في غضون ثلاث وعشرين سنة، على مدار تنزل القرآن الكريم على قلب رسول الله ﷺ، تبدلت أحكام وتغيرت من العفو إلى المؤاخذة، ومن التساهل والتدرج إلى الإحكام والقوة. فقوله تعالى في شأن الجهاد : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] سبقه موقفان من الجهاد:
الموقف الأول، يمثله قول الله تعالى : ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43]؛ حيث الكفُّ والإعراض والصَّفْح.
الموقف الثاني : الإذن بالقتال من غير إلزام؛ قال الحقُّ – سبحانه وتعالى -: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ [الحج: 39].
وليس الجهاد فحسب، بل أمور أخرى كثيرة تحرك فيها التشريع بمنحنىً متعرج ؛ حسب حالة المؤمنين، وحالة المجتمع من قوة وضعف، وقبول ورفض، وغير ذلك. إلى أن نزل قول الله تعالى : “{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة: 3] فأصبحت التشريعات الإسلامية على النحو الذي ترسمه كتب الفقه والفروع، من تحريم الربا قليله وكثيره، ووجوب جهاد المعتدين، وحرمة شرب الخمر قليله وكثيره، ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك. ومنذ ذلك الوقت، والمسلمون يتعاملون على أن الدِّين هو “الفرمان الأخير ” و النسخة الختامية من الآيات.
فإلى أي مدى يمكن الحكم بصحة وواقعية هذه النظرة إلى الدِّين؟
يقدم الباحث محمد مصطفى النوباني نظرية جريئة حول هذه النظرة من الدِّين ، مبديًا اعتراضه عليها، بقوله : لو كان هذا صحيحًا، فإنه بدلاً أنْ يكون اكتمال الدين لنا نعمة ونعيماً، يتحول إلى نقمة وتشديد، وبدل أن يكون النسق النبويُّ هادياً لنا في كيفيات التعامل وتنزيل الأحكام وفق الأحوال، سننظر إليه على أنَّه قصَّة تراثية ناجحة مضت ودُرست !
ويضيف : إن الإسلام بدأ مع رسول الله ﷺ غريبا عن المجتمع، وهاهي غربته تعود من جديد، كما أخبر النبي ﷺ، وكما هو واقع مشهود، فكيف نتعامل مع الغربتين بازدواجية في المعايير والأحكام؟ أهي تسهيلاتٌ للجيل القرآني الفريد الذي يزدهي برسول الله بينه، وتعسيرٌ على أهل الغربة الثانية الذين لا يجدون نصيراً على الحقِّ ولا وحياً ينزل من السماء؟
لا شك أننا أحوج إلى هذا التسهيل في التشريع من الجيل الأول!
الحل في آية التبديل
يقول تعالى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل: 101، 102] فقد ذكر الله في هذه الآية الحكمة من التبديل بقوله: ” لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ” كما ذكر الحكمة ذاتها من تنزيل القرآن مفرقا على قلب النبي ﷺ : ” {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } [الفرقان: 32] إذن فالحكمة من التبديل والتثبيت واحدة.
ومن هنا اهتدى النوباني إلى الربط بين ( التنزيل) وهو نزول القرآن ( مفرَّقًا ) و(التبديل) فيقول : “وعلى هذا المعنى يكون (التفريق والتبديل) طريقين يحصِّنان الأمَّة المحمَّدية من الانحراف عن منهج الوحي والرُّكون إلى منظومة إبليس ويثبتانها على الصراط المستقيم: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 73، 74].
ويوضح النوباني هذا التبديل بمثال الجهاد الذي ذكرت سورة التوبة مرحلته الثالثة بالأمر به مع المعتدين، فيقول ناقلا عن الظلال ما يؤكد به نظريته : ” إن تلك الأحكام المرحليَّة ليست منسوخة بحيث لا يجوز العمل بها في أيِّ ظرفٍ من ظروف الأمَّة المسلمة بعد نزول الأحكام الأخيرة في سورة التوبة، ذلك أنَّ الحركة والواقع الذي تواجهه في شتَّى الظروف والأمكنة والأزمنة هي التي تحدِّد عن طريق الاجتهاد المطلق أي الأحكام هو أنسب للأخذ به، مع عدم نسيان الأحكام الأخيرة التي يجب أن يُصار إليها متى أصبحت الأمة الإسلامية في الحال التي تمكِّنها من تنفيذ هذه الأحكام، كما كان حالها عند نزول سورة التوبة، وما بعد ذلك أيام الفتوحات الإسلامية التي قامت على أساسٍ من هذه الأحكام الأخيرة النِّهائية سواء في معاملة المشركين، أو أهل الكتاب . فالذي يعنيه النوباني بالتبديل هو صلاحية الأحكام المبدلة للعودة والتطبيق حال عودة ظروفها وملابساتها التي كانت عند نزولها أول مرة.
الزركش يوافق
وهو هنا ينقل من التراث ما يدعم به نظريته، فينقل عن الزركشي قوله : ” «ما أمر به لسبب ثمَّ يزول السبب؛ كالأمر حين الضَّعف والقلَّة بالصبر وبالمغفرة للذين يرجون لقاء الله ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، والجهاد ونحوها، ثمَّ نسخه إيجاب ذلك، وهذا ليس بنسخ في الحقيقة، وإنما هو نسء، كما قال تعالى: {أَوْ نُنْسِهَا } [البقرة: 106] فالمنسأ هو الأمر بالقتال، إلى أن يقوى المسلمون.
وفي حال الضَّعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى.
وبهذا التحقيق ثبت ضعف ما لهج به كثير من المفسِّرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف. وليست كذلك بل هي من المُنسأ، بمعنى أنَّ كلَّ أمرٍ ورد يجب امتثاله في وقتٍ ما لعلَّة توجب ذلك الحكم، ثمَّ ينتقل بانتقال تلك العلَّة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدا.
الشافعي وادخار لحوم الأضاحي
و إلى هذا أشار الشافعي في الرِّسالة ؛ إلى النَّهي عن ادِّخار لحوم الأضاحي من أجل الدافَّة، ثم ورد الإذن فيه، فلم يجعله منسوخاً، بل من باب زوال الحكم لزوال علَّته، حتى لو فاجأ أهل ناحية جماعة مضرورون تعلَّق بأهلها النهي.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ومن هذا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105]كان ذلك في ابتداء الأمر، فلما قوي الحال وجب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر والمقاتلة عليه، ثمَّ لو فرض وقوع الضعف كما أخبر النبي ﷺ في قوله: “بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ” عاد الحكم، وقال ﷺ: “فإذا رأيت هوىً مُتَّبعاً وشحَّاً مُطاعاً وإعجاب كلِّ ذي رأيٍ برأيه فعليك بخاصَّة نفسك”.