم

ينبغي للمسلم العناية بوالديه في كبرهم كما كان يرعاهما في شبابهم. يفضل له استقطاع جزء من ماله للاستعانة به في العناية بهما عند كبرهما. أن يهيئ جزءًا من جدول وقته لزيارتهما ومعايدتهما وتوفير ما يلزمهم من طعام ولباس إن لم يكن لديهم مال. الأفضل أن يقوم الأبناء بذلك بأنفسهم لأنهم أرحم بوالديهم من غيرهم. وجود الأبناء حولهم يخفف عنهم الضيق والوحدة.

عيش المسنين مع الأولاد

في معظم البيوت، يعيش الوالدان مع الأبناء. هذا هو الأفضل والأقرب للرحمة وبر الوالدين ورد الجميل. فيه تسلية لهم. ومع ذلك، كثيرًا ما تحدث مضايقات ومنافرات بين أسر الأبناء ووالديهم. يأتي هذا الشر كثيرًا من زوجات الأبناء في معاملة حمواتهم، كما يأتي أيضًا من الأبناء والأقارب الآخرين. تجد إساءة معاملتهم وإهمال أكلهم ونهرهم وربما ضربهم. هذا منكر كبير، ولا ينبغي أن يحدث في بيوت المسلمين.

الإسلام دعانا للصبر والتعاون والرفق وبر الوالدين واحترام الكبير والكرم والتسامح ولين الجانب وكظم الغيظ وغيرها من كريم الأخلاق. لا ينكر أحد أن المسنين أحيانًا يكونون صعبين المراس وعنيدين، لكن لا يعطي ذلك عذرًا لأي إنسان لأن يؤذيهم أو يعذبهم ويسئ معاملتهم. فالصبر والرحمة والرغبة في الأجر جبر لكل ذلك. فليتقي الأبناء الله في أهليهم ويحسنوا رعايتهم وصحبتهم. ولتتق الله الزوجة في والدي زوجها وليتق الله الزوج في والدي زوجته.

تعيين الممرضين

في بعض العائلات الميسورة الحال، يتم تعيين ممرض لرعاية المسنين. يتطلب هذا أن يهيئ ذوي المسن له وللمرض غرفة أو مطرح خاص بهما وبمستلزمات الرعاية الصحية. في هذه الحالة، يجب أن تتخير الأسرة ممرضًا ذو دين وخلق حتى يخاف الله تعالى في تعامله مع المسن. فقد رصدت الكاميرات حالات من سوء تعامل الممرضين والخدم مع كبار السن، وكان ذلك في شكل إهمال أو ضرب أو شتم أو تجويع أو غيرها من صنوف الأذى. الأفضل أن يكون الممرض مسلمًا ومحل ثقة وذو علم بعمله. الأفضل وضع كاميرات مراقبة في الغرفة لتتبع ما يحدث وكشف أي جرم يحدث في الخفاء في حق المسنين حتى يتم إنقاذهم وتصحيح الوضع بسرعة.

دور المسنين

في بعض المجتمعات، يذهب كبار السن إلى دور المسنين، وهذا يكثر في بلاد الغرب. رغم أنها ليست الوضع الأمثل لهم لأنهم عادة يحبون أن يكونوا بين أبنائهم وذويهم، إلا أنها أحيانًا قد تكون حلًا. ذلك في حال كانوا مهملين في البيوت وتسوء معاملتهم ويضربون، أو إذا لم يكن هناك من يرعاهم ويقوم عليهم. بعضهم ليس لديهم أبناء أو أقارب يعتنون بهم. يجدون الرعاية الصحية الكافية في هذه الدور والاهتمام بصحتهم ونظافتهم. كما يجدون الفرصة للخروج والترويح والحركة برفقة من هم مثلهم في العمر. هذا إذا كانت الدار جيدة ونظيفة وصحية وبها عاملون طيبون. هناك بعض الدور تكون سيئة ومتسخة وغير صحية، ولا يُنصَح بها. رغم أن هذه الدور تكون عادة مكلفة الثمن، إلا أن تعيين ممرض في البيت قد يكون أعلى تكلفة وأكثر زحمة وضيق في البيت، مما يجلب المشاكل بين أفراد الأسرة.

كبار السن

حق الصلة والسؤال

على الأبناء السؤال عن والديهم المسنين وصلتهما والتودد إليهما ورحمتهما وبرهما. في هذا أجر كبير هم بحاجة ماسة له في الآخرة. هما طريقهم السهل للجنة. وقد وصى الله تعالى بالصبر عليهما وعدم التذمر منهما لاسيما إذا بلغا سن الكبر. قال تعالى: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا).

فلا يسع المسلم أن يتضايق منهما أو يتأفف حتى لو تثقل رعايتهما وتصعب. هما بحاجة لمن يساعدهما في كل شيء وربما حتى على الأكل والنوم وأخذ الدواء، فليتحمل المرء ويصبر طاعةً لله وخوفًا من عقابه ثم ردًا لجميلهما. كم سهرا عليه وتعذبا بسببه وشقيا وصارعا الحياة وضغوطها ليكبر هو ويسلم ويصير على ما هو عليه ليتبسم في وجهيهما؛ فهما بحاجة لذلك.

المرء في كبره يصير كالطفل الصغير الذي يحتاج الحب والرفق واللين والحنان. فأطب رفقتهم وطيب كلامك معهم واصبر على ثقل وزنهم وصعوبة أخلاقهم وردود أفعالهم غير المتوقعة وتحمل تكاليف العناية بهم عن طيب خاطر. كل ذلك يجلب رضى الله الذي لا ينسى معروفًا ولا يضيع عمل عامل بخير.

يا لحظ من فاز بذلك الفضل قبل موتهما واستغل تلك الفرصة لينال الأجور السهلة. قال تعالى: ﴿‌فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ [آل عمران: 195]. تذكر أنهما سيموتان عاجلًا أو آجلًا، وأن ذلك الوضع الذي يتعبك لن يدوم طويلًا. استغل وجودهما وتمتع به لأنك ستفتقدهما بعد موتهما حتى لو أصابهما الخرف والعجز وقلة الإدراك. وجودهم في البيت رحمة ودفء، يعرف قيمتها من فقدهما ويبكي بحرقة على ذهابها. نسأل الله تعالى أن يخفف عن كبار السن ويعينهم على الحياة ويعين أبناءهم على رعايتهم وبرهم.