مازال الغرب مجهولا، حقيقة تفصح عن نفسها باستمرار مع تمدد الحضور الغربي كنموذج لغالبية سكان هذا الكوكب، فهو مجهول معرفيا بقدر احتجابه مكانيا عبر تقييد الهجرة إليه، وتصبح كل محاولة جادة للاقتراب من فهمه كنموذج وفكرة تستحق الاهتمام، ومن هنا تأتي مجلة “الاستغراب” الصادرة عن المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية في بيروت، للتعرف على الغرب ومناهجه وأبنيته الفكرية والثقافية والأيديولوجية وإعادة قراءتها بروح نقدية.
والواقع أن الحاجة إلى علم “الاستغراب” لا يتأتى فقط من فهم الغرب فقط، ولكن تصبح الحاجة ماسة إليه لفهم النخب العربية والإسلامية المتصدرة للمشهد الثقافي والسياسي والاجتماعي وتريد أن تفرض نموذجها الإيديولوجي الغربي بسطوتها ونفوذها.
ويختلف علم “الاستغراب” الناشئ عن علم “الاستشراق” القديم، في أن “الاستغراب” يهدف إلى فهم الغرب بشكل أكثر تفصيلا وبروح نقدية للتواصل معه والانفتاح عليه، أما “الاستشراق” فكان ذراعا معرفية للاستعمار في بعض مراحله التاريخية.
وفي العدد السادس من “الاستغراب” الصادر في شتاء 2017، خصص دراساته ومقالات وجدالاته التي تزيد على العشرين لمناقشة “الإيدولوجيا” مفهوما واصطلاح وممارسة وفكرا ونقدا، على صفحات تقترب من الأربعمائة، وهو ما يمنح العدد أهمية، وبعيدا عن التناول التقليدي لفهرست المجلة، سنتوقف عند بعض القضايا التي تناولها هذا الاقتراب المكثف للأيديولوجيات في الرؤى الغربية..
الإيدولوجيا…الجاذبية الإنسانية
الإيدولوجيا موجودة في الشعور قبل أن تسري في عالم الأفكار، فهي تجبر معتنقها أن يصب مشاعره في أفكار وكلمات لتتحول بعد ذلك إلى مصالح، فالتحيز دائما ينشئ قاموسه ومصطلحاته ويحدد مصالحه، ويحدد من هو الصديق ومن هو الآخر والعدو، فهي حاضرة في نفس الإنسان حضور الجاذبية في باطن الأرض لا نراها لكننا لا نخرج عن سيطرتها.
تحتاج الإيدولوجيا إلى الضد لتنمو، أعلنوا موتها رغم أنها حية تسعى في العقول وأروقة الحكم وخلف الشاشات وبريق الكلمات، لم تمت الإيدولوجيا لأنها تضرب بجذورها في باطن الرأس وعميق الوعي، وفي عالم تكثر فيه الأضداد، تزدحم -أيضا- فيه الإيديولوجيات، فهي تشبه العدوى في انتشارها.
ويبقى تعريف الإيدولوجيا مشكل معرفي لأنه غير مستقل عن ذات الإنسان، لذا فهي عين التحيز، كما أنها مصطلح متعدد الأوجه بقدر تعدد القضايا والأضداد، وهي مصطلح لا يُعرف له تاريخ ولادة، لكن بداية نحته كمصطلح جاءت على لسان عالم الاجتماع الفرنسي “دستوت دو تريسي” المتوفى (1836م) إذ جعلها مفتاحا يُستدل منه على منطق عمل الأفكار التي يحملها الناس في نشاطهم الاجتماعي، لذا تحلق الإيدولوجيا فوق العلوم، لأن العلوم ليست إلا الأفكار، فهي مفهوم متحرك على الدوام لا يختفي حتى يظهر ومع ظهوره يتكاثر، اهتزازاته هي إعلان عن ولادات لإيديولوجيات جديدة.
الإيدولوجيا لا تكتفي بأن تسند خدها على راحة يديها لتشاهد العالم؛ فهي لا تقنع بالتفسير، ولكن حماستها تقنعها بضرورة تغيير العالم، فهي قادرة على الفعل والتحريك والإثارة، انتقدها “كارل ماركس” لأنها ترسم وعيا كاذبا، لكنه لم يجد غيرها مكانا صالحا لزرع أفكاره.
