أولا: في التوطئة
يشكو البحث الجامعي -في تقديري الخاص- في نصيب منه من الفقر في الرؤية المنهجية والمنهاجية، وضمور الروح المنطقية، وضعف المهارات الاستدلالية، وسوء توظيف آليات بناء القول العلمي في المسألة موضع البحث وتطويره عبر البناء الإشكالي إلى البناء الهندسي إلى الإنجاز التحريري لأفكار البحث الجزئية والكلية في نسقية متنامية وعلاقات منطقية بنائية؛ من شأنها أن تجعل من البحث قولا واحدا تكاملت لبناته، وتضافرت جمله وفقراته، وتسلسلت خطواته وتناسقت نظراته، لتشكيل لوحة فنية علمية إبداعية ذات وحدة موضوعية متراصة، قوية المضمون إبداعا وإقناعا، جميلة الشكل والصياغة تأثيرا وإمتاعا.
بناء عليه؛ فإن هذا المقال يتوخى إبراز الخاصية المنطقية للعلم وتجلية روح البحث العلمي وخصائصه؛ توجيها لأنظار الباحثين لأجل استحضارها وللوعي بأهمية مراعاتها في البحث العلمي؛ إذ كلما كان الباحث أكثر وعيا بروح العلم عموما وبروح البحث العلمي فيه إلا واستقام أمره، ورشد فكره، واستوى عوده، وثبُت وجوده، وأثمر النتائج النافعة نفعا تتحقق به الخيرية الشاملة والمنفعة الخاصة والعامة.
ثانيا: في أسئلة المقال
فما طبيعة العلاقة بين العلم والمنهج والبحث العلمي والمنطق؟ هل هي علاقات اتصال وترابط جوهري، أم علاقات انفصال وتباين؟ إلى أي حد يمكن أن يؤثر حضور أو ضمور هذه العلاقات في البحث العلمي الأكاديمي قوة وضعفا، جودة ورداءة؟ وما قيمة التحلي بالروح العلمية والتخلق بحلية التفكير العلمي المنهجي؟ وما آثاره في قوة الأبحاث العلمية خاصة ونضج المعرفة العلمية عموما؟
ثالثا: في دعوى المقال
بداية يمكن إطلاق الدعوى الآتية: إن مفاهيم وميادين “العلم” و”المنطق” و”المنهج” و”البحث” مفاهيم وميادين مترابطة أشكالا من الترابط المتين، ومتعالقةً ألواناً من التعالق المكين، ومتشاكلةً أصنافا من التشاكل الأصيل، هي في الحقيقة شيء واحد تعددت تجلياته، وتنوعت أشكاله ومسمياته، وهي مسميات لشيء واحد.
رابعا: في الاحتجاج للدعوى
ثم إنه يمكن التدليل على هذه الدعوى من الوجوه الآتية:
الأول: أنه لما صح أن المنهج طريق يوصل إلى صحيح المعارف، ولما صح أيضا أن البحث هو الوسيلة التي بها نصل إلى العلم والمعرفة، وصح أيضا أن المنهج هو وسيلة الباحث للتوصل إلى كل ذلك، صح معه القول إن العلم هو الغاية، والبحث هو الوسيلة الموصلة إليه، والمنهج هو روح كل علم، وأساس كل بحث، إذ لا علم محصول من غير بحث معمول، ولا بحث يحقق المأمول من غير منهج مأصول؛ وقد لاحظ الدارسون في حقل الدراسات المنهجية أن العلم يتكون من شقين: الشق الأول هو الشق التكويني البنائي للعلم الذي يتضمن النظريات والحقائق والمسلمات والمفهومات وكافة موضوعات العلم، أما الشق الثاني فهو الشق المنهجي الذي يتكون من الطريقة والأسلوب والمنهج الذي يستخدم في بحث المشكلات ودراسة الظاهرات والحالات، ويتوسل به في وضع الحلول أو إضافة المعارف التي خضعت للبحث والدراسة[1].
