رسمت آلة صناعة السعادة والتفكير الإيجابي الضخمة – تقدر قيمتها بـ 11 مليار دولار أمريكي في السنة – صورة خيالية منافية للواقع حولتها لهدف من الممكن تحقيقه، لأنه إذا تم تلبية جميع احتياجاتنا المادية والبيولوجية، فإن حالة السعادة المستدامة ستظل هدفا نظريا وبعيد المنال.
من أوائل من اكتشف هذا الأمر هو عبد الرحمن الناصر الخليفة الثامن للدولة الأموية بالأندلس (ولد 11 يناير 891م/ 277هـ وتوفي 15 أكتوبر961م/355هـ). كان أحد أقوى الرجال في عصره وأكثرهم نجاحا، حقق إنجازات عسكرية وثقافية عديدة، فضلا عن ملذات أخرى تمتع بها، وبالرغم من ذلك، قرر في نهاية حياته أن يحسب أيامه السعيدة وكانت المحصلة 14يوما فقط.
شبه الشاعر البرازيلي فينيسيوس دي مورايس السعادة أنها “مثل ريشة طائرة في الهواء، أو مثل ومضة عابرة “.
السعادة صرح من خيال الإنسان وفكرة مجردة لا مثيل لها في التجربة البشرية على مدار التاريخ. ومن الناحية العلمية يجب معرفة أن التأثيرات الإيجابية والسلبية تستقر في الدماغ بينما السعادة المستدامة لا أساس بيولوجي لها، وربما اكتشاف هذه المعلومة قد تجعلنا سعداء!.
الطبيعة والتطور
البشر لايعرفون حالة السعادة الكاملة فتكوينهم مصمم للتكاثر والبقاء على قيد الحياة مثل كثير من المخلوقات الأخرى. حالة الرضا تحبطها الطبيعة لأنها ستقلل درجة حذرنا من التهديدات المحتملة.
يعمل دماغ الإنسان على إعطاء أولوية لتطوير فص أمامي كبير( يمنحنا قدرات تنفيذية وتحليلية ممتازة) بدلا من منحنا شعور السعادة، وهذا يعطينا دلالة على التكوين الطبيعي للدماغ. ترتبط المواقع الجغرافية المختلفة والدوائر في الدماغ ببعض الوظائف العصبية والفكرية، ولكن حالة السعادة لا أساس عصبي لها فلا يمكن العثور عليه بين أنسجة الدماغ.
يقول الخبراء في هذا المجال أن فشل الطبيعة في اجتثاث الاكتئاب خلال عملية التطور الإنساني يرجع على وجه التحديد إلى حقيقة أن التكيف مع حالة الاكتئاب يلعب دورا مفيدا في أوقات الضراء من خلال مساعدة الفرد على فك ارتباطه مع اليأس، ويمكن أن يساهم التأمل والتفكير في حل الأزمات.
الأخلاق
صناعة السعادة العالمية لها بعض الجذور في التراث المسيحي ، كثير منها يبرر المعاناة أو التعاسة لأسباب أخلاقية، حيث تشير هذه المصادر إلى أن انعدام السعادة عائد بسبب أوجه القصور الأخلاقية والأنانية والمادية لدى الانسان. وتقدم هذه المصادر المسيحية نصائح ” وعظية ” بضرورة الاتزان النفسي من خلال كبح الشهوات والتخلي والتجرد عن الرغبات.
عمليا هذه الاستراتيجيات هي محاولة إيجاد إجابات ضمن إطار عجزنا الفطري أمام فكرة الاستمتاع بالحياة بصفة مستمرة، لذلك ينبغي أن لا نقلق من معرفة أننا لا نتحمل وزر التعاسة بل يجب الإقرار بتركيبتنا الطبيعية.. لقد خلقنا هكذا.
حتى الداعين إلى تحقيق السعادة من خلال إجراء مراجعات أخلاقية لا يوافقون على اتخاذ وسائل قصيرة المدى تستخدم المخدرات والأدوية الكيميائية النفسية.
يقول المفكر الإيرلندي جورج برنارد شو: ” لاحق لنا باستهلاك السعادة بغير إنتاجها إلا كحقنا باستهلاك الثروة بغير إنتاج.” بمعنى أن الرفاهية ليست الحالة الطبيعية إنما تحتاج إلى جهد حتى تكتسب.
رسم الكاتب الانجليزي ألدوس هكسلي في روايته “سكان عالم جديد شجاع” حياة مثالية سعيدة لأفراد مجتمع استخدموا عقار “سوما” حولهم إلى أشخاص سلسين في التعامل وقانعين بحياتهم.
يشير هكسلي في روايته إلى أن الإنسان الحر كتب عليه المرور بمشاعر الألم، وبالنظر إلى الاختيار بين العذاب العاطفي واحساس الرضا والسكون عند وقوع “مصيبة” الغالبية ستذهب مع الخيار الثاني.
ولكن المخدر “سوما” لا وجود له في عالمنا الحقيقي، وبالتالي فإن المشكلة لا تكمن في الوصول إلى حالة الرضا والقناعة الدائمة بالوسائل المحظورة ، إنما هو ضرب من الخيال . العقاقير الكيميائية تعمل على تغيير حالة العقل (أحيانا يعتبر أمرا جيدا) ولكن بسبب عدم ارتباط السعادة بنمط وظيفي معين في الدماغ فمن المستحيل تكرار هذه الحالة كيميائيا.
سعيد أم تعيس ؟
في بعض الأحيان عواطفنا مختلطة وغير نقية، فوضوية، متشابكة ومتناقضة ، تشبه أمور أخرى في حياتنا. وقد أظهرت الأبحاث أن المشاعر الإيجابية والسلبية والتأثر الوجداني يمكن أن يتعايش داخل الدماغ بشكل مستقل نسبيا.
ويبين هذا النموذج أن نصف الكرة الأيمن يعالج المشاعر السلبية بشكل تفضيلي، في حين يتم التعامل مع المشاعر الإيجابية في الجانب الأيسر.
ومن الجدير بالذكرأن نعلم أن تركيبتنا لم تصمم كي تكون سعيدة على الدوام، بل للبقاء على قيد الحياة، لذلك من المفترض أن نبذل جهدنا في الإستجابة للتحديات و نحافظ على سلامتنا، ونحارب المهددات المحيطة بنا ونحاول تجنب الألم قدر المستطاع.
نموذج ” العواطف المتنافسة ” والتكيف بين المتعة والألم يناسب واقعنا أكثر ويعتبر أفضل من حلم “العيش الرغيد” – غير قابل التحقيق – الذي تقدمه آلة صناعة السعادة وتحاول بيعه لنا.
افتراض عدم وجود حالة تسمى “سعادة” قد تبدو رسالة سلبية بحتة ولكن الخط الفاصل يكمن في معرفة أن حالة عدم الرضا لا تعتبر فشلا على الإطلاق. إذا تعسرت بعض الأمور لا يعني بالضرورة أن لديك خللا يحتاج لعملية إصلاح طارئة كما يدعي أساتذة السعادة.
هذه التقلبات ما يجعل منك إنسانا.