الإيدولوجيون يستحون أن يصفوا أنفسهم بأنهم أيديولوجيون، لأن الإيدولوجيا دائما موجهة ضد الغير، فهي لا تصحو من نومها وسباتها إلا في حضور الغيرية، لذا دائما لغة الإيدولوجي فضفاضة زئبقية لغة تتحسس الآخر قبل أن تعبر عن نفسها، الآخر حاضر بين حروفها ونبراتها، وهو ما يجعلها متعددة الصفات لتعدد الفاعلين، حتى صرخ بعض الفلاسفة الغربيين “أنا الإيدولوجيا” بعدما صارت لا تنفصل عن حاملها، فهي لا تمل من التكرار ظنا منها أن ذلك يرسخها في الأذهان.
لا تترك الإيدولوجيا التاريخ والوقائع دون أن تُسبغ عليها كلماتها وأفكارها لتعيد تقديمها مرة أخرى، ومن يقع في محيط جذبها لا يقوى على مقاومة سحرها، ينحصر قاموسها وكلماتها في الواجب، وتظن أنها والحقيقة عاشوا في رحم واحد، فهي فلسفة الجميع ليس من أحد إلا واردها، ومغترفا بيده من نهرها.
الإيديولوجيا..رحلة المفهوم
رحلة طويلة قطعتها الإيدولوجيا كمفهوم بين بداية نحتها عام 1796م على “تراسي” إلى ووردها في مؤلفات كارل ماركس 1845م، انتقل فيها المفهوم من كونه قيمة إيجابية (كعلم عام للأفكار) ليتحول إلى قيمة ذات مفهوم سلبي تعبر عن نظام اجتماعي لمعتقدات صارمة، لتبقى الحقيقة أن التمثلات الاجتماعية للمفهوم هي التي تمنحه الإيجابية والسلبية، فالشيوعية والنازية أسبغت كراهية للمفهوم بقدر انتهاكاتها ودمويتها، أما الليبرالية فمنحته بريقا وجاذبية استنادا إلى معيار الإنجاز، وكثافة الدعاية.
جاءت عملية استبدال الميتافيزيقيا (الغيبيات أو ما وراء الطبيعة) مع الثورة الفرنسية، بالاستخدام المكثف للأيدولوجيا في مجال التربية، فعندما ظهرت المدارس العامة التي يشرف عليها المجتمع وأجهزته، كان الهدف هو إدارة العقول بعدما ابتعدت الكنيسة عن المشهد، وفي تلك الفترة لعبت الإيدولوجيا دورين، أحدهما أنها كانت قيمة ثورية تخدم قطاعات الشعب الثائر، ومن ناحية أخرى أنها تعيد تنظيم المجتمع من جديد بعدما زال سلطان الكنيسة، فظهور الإيدولوجيا كان تمردا على الفلسفات الدينية، ومن ثم أصبح الاهتمام بالوجود الأرضي للإنسان اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا هو غاية الفلسفات التي ظهرت في تلك الفترة، ومن ثم كانت الإيدولوجيا وليدة النزعة الإنسانية في أوروبا في القرن التاسع عشر.
الإيدولوجيا في الدين والسياسة
هي يمكن اعتبار الدين أيديولوجيا؟ وهل يختص الدين بالمجتمعات التقليدية المتجانسة، أما الإيدولوجيا فتخص المجتمعات العصرية والمتقدمة والقائمة على التنافس والصراع؟ وهل الإيدولوجيا هي دين الحداثة القائم على مركزية الإنسان؟ وهل يلتقي الدين والإيدولوجيا في أنهما يهدفان إلى وضع تصور كلي وشامل للعالم، مع الرغبة في تغيره؟
إشكالات كبرى ناقشتها “استغراب”ووجهات نظر متعددة عرضتها، لكن تبقى المصدرية فارق كبير بين الدين والإيدولوجيا، فالدين إلهي مقدس متعال، أما الإيدولوجيا فبشرية، والدين قائم على المطلق، أما الإيدولوجيا فترتكز على الكثير من الأوهام، كذلك فإن فراغ الدين لا يمكن أن تملئه الإيدولوجيا، وقد تنبه المؤرخ الكبير أرنولد توينبي إلى ذلك فقال:”من يعتبرون الدين سرطانات مخطئون، لأن السرطان الحقيقي هو أن تحل الإيدولوجيا محل الدين”.