وبناء عليه، يصح فعلا القول بأن المعارف العلمية الصحيحة غاية البحث العلمي التي لا يتوصل إليها إلا بمنهج معقول وطريق مقبول وأسلوب محدد ومضبوط؛ لأنه لا علم إلا ببحث، ولا بحث إلا بمنهج.
الثاني: أن قواعد العلم إنما هي قواعد البحث في مسائله، وقوانين النظر فيه بدلائله[2]، ولما كان منهج البحث العلمي ليس إلا “القانون الذي يحكم أية محاولة للدراسة”[3]، صح إذن أن المنهج قانون البحث العلمي يشتمل على مجموعة قواعد وقوانين لا يكون البحث العلمي مثمرا إلا إذا وظفت فيه هذه القوانين على كيفية مخصوصة وهيأة معلومة بحيث تكون منظَّمة ومنظِّمة توصل إلى نتائجه الصحيحة المبنية على مناهجه الواضحة الصريحة؛ فيثبت بهذا الارتباطُ العضوي بين العلم والمنهج، فــ”لا علم بغير منهج”[4]؛ “إذ يتداخل المفهومان: العلم/ المنهجية بحيث لا يمكن الفصل بينهما، وكلاهما محمول على الآخر حتى إن ما يميز علما عن آخر هو المنهجية الخاصة به بمقدار ما يميزه موضوعه”[5].
الثالث: أن مما يدل -أيضا- على هذا الارتباط بين العلم والمنهج والبحث العلمي أن العلم لم يتقدم في تاريخه إلا بتقدم الأبحاث المنهجية في مسائله تحديدا لإشكالاته وكشفا عن معيقاته، وتجديدا لمناهجه وتجويدا لنتائجه، ولم يتأخر العلم في حضارة من الحضارات إلا بتأخر البحث المنهجي فيه، وتأخُّرِ المعرفة المنهجية وأدواتها وفلسفاتها تقصيرا في تفعيل قواعدها وعجزا عن تحصيل مقاصدها وضعفا عن تجديد أدواتها وطرقها؛ ولعل السبب في ذلك راجع إلى أن تقدم العلم قرين بتطور مناهجه وتطويرها، وعلى قدر صحتها وإجرائيتها والوفاء بها في البحث العلمي يحصل التقدم وتتطور المعارف العلمية؛ فتصبح العلاقة بين المكونات الثلاثة علاقة متينة تجعل “الممارسة العلمية للبحث العلمي تؤدي إلى تطور المعرفة العلمية والمنهج العلمي معاً“[6]، بل إن جميع مظاهر التقدم الحضاري في جميع الأمم وفي جميع الميادين لم يحصل إلا بهذا الترابط العضوي بين العلم والمنهج والممارسة البحثية التطبيقية لكل ذلك؛ وقد لاحظ أحد الباحثين المعاصرين أن ما وصلت الحضارة الحديثة إليه من أسباب التقدم المادي لم يكن إلا بفضل الدراسات المنهجية والأبحاث التخصصية الدقيقة القائمة على أسس علمية سليمة[7].
