بث الله جل وعلا في هذا الكون توازنًا خفيًّا ينجذب الناس إليه كما تنجذب الأشياء في صور وأوضاع كثيرة ومدهشة، نعرف بعضها ونجهل أكثرها. والمهم دائمًا تلمس آفاق ذلك التوازن وسننه في الأنفس والمجتمعات والدعوات والثقافات حتى نتناغم معه و نسعى إلى تحقيقه، ونعمل في إطاره. لكل الأمور طرفان ووسط وذلك الوسط يتم تحديده في أمور كثيرة من خلال الشريعة الغراء كما يتم تحديده في أمور كثيرة أخرى من خلال العرف والاعتبارات والمعطيات الجديدة. الشجاعة والجبن، والكرم والبخل، والحسن والقبح، واللطف والفظاظة والتبذير والتقتير، والجودة والرداءة، والصلابة والليونة، والغلو والاعتدال، والإفراط والتفريط، والاهتمام والإهمال… كل هذه المتضادات والمتقابلات تقع على خط واحد متدرج.
والتغيرات على ذلك الخط متصلة وغير منظورة ونتعامل معها من خلال رسم فواصل وهمية واعتبارية، يمكن دائمًا الاختلاف فيها والجدل حولها، فنحن نتخيل صورة لـ (الشجاعة) في وضعها الأقصى لتكون على أول الخط. وتلك الصورة تختلف من شخص إلى آخر بحسب المفاهيم المحيطة والخبرة الشخصية بهذه الفضيلة. وتتدرج تصوراتنا للشجاعة إلى أن نصل إلى منتصف الخط – وهو منتصف وهمي تقديري-؛ فنقول: إن فلانًا من الناس إنسان عادي، لا يوصف بالشجاعة ولا بالجبن. ثم نمضي قليلاً في السير على ذلك الخط، لنقول: إن فلانًا لديه شيء من الجبن.
ثم نمضي لنقول: فلان جبان. فإذا اقتربنا أكثر قلنا: فلان من أجبن الناس. فإذا أرتنا خبرتنا الشخصية بهذه المسألة صورة شاذة ومتفردة في الخوف والهلع قلنا: فلان أجبن الناس. ونحن في كل ذلك ننطلق من مفاهيم وخبرات ذاتية ومحددة؛ فلا التعريفات والمصطلحات دقيقة وصلبة بما يكفي لتوحيد التصورات، ولا الخبرات موحَّدة بما يكفي لإصدار الأحكام. والتعبير عنها هو الآخر يتسّم بالهشاشة؛ إذ إن اللغة هي وسيلتنا في التعامل مع هذه الأمور، والنظام اللغوي يكون شديد الطواعية والمرونة عند التعبير عن المسائل الإنسانية. والبنية العقلية للإنسان على مقدار ما تعمل بكفاءة في تصور (الكم) وتحليله تعمل بارتباك وغموض في تصور (الكيف) والحكم عليه؛ ولهذا فإن من قد تصفه بأنه إنسان عادي، لا هو بالشجاع ولا بالجبان، قد يصفه غيرك بأنه شجاع أو جبان ، ومن تصفه بأنه أجبن إنسان في التاريخ قد يصفه غيرك بأنه واحد من ملايين الجبناء الذين ينطون السهل والجبل. وكثير من الغربيين ينظرون اليوم إلى من نعدّه – بحسب معاييرنا وثقافتنا- معتدلاً على أنه متعصب ومتطرف. وما يعده كثير من الغربيين حشمة ننظر إليه على أنه ابتذال؛ وهذا واضح.
مهما اختلفنا في تحديد المفاهيم؛ فإن الأطراف القصوى تظل أطرافاً؛ إن من الصعب جدًّا في البيئة الواحدة أن ينظر بعض الناس إلى شخص على أنه أكرم الكرماء، وينظر إليه آخرون على أنه أبخل البخلاء؛ فالعقول تدرك الألوان المتباينة والحالات المتباعدة على نحو جيد. ومن ذلك الإدراك يتم الانجذاب نحو الوسط الذي هو مركز التوازن.