وخبرة الإنسان تشير أن الإيدولوجيا هي أداة الطبقات الحاكمة والمسيطرة لتبرير الوضع القائم، أما الدين فالمفترض أنه ملاذ الناس بحثا عن العدل، ويسعى البعض إلى أدلجة الدين للاستفادة من طاقاته الروحية لخدمة الإيدولوجيا وللحيلولة دون ثورات دينية، لذا ظهر في أوروبا “نظرية الحق الإلهي المقدس”، أضف إلى ذلك أن الإيدولوجيا في الغالب لها موقف سلبي من الأخلاق، في حين أن الدين يستند ويدعو للأخلاق، ورغم ذلك فالإيدولوجيا قادرة على استخدام الدين وتوظيفه لتحقيق مصالحها وأهدافها.
لا سياسة بلا إيديولوجيا، ذلك هو ملخص العلاقة بين الإيدولوجيا والسياسة، فهما شديدا الارتباط، فالإيدولوجيا في جوهرها مقولة سياسية، وهي المفهوم الأساسي في علم السياسة، فهي ما خلقت إلا للسياسة، لذا أممها باحثو السياسة لصالحهم، فهي تساعدهم في تقدم التبريرات المختلفة للعمل السياسي، ويستخدمونها في عمليات التعبئة الجماهيرية، لكن أخطر ما تقوم به هو إخفاء الأهداف الحقيقية والدوافع الذاتية وإبدائها وكأنها مصالح الجميع.
هل الديمقراطية منتج أيديولوجي؟
إشكالية كبرى طرحتها “الاستغراب” إذ يرى البعض أن الديمقراطية هي الأساس النظري والإطار الواقعي لنشوء غالبية الأيديولوجيات، فالليبرالية والفاشية والقومية والنازية وغالبية النظريات الحديثة هي وليدة الديمقراطية، فالمنظرين الُأول للفكر الديمقراطي يرون أن الحقيقة قضية نسبية، وكذلك استحالة تلقي الحقيقة المطلقة، لذا لجئوا إلى الأكثرية كمعيار للحقيقة، وهو ما يكشف مركزية المعيار الكمي للديمقراطية، والديمقراطية عندما تتنزل في أنظمة سياسية فإنها تجسد عدد من الطبقات الاجتماعية التي تمسك السلطة والثروة والتأثير.
“الديمقراطية أفضل نظام فكري سياسي واجتماعي” مقولة تروج بلغة يقينية تقترب من أن تكون أيديولوجية، وهو ما يناقض أساسا فكريا في الرؤية الديمقراطية وهي غياب المطلق، والحقيقة أنه من الصعب قيام أي معيارية أخلاقية في المنظومة المعرفية المادية، فالحقائق وفق تلك الرؤية منفصلة عن القيمة، فهذه الرؤية وضعت الإنسان كمركز للكون، ومن ثم أصبح الصراع هو قانون الحياة، والبقاء للأصلح هو النتيجة الحتمية لهذه الرؤية، وأنتجت هذه الرؤية أن الإنسان الأبيض هو مركز الكون، وصار ذلك الوهم الكبير إيديولوجية، لذا كانت فكرة الصراع في قلب النموذج الغربي معرفيا وأخلاقيا.
ولكن هل القول بأفول الإيدولوجيا، وانتهاء السرديات الكبرى، يهدف إلى الترويج لليبرالية كأفق فلسفي واسع للإنسان، ومن ثم تحويل الليبرالية إلى إيديولوجيا، حيث إن الليبرالية تحمل خصائص الإيدولوجيا ومنها(الصلابة-الانتقائية-الكمال-الشمولية-الاستغناء عن فكر الآخر-أداة صراع) والحقيقة أن تحويل الليبرالية إلى “موضة” لا يمكن أن يخفي حقيقة ترويجها كايدولوجيا، فالليبرالية تمثل ظاهرة فكرية وثقافية عامة مُؤطرة للمجتمع، وذات ثقافة مهيمنة، وهو ما يجعلها إيديولوجيا.