الرابع: إن العلم إنما هو علم بنتائج ومعارف كانت مجهولة، وتُوُصِّل إليها بالبحث المنهجي الصحيح، والبحث عن المعارف المجهولة لا يتأتى إلا بالانتقال من المعلوم إلى المجهول ومن الدال إلى المدلول، ومن الـمـحصول الجلي إلى المأمول الخفي، وهذا الانتقال تبين قواعده في المنطق لأن المنطق “علم يتعلم فيه ضروب الانتقالات من أمور حاصلة في ذهن الإنسان إلى أمور مستحصلة”[8] وهذ الانتقال لا يكون عشوائيا غير منظم، ولا يكون اتفاقا من غير جهد مُتعَقَّل الخطوات، متسلسل الإجراءات، متتابع العمليات العقلية والحسية؛ وإنما هذا الانتقال لا يكون إلا نشاطا منظماً، وجهدا عقليا منطقيا محضا، وتفكيرا منهجيا صرفا. لذلك فالعلم منطق، و”المنطق إنما هو البحث نفسه”[9]، والمنطق إنما هو أيضاً استدلال نسقي، والاستدلال لا يكون إلا منهجا. لذلك فالتفكير العلمي إنما هو بالضرورة العقلية والعملية تفكير منهجي منطقي وسيلته الاستدلال وقصده البحث في المعارف الموجودة للوصول إلى المجهول وصولا منهجيا صحيحاً توظف فيه قواعد الاستدلال المنطقي الصحيح وعلى رأسها قواعد المنطق الاستقرائي وقواعد المنطق الاستنباطي.
الخامس: بينت الدراسات عن المناهج أنه لا وجود لعلم إلا بوجود منهج خاص به؛ إذ “لا يمكن أبدا الفصل بين البحث العلمي (أو ممارسة المعرفة) والمنهجية العلمية التي يجب على الباحث أن يسلكها لمعرفة جديدة من جهة أخرى”[10]، ولا يكتمل العلم ولا ينضج إلا يوم يستقل بموضوعه ويحدد منهجه تحديدا دقيقا؛ إذ “لكل علم موضوع ومنهج يميزانه عن غيره”[11]، كما أن منهج أي علم لا يظهر إلا في ممارسات العلماء في أبحاثهم واجتهاداتهم. ولقد ظهرت مسألة ارتباط العلم بمنهجه المحدد منذ القديم، حيث بينت الدراسات القديمة والمعاصرة في حقل الإبستيمولوجيا[12] هذه الحقيقة وجلتها خير تجلية، وظهرت بفضل ذلك دراسات أكاديمية متنوعة ومتعددة تبين منهج كل علم: منهج علم الرياضيات، ومنهج علم الفيزياء، ومنهج علم الطب والبيولوجيا، ومنهج علم النفس أو مناهجه، ومنهج علم الاجتماع أو مناهجه، ومنهج العلوم القانونية أو مناهجها، وهكذا نفس الأمر في الأنثروبولوجيا، وعلم اللغة، وعلوم الوحي في الدين الإسلامي من علم التفسير وعلم الحديث وعلم الفقه وعلم أصوله وعلم العقيدة وعلم الخلاف العالي… وليس هذا فحسب، وإنما إلى جانب اختصاص كل علم بمنهجه أو مناهجه، نجد لكل واحد من العلماء داخل العلم الواحد منهجَه الخاصَّ به الذي يتفرد به عن نظرائه من العلماء داخل التخصص العلمي، قاده إليه استقلاله بنظره في مسائل العلم وأداه إليه اجتهاده في ذلك اجتهادا مكَّنه من نحت مفاهيمه واختيار أدوات منهجه ومقاصده الخاصة به بناء على رؤيته المعرفية والمذهبية ودربته بالعلوم ومسائلها وقواعدها. ويلحظ مثل هذا كثيرا في سائر العلوم، لكن بشكل أكبر في مجال الفلسفة والعلوم الإنسانية واللغوية والشرعية.
وهكذا يتبين فعلا تعدد وجوه الترابط والتشاكل بين “العلم” و”المنطق” و”البحث العلمي” و”المنهج العلمي”، لأن “المنهج العلمي هو آية العلم، والعلم آيته”[13] على حد تعبير يمنى طريف الخولي بسبب أن “العلاقة بين العلم ومنهجه علاقة وثقى، قد لا تترك مسافة كافية بينهما، أو يسمح بتعريف أحدهما بالآخر”[14]، وهكذا يتبين صعوبة الفصل بين العلم والمنهج، فلا علم صحيح إلا بمنهج صحيح، ولا منهج صحيح إلا وهو علمي.