النفس البشرية ميّالة إلى التغيير غير المكلف حيث تلتمس في الجديد دائمًا شيئًا أفضل مما هي فيه. وبما أن حالات التطرف في كل أمر من الأمور تخل بالتوازن العام للشخصية والمجتمع والأمة فإن الناس مثلا إذا خضعوا في مرحلة من المراحل لقيود شديدة في حركتهم واختياراتهم، فإن البحث عن الحرية والانطلاق يصبح الهمَّ المسيطر عليهم؛ فإذا فُكّت قيودهم انغمسوا في حرية تصل إلى حد الفوضى، وبعد مدة يضيقون بالوضعية الجديدة لما يلمسونه من أذى التفلب المبالغ فيه، ويبدؤون بالمطالبة بالضبط والصرامة ومقاومة التسيّب.
حين تشتد وطأة الجوع على أحدنا فإن الحصول على الطعام يصبح ضاغطًا ومسيطراً، فإذا أكلنا وشبعنا تغيّرت نظرتنا للمائدة وطلبنا رفعها وهكذا…
هذا يعني أن قدرًا غير هيَّن من معرفتنا بقيمة شيء من الأشياء يُستمد من معرفتنا بضده أو من معايشتنا له وقد عرف الناس هذا من زمن بعيد، وعبّروا عنه بتعبيرات مختلفة، وكان مما قالوا: ” بضدها تتميز الأشياء” ، “الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يعرفه إلا المرضى”، ” للشوهاء فضل على الحسناء”. ويقال اليوم: ” الوعي بالذات فرع عن الوعي بالآخر”، ويمكن أن نقول : ” رؤية الآخر تتم دائمًا من أفق رؤية الذات”. وهكذا فالوعي الإنساني يعمل في أفضل حالاته حين يرى في كل شيء صور الإفراط والتفريط والاعتدال.
وقد كان عمر – رضي الله عنه- يتخوف من الحالة التي تصير إليها الأمة من عدم معرفة قيمة نعمة الإسلام حين ينشأ في الإسلام أناس لم يعرفوا الجاهلية. حين يسود الرشد في أمة من الأمم؛ فإن معرفتها بالاعتدال والاتزان هي التي ترشدها إلى رؤية صور الإفراط والتفريط.
وحين يسود الجهل والعقم والتخلف، فإن وعي الأمة يتعرف على الاتزان من خلال تعرفه على صور الإفراط والتفريط، ويكون في ذلك شيء من الغموض والالتباس، لأنه قائم على استنتاج لا يخلو من شيء من تركيب الأدلة إذا شعر الواحد منا أنه صار في حالة مرضية من التوازن والاتزان فهذا لا ينبغي أن يدعوه إلى الاطمئنان والاستكانة لتلك الحالة؛ لأن ما يستجد من معطيات وظروف واتجاهات ومفاهيم وتحديات وإمكانات… يُدخِل الخلل على ذلك التوازن؛ ولذا فلا بد من البحث عن توازن جديد.
ولو أننا تأملنا في أحوالنا الخاصة وأحوال الأمم عامة لوجدنا أن عدم إدراك أهمية عملية البحث هذه هو الذي أدى إلى تدهور كثير من الأمور، حيث يغلب على الوهم الشعور بجمود الأحوال والمعطيات، مما يدعو الناس إلى الركون إلى ما لديهم من استجابات وردود أفعال. وفي زماننا هذا صارت اليقظة الفكرية نحو ما نفقده من توازن أكثر إلحاحًا بسبب غزارة تدفق المعطيات والمتغيرات. وإذا لم ننتبه جيدًا لذلك فإن على الواحد أن يتوقع الانتقال إلى موقع متطرف دون أن يدري. وكل واحد منا يستطيع اكتشاف ذلك بطريقته الخاصة.