الإنسان في أحد تعريفاته هو كائن مفكر؛ فهو يمتاز بـ(الفكر) عن غيره من المخلوقات والكائنات التي تجد نفسَها مدفوعةً بـ(الغريزة)- التي وضعها الله فيها- لتلبية حاجاتها، ولضمان نسلها، وللدفاع عن ذاتها؛ ولا تستطيع أن تغير في هذه الغرائز.
فالفكر هو من أهم ما يميِّز الإنسان؛ ولهذا كان توافر آلة هذا الفكر- أي آلة العقل- شرطًا من شروط التكليف؛ فإذا فقد الإنسان عقله رُفع عنه التكليف ولم يعد محلاً للمؤاخذة، بل للتجاوز والصفح؛ ففي الحديث الشريف: “رُفع القلم عن ثلاث”؛ ومنهم: “وعن المجنون حتى يَعقِل” (صححه الألباني في “صحيح سنن الترمذي”).
والفكر ليس شيئًا مميِّزًا للإنسان فحسب، بل هو ضروري له أيضًا؛ بحيث لا يستغني الإنسان عن الفكر، ولا ينفك عن كونه مفكرًا، كما أشار ابن خلدون في بداية (المقدمة).
وقد يَبْرز هذا الفكر عند الإنسان في صورة جلية، مثل من يشتغلون بالبحث والعلوم؛ أو يكون في صورة أقل بروزًا، مثل سائر الناس، فهم لا ينفكون عن الفكر والتفكر في كل ما يأتون ويَدَعون، بصورة عفوية بعيدة عن تعقيدات العلم وتشابك مسائله.
ولما كان الفكر بهذه المنزلة من الأهمية، حيث يميز الإنسان عن غيره.. ومن الضرورة، حيث لا ينفك الإنسان عنه.. كان لا بد من أن يأتي هذا الفكر في صورة مستقيمة؛ حتى يؤدي الغرض منه والمعوَّل عليه.
و”استقامة الفكر” تعني وضوحه، ونزاهته، وبُعده عما يمكن أن يحرفه يمينًا أو يسارًا بعيدًا عن الخط المستقيم؛ الذي هو أقرب مسافة بين نقطتين، وأوضح طريق بين قضيتين، كما هو معلوم وشائع.
جاء في قاموس (المغني): “الاستقامة مصدر استقام. يقال: تأكد من استقامة العمود: أي من اعتداله واستوائه. وتتسم تصرفاته بالاستقامة: أي بالإنصاف والعدل والنزاهة. وكان رجلاً في غاية الاستقامة: أي في غاية الصدق والأمانة.
والفكر الذي نعنيه هنا ليس مرادًا به المعنى الاصطلاحي المتصل بالفلسفة والمنطق وما يتفرع عنهما من مسائل وقضايا وإشكالات.. وإنما نعني به الفَهْمَ العام، في صورته المعتدلة النزيهة الصادقة.
فكيف نتحقق بالاستقامة الفكرية؟ وكيف نجعلها منهجًا لنا، خاصة في القضايا التي يشتد حولها الخلاف، وتنشأ بسببها المعارك؟
من المهم أن نشير ابتداءً إلى أن هذه “الاستقامة الفكرية” لازمة لتقريب وجهات النظر، وضرورية لإيجاد نوع من جسور الحوار والتفاهم والتعاون.. فعند غياب هذه الاستقامة تتوه الحقائق، وتلتبس الأمور، وتختلط الأهواء، وتوظَّف الشعارات الحقة مرادًا بها الباطل!
وأول ما يجعلنا نتحقق بالاستقامة الفكرية هو البعد عن الهوى، وترك حظ النفس جانبًا، والانطلاق من البحث عن الحق، والتمسك بالصواب ولو صدر من الآخرين، أو ولو كان فيه ما يسبب لنا بعض الضرر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (النساء: 135).
فهذا الابتعاد عن الهوى والتخلص من حظ النفس، يجعل كشف الحقيقة عملاً سهلاً، ويجعل البحث عن نقاط الاشتراك أمرًا ميسورًا.. فلا تختبئ العقول وراء هوى النفوس!!
