الغالبية تصغي لنصائح الاعتدال في الطعام، حفاظا على الصحة، وحصولا على قوائم جذاب، لكنها لا تصغي للاعتدال في الحياة والأفكار والسلوك، فهو من الفضائل المهجورة، التي أحاطتها صورة ذهنية سلبية، حتى بات قرينا للتنازل، والسلبية، وضعف الشخصية، وغياب الشجاعة، وافتقاد القدرة على الحسم.
ليس طريقا واحدا
من قديم تحدث الفلاسفة أن الاعتدال من أصعب الفضائل التي يمكن أن يتحلى بها الإنسان، فهو يشبه المشي على حبل مشدود بين جبلين مرتفعين، يحتاج فيه الشخص إلى التوازن والمرونة والإدارك لجسامة الخطأ، ورأى آخرون أن الكثير يكتسب الاعتدال بعد دروس الحياة القاسية التي أثبتت أن التطرف خطر، وغير قادر على الدوام، حتى وإن كانت نتائجه سريعة، وكما يقول الكاتب المسرحي اليوناني ” إسخيلوس”: ” يتعلم الرجال رغماً عنهم ممارسة الاعتدال”.
الاعتدال مفهوم مركب، ينطلق من القيم، وينظر للمستقبل، ويبصر العواقب، ويقدر على تحديد الطريق في فترة الحيرة التي تٌفقد الإنسان الهداية الصحيحة، لذلك كان من دعائه ﷺ-:” اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ”، ففي بعض الأحيان والأزمات يتوزع الحق، ويستند كل فريق إلى مبرراته وأسانيده، لكن يبقى الحق التي تتطلبه اللحظة القائمة مجهولا للبعض، ويبقى “واجب الوقت” هو الذي يفرض نفسه على الجميع.
وهناك فارق بين الاعتدال في الحياة والمزاج والمواقف، وبين الاعتدال في المبدأ، فالسلوك دوما يحتاج إلى اعتدال، أما المبدأ فيحتاج إلى وضوح، لذا كان يقول “توماس باين” -أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة- :”الاعتدال في المزاج فضيلة دائمًا؛ لكن الاعتدال من حيث المبدأ هو دائمًا رذيلة “.
الاعتدال ليس طريقا واحدا، ولكنه مرن، متغير، فهو خلاصة حكمة الإنسان بعد تجاربه القاسية، التي أفهمته أن التمسك بالحدود القصوى في الرفض والقبول ليس أمرا جيدا؛ بل يناقض الطبع والطبيعة، ولهذا كان الصحابي الجليل “أبو هريرة” -رضي الله عنه- يقول:” أَحْبِب حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما”.
والمتأمل في الإسلام يجد أن القرآن الكريم حث على الاعتدال، الذي جاء في صور كثيرة تعبر عن هذا المفهوم، كالوسيطة، قال تعالى:”وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا”[1] فالإسلام “يجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان”، وقدم العلماء الربانيون لقارون نصيحة عظيمة في الاعتدال قائلين:” وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا”[2]، جاء في “تفسير الظلال” :”وفي هذا اعتدال المنهج الإلهي القويم، المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة، يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة؛ بل يحضه على هذا، ويكلفه إياه تكليفا، كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضيعها، والمتاع في هذه الحالة لون من الشكر للمنعم، وتقبل لعطاياه، وانتفاع بها، فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى”.
ومن حكمة الشريعة أنها اهتمت بمنع الأسباب التي تُخرج القاضي عن الاعتدال في مزاجه، حتى لا يؤثر ذلك الاختلال على حكمه بين الناس، وفي الحديث :” لا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بيْنَ اثْنَيْنِ وهو غَضْبَانُ”، والحكم هنا هو القاضي، وتوسع شراح الحديث فيما يُخرج القاضي عن اعتداله من جوع وعطش ومرض وخوف.