وبناء عليه؛ ف”لكل علم منهجه الخاص”[15]، ولا علم إلا ببحث علمي، ولا بحث علمي إلا بمنهج علمي؛ فصح بذلك أن العلم الحقيقي إنما هو البحث المنهجي: (العلم = بحث + منهج).
ثم إنه لما كان البحث العلمي الرصين عمدةَ الدراسات الأكاديمية، وأساسَ الكتابة الجادة الباحثة في قضايا العلم الحقيقية ومشكلاته النظرية والعملية الشائكة، كان لزاما تعرف الباحثين على قواعد البحث العلمي الأساسية وتدريبهم عليها التدريب الكافي لأن هذه القواعد إنما هي قواعد منهجية وقوانين منطقية وظيفتها توجيه العقل في تفكيره توجيها سليما، وتزويده بمبادئ تنظيمية إجرائية للتنقيب عن المعرفة الصحيحة تنقيبا يسيرا قاصدا ومقتصدا، وهي قواعد تعصم مراعاتها العقل من الخبط، وتمكنه من الضبط، وتوفر على الباحث هدر الأوقات، وتجنبه تبذير الجهود والطاقات. وإذا كان شيء أحوج إلى الاقتصاد في الجهد والطاقات، وأعوز إلى النهج القاصد المختصر للمسافات فليس إلا الاجتهاد العلمي والبحث والمباحثة فيه، وإن كان أحد في حاجة إلى الترشيد المنهجي لجهوده، والتقصيد العملي لعملياته العقلية فليس إلا الباحث في العلم والمشتغل في المؤسسة العلميةوميادينها.
خامسا: على سبيل الختم
وختاما، وبعد بيان وجوه التعالق بين مجالات العلم والمنطق والمنهج والبحث العلمي، يمكن استنتاج ما يلي:
– أن بنية العلم بنية منطقية صرفة، وبنية المنطق بنية منهجية محضة، فالنتيجة أن بنية البحث العلمي وروحه علمية منطقية منهجية خالصة.
– أن البحث العلمي الرصين هو الذي حضرت فيه هذه الروح العلائقية، وحلت في جسم البحث وتخلقت معه ونمت مع نموه؛ فكلما كان البحث منطقيا علميا منهجيا إلا وحلت فيه الحياة الحقيقية ونما النمو الطبيعي والسليم. وكلما خلا من ذلك كان جسدا بدون روح وكومة أوراق من غير حياة.
– أن البحث العلمي المنهجي المنطقي هو البحث المبني بناء إشكاليا، الخاضع لهندسة معمارية منطقية نسقية غائية، قابلة للنماء والنمو، والتناسل والتناسق، حسب قوانين نمو القول وتكاثره وتعالقه؛ تكاثر يجتمع فيه الوحدة والكثرة، علاقة الولادة الطبيعية والبنوة الحقيقية بين الوحدة وأجزائها المتكاثرة.
– أن من مقتضيات البحث العلمي أن يكون الباحث على وعي سليم بالبناء المنطقي للعلم من جهة، وعلى معرفة دقيقة بروح المناهج العلمية وبوظيفتها الإجرائية، وعلى دراية كافية يكيفية توظيف الآليات المنهجية التوليدية للمعارف والنتائج، وعلى قدرة كافية بإدارتها بإجرائية ناجعة خلال مراحل البحث وتضاريسه المتنوعة.
– أن البحث العلمي بروحه العلمية المنطقية هو الكفيل بتسديد الأنظار وتصحيح الأفكار ونضج العلوم والمعارف في المجتمع، وهو القمن أيضا بجلب ما يتوخاه المجتمع العلمي من المنافع والمصالح، وهو وحده المؤهل للرقي بالمؤسسات العلمية (جامعات ومعاهد ومراكز البحث..) أن تكون قاطرة للتقدم الحقيقي.