وهل صدَّ الكافرين عن اتباع الحق، وأوقعهم في عدم الاستقامة الفكرية- أي في الكفر والضلال- إلا أهواؤهم! قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص: 50).
والنقطة الثانية: العناية بوضوحِ مدلولاتِ الألفاظ ومضامين المفاهيم؛ بحيث تعبِّر الكلمات بدقةٍ عن المعاني، وتنشأ أرضية مشتركة بين المتحاورين، من القضايا المتفق عليها وصولاً للمختلَف فيها، ومن المعاني الواضحة إلى الدقائق الخفية..
فكيف يمكن أن نؤمِّل في الوصول إلى نقاط التقاء، بينما كل طرف من المتحاورين يستخدم قاموسًا خاصًّا به، ولا ينطلقون من أرضية مشتركة!
ولهذا، كان القرآن الكريم حريصًا على وضوح الألفاظ، والابتعاد عن تلك التي يختلط في معانيها حقٌّ بباطل.. وذلك في مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (البقرة: 104)؛ فقد كان اليهود يقصدون من قولهم (راعنا) السبَّ، أي من الرعونة؛ فجاء النهي عن ترديد قولهم.. وأمر القرآن باستخدام كلمات أخرى لا تحمل لبسًا.
قال ابن عباس: “كان المسلمون يقولون للنبي ﷺ: راعنا؛ على جهة الطلب والرغبة- من المراعاة- أي: التفت إلينا. وكان هذا بلسان اليهود سبًّا؛ أي: اسمع لا سمعت. فاغتنموها وقالوا: كنا نسبّه سرَّا، فالآن نسبه جهرًا.. فنزلت الآية، ونُهوا عنها؛ لئلا تقتدي بها اليهود في اللفظ وتقصد المعنى الفاسد” (تفسير القرطبي).
وهكذا، فإن تحرير الألفاظ وضبط المفاهيم، شرط أساس من شروط الاستقامة الفكرية.
أما النقطة الثالثة: فهي الحرص على التَّماسِّ مع علوم ومعارف متعددة؛ لأن المرء كلما انحصر في باب واحد من العلم، أو جانب محدود من المعرفة؛ صار عقله ونمط تفكيره محصورًا بهذا الباب وذلك الجانب.
ولا غرو أن كان أصحاب الثقافة المتعددة الروافد، والمعارف الواسعة المتنوعة؛ أكثر قدرة من غيرهم على سبر أغوار القضايا، وعلى تمحيص الحق منها من الزائف، والوصول ولو إلى أقرب نقطة للصواب إن لم يكن إلى الصواب ذاته.
فمن عرف بابًا واحدًا من العلم، أو اطلع- مثلاً- على مذهب فقهي واحد في مسألة؛ ضاقت نظرته، وعرف شيئًا وغابت عنه أشياء، وأدرك زاوية واستترت عنه زوايا أخرى وربما تكون أكثر أهمية.. فكيف، والحال هذه، يستقيم فكره، وتصح نظرته للأمور؟!
وهنا نلفت النظر- في وجود انشطار للمعرفة غير مسبوق، بخلاف الأزمنة السابقة- إلى أهمية الاجتهاد الجماعي، والمجامع العلمية التي تضم بين جنباتها تخصصات شتى؛ ليس في القضايا الفقهية فحسب، كما هو شائع، بل في كل ما يتصل بحياتنا من قضايا ومستجدات.. فزمن “الشخص المؤسسة”- الذي تراه فقيهًا ولغويًّا ومفسِّرًا ومتكلِّمًا وربما مع هذا كان طبيبًا؛ مثل كثيرين في حضارتنا في عصور ازدهارها- يصعب أن يعود؛ لأن المعرفة قد انشطرت وتشظَّت بأبعد من ذلك بكثير جدًّا..!
بهذه النقاط الثلاث وغيرها، نكون قد وضعنا اللبنة الأولى نحو التحقق بالاستقامة الفكرية؛ التي تتيح لنا فهمًا أدق، واستيعابًا أعمق، ونقاشًا جادًّا، وجسرًا متينًا من التواصل بين الفرقاء المختلفين..
وما أحوجنا إلى ذلك كله..!