واهتم التراث الإسلامي بمفهوم الاعتدال، حتى في الوعظ والإرشاد ففي كتاب “صيد الخاطر” يرفض “ابن الجوزي” الإسراف في الموعظة، ويعتبرها خطرا على القلب، والإيمان، فيقول:” اعلم أن أصلح الأمور الاعتدال في كل شيء، وإذا رأينا أرباب الدنيا قد غلبت آمالهم، وفسدت في الخير أعمالهم، أمرناهم بذكر الموت والقبور والآخرة، فأما إذا كان العالم لا يغيب عن ذكره الموت، وأحاديث الآخرة تقرأ عليه، وتجري على لسانه، فتذكره الموت، زيادة على ذلك لا تفيد إلا انقطاعه بالمرة؛ بل ينبغي لهذا العالم، الشديد الخوف من الله تعالى، الكثير الذكر للآخرة، أن يُشاغل نفسه عن ذكر الموت، ليمتد نفس أمله قليلا، فيصنف، ويعمل أعمال خير، ويقدر على طلب ولد، فأما إذا لهج بذكر الموت، كانت مفسدته عليه أكثر من مصلحته. “
وفي حديث “البخاري” عن ابن مسعود- رضي الله عنه، أنه قال”:” كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتَخَوَّلُنا بالمَوْعِظَةِ في الأيَّامِ، كَراهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنا”، أي يتعهدهم بالموعظة بعض الأيام دون الأخرى، حتى لا تمل قلوبهم من الوعظ، فالاعتدال في الدواء أمر محمود، سوءا أكان الدواء بدنيا أو روحيا أو إيمانيا، ولهذا ذكر الفقيه الأندلسي “ابن حزم” في كتابه مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق ” أنه :” “رب مخوف كان التحرز منه سبب وقوعه، ورب سر كانت المبالغة في طيه سبب انتشاره، ورب إعراض أبلغ في الاسترابة من إدامة النظر ، وأصل ذلك الإفراط الخارج عن حد الاعتدال”، فالخروج عن الاعتدال سبب في حدوث المرض أو الآفة التي يهرب منها الشخص، ومثال ذلك المبالغة الشديدة النظافة، التي قد تكون سببا في الإصابة بالوسواس القهري، إذ أن إحدى الطرق لمقاومة هذا الوسواس، الذي يصيب 2% من البشر، هو التحفيز على الاعتدال في حالات الخوف والقلق من التلوث والميكروبات، وهو ما تجلى مع أزمة “كورونا”، التي جعلت الكثير من الناس يخرجون عن حد الاعتدال في مخاوفهم من العدوى، فتحولت إلى حالة مرضية، وكانت النصائح المقدمة لهؤلاء ممارسة “الاعتدال”.
ضريبة الاعتدال
يشير الأديب الشهير “سومرست” بأن: “الاعتدال يمنع من اكتساب التأثير القاتل للعادة”، فالاعتدال يمنع الإنسان من أن تتحكم فيه أية عادة سلوكية أو مزاجية، إذ يترك الاعتدال له مساحة من الحرية تحول دون الخضوع لأي شيء، وربما صاغ الفكرة بأسلوب ممتع الأديب “أوسكار ايلد، بقوله: ” كل شيء باعتدال، بما في ذلك الاعتدال”، لذللك كانت جزءا من أزمة الإنسان المعاصر هي الخروج عن حد الاعتدال، ومجاوزته إلى حد الطغيان، ففقدان الميزان بين المادية والروحانية، أصاب ذلك الإنسان بأزمات كبرى، فالفطرة قائمة على التوازن والاعتدال، وهو ما أكد عليه الإسلام في منهجه، ذكر العلامة “أبو الحسن الندوي” في كتابه “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين” أن: “الذي يوجد الاعتدال، ويخفض من المادية الجامحة، ويجعل منها حياة معتدلة، هو النظام الروحي الديني الخلقي الحكيم الذي يوافق الفطرة الإنسانية الصحيحة، والذي لا يتصدى لأن يزيل الفطرة الإنسانية؛ بل يوجهها توجيهاً نافعاً، فإنها لا تزول ولكن تميل من شر إلى خير؛ وهكذا فعل الإسلام، وهكذا فعل سيدنا محمد -ﷺ ، فقد صرف شجاعة العرب من المنافسات القبلية والتقاتل وأخذ الثأر والأحقاد القديمة، إلى إعلاء كلمة الله، وصرف تبذيرهم وسماحتهم، إلى الإنفاق في سبيل الله، وشغلهم عن الجاهلية بالدين الإسلامي، وأبدل الشيء بالشيء، وأعطى النفس حقها، من النشاط والترويح، فإن النفوس كما قال عالم من علماء المسلمين لا تترك شيئاً إلا بشيء، وإن النفوس قد خُلقت لتعمل لا لتترك، وإن الأنبياء قد بعثوا بتكميل الفطرة وتكريرها لا بتبديلها وتغييرها.
ومن ثم فضريبة الابتعاد عن الاعتدال قاسية، فترك الاعتدال في الطعام والشراب يُصيب الإنسان بالتخمة والأمراض، وفقدان الاعتدال في الحمية الغذائية يصيب الجسم بالوهن، ويضعف المناعة، كذلك غياب الحافز المشجع على العمل يصيب الإنسان بضعف الهمة، واستمرار التحفيز بغير انقطاع يصيب الشخص بالتبلد، وهو ما تحدث عدد من علماء النفس، مثل البروفيسور مارفن زوكرمان” Marvin Zuckerman من أن الحواس الإنسانية تتأقلم بسرعة مع المنبهات، وبالتالي تفقد المنبهات قدرتها التأثيرية، وأنه كلما زاد التحفيز الذي يتلقاه الشخص، قل استمتاعه به، لذلك فإن إيجاد التوازن الدقيق بين المتعة القصوى والملل يخلق أكبر فرصة للحفاظ على السعادة والصحة والنجاح على المدى الطويل.
وضريبة الابتعاد عن الاعتدال قاسية حتى في تربية الأولاد، فكما يؤكد بعض الدكتور “علي القائمي” في كتابه “علم النفس وتربية اليتيم” من أن “الأطفال الذين تربوا في دلال زائد ورغد سيشعرون بظلم الوالدين لهم”، و” الإفراط في محبة الطفل أمر مضر له.
[1] سورة الفرقان: الآية: 67
[2] سورة القصص: الآية :77