تستند السُّنن الإلهية في فهم الإمام محمَّد عبده إلى مبدأ، أو إلى قانون عام، يقيم ارتباطا ما بين الجزاء والعمل، بحيث ينطبق هذا القانون أو تسري مفاعيله على الجميع من دون استثناء: فينطبق على الأمم كما ينطبق على الأفراد. ونتيجة لذلك؛ نجد أنَّ “كلَّ من أجرم كما أجرموا (بنو إسرائيل) سقط عليه من غضب اللّه ما سقط عليهم. فاللَّه، جلَّ شأنه، لم يأخذهم بما أخذهم لأمر يختصُّ بهم على أنَّهم من شعب إسرائيل، أو من ملَّة يهود؛ بل {ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ} . [البقرة: 61]

وأمَّا أنساب الشُّعوب وما تدين به من دينٍ، وما تتَّخذه من ملَّةٍ، فكلُّ ذلك لا أثر له في رضاء اللَّه ولا غضبه، ولا يتعلَّق به رِفْعَةُ شأن قومٍ ولا ضِعَتِهم؛ بل عِمَادُ الفلاح ووسيلةُ الفوز بخيْرَي الدُّنيا والآخرة إنَّما هو: صدقُ الإيمان باللَّه تعالى بأنْ يكون التَّصديق به سطوعا على الأنفس من مَشْرق البُرهان، أو جيشَانًا في القلب من عيْن الوجْدان”.

ويقول في موضع آخر: “وسُنَّة اللَّه تعالى واحدةٌ، فهو يُعامِلُ القرونَ الحاضرةَ بمثل ما عاملَ به القرونَ الخالية؛ ولذلك قال: { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 66]؛ أي جعلنا هذه العقوبة نَكالا؛ وهو ما يُفْعَلُ بشخص من إيذاءٍ وإهانة. وأمَّا كونُها موعظةً للمتَّقين؛ فهو أنَّ المتَّقي يتَّعِظُ بها في نفسِه بالتَّباعُد عن الحدود التي يُخْشَى اعتداؤها: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} .[البقرة: 229]، ويعِظُ بها غيرَهُ أيضًا. ولا يتمُّ كون تلك العقوبة نكالا للمتقدِّمين والمتأخِّرين وموعظةً للمتَّقين إلا إذا كانت جاريةً على السُّنَّة المطردة في تربية الأمم وتهذيب الطِّباع؛ وذلك ما هو معروفٌ لأهل البصائر، ومشهورٌ عند عُرَفَاءِ الأوائل والأواخر”.

وفي سياق التَّدليل على عقلانية الدِّين من جهة، وضرورة ترشيد فهْم المسلمين للمعجزات الحسِّية من جهة أخرى، يؤكِّد محمَّد رشيد رضا “أنَّ اللَّه تعالى جعل نبوة محمَّد ورسالته قائمة على قواعد العلم والعقل في ثبوتها وفي موضوعها؛ لأنَّ البشر قد بدؤوا يدخلون في سنِّ الرُّشد والاستقلال النَّوعيِّ الذي لا يخضع عقلُ صاحبه فيه لاتِّباع مَنْ تصْدُرُ عنهم أمورٌ عجيبةٌ مخالفةٌ للنِّظام المألوف في سُنَن الكون، بل لا يكمل ارتقاؤهم واستعدادهم بذلك؛ بل هو من موانعِهِ.

وبحسب الإمام محمَّد عبده؛ فإنَّ “الخوارقَ الجائزة عقلا؛ أي التي ليس فيها اجتماعُ النَّقيضين ولا ارتفاعهما، لا مانع من وقوعها بقدرة اللَّه تعالى على يد نبي من الأنبياء، ويجب أن نؤمن بها على ظاهرها، ولا يمنعنا هذا الإيمانُ من الاهتداء بسُنَنِ اللَّه تعالى في الخلْق، واعتقاد أنَّها لا تتبدَّل ولا تتحوَّل؛ كما قال اللَّه في كتابه الذي ختم به الوحي على لسان نبيه الذي ختم به النَّبيين، فانتهى بذلك زمنُ المعجزات، ودخل الإنسان بدين الإسلام في سِنِّ الرُّشد، فلم تعد مُدْهَشَاتُ الخوارق هي الجاذبة له إلى الإيمان وتقويم ما يعرض للفطرة من الميل عن الاعتدال في الفكر والأخلاق والأعمال، كما كان في سنِّ الطُّفوليَّة (النَّوعيَّة)، بل أرشده تعالى بالوحي الأخير (القرآن) إلى استعمال عقله في تحصيل الإيمان باللَّه وبالوحي، ثم جعل له كلَّ إرشادات الوحي مُبيَّنة مُعلَّلة مُدلَّلة؛ حتَّى في مقام الأدب. فإيمانُنا بما أيّدَ اللَّه تعالى به الأنبياء من الآيات لجذب قلوب أقوامهم الذين لم ترْتَق عقولُهم إلى فهم البُرهان، لا يُنافي كون ديننا هو دينُ العقل والفطرة، وكونُه حتَّم علينا الإيمان بما يشهدُ له العيانُ من أنَّ سُنَنَهُ تعالى في الخلْق لا تبديل لها ولا تحويل”.

وضمن هذا الفهم المرتكز على العقل أولا، يُعلِّل محمَّد رشيد رضا إيمان البشر بالمعجزات الحسيَّة بسبب خضوعهم لما يتنافى مع مبدأ ارتباط الأسباب بالمسبِّبات: “وقد كان أكثر من آمن بتلك الآيات إنَّما خضعتْ أعناقهُم واستخذتْ أنفسهُم لِمَا لا يعْقلُون له سببًا، وقد انطوت الفطرةُ على أنَّ كلَّ ما لا يُعْرَفُ له سببٌ فالآتي به مَظْهَرٌ للخالِق؛ إنْ لم يكن هو الخالِقُ نفسه. وكان أضْعافُ أضْعافِهم يخْضَعُ مثلَ هذا الخضوع نفسه للسَّحرَة والمشعوذينَ والدَّجالين، ولا يزالون كذلك”.

كما أكَّد الإمام أنَّ اللّه تعالى يُعطي كلَّ رسول من الآيات ما يُناسب حال قومه وأهل عصره “ولـمَّا كانت العرب قد ارتقتْ في لغتِها فصاحةً وبلاغةً إلى درجة لم تتَّفِقْ لغيرِها، جعل اللَّه تعالى آية محمدٍ الكبرى إليهم كتابا مُعْجِزًا لهم ولسائر الخلْق في نَظْمِهِ وأسلوبِه وفصاحتِه وبلاغتِه، فقامتْ عليهم الحجَّة به بأقوى مما قامت آياتُ موسى وعيسى على قومهِما. فجعل الآية الكبرى على إثبات رسالة خاتم النَّبيين علمية دائمة لا تنقطع؛ وهي هذا الكتاب المعْجز للخلْق بما فيه من أنواع الإعْجاز، وكان مُستقلًّا مُطْلقا من أسْر النَّظريات المادية وقيود التَّقليد. إذ لا يتصوَّر عاقِلٌ يُؤمِنُ بربِّ العالمين أنْ يصدر هذا الكتاب من رجل أميٍّ ولا متعلِّم أيضًا، إلّا أن يكون وحيا اختصَّه به الربُّ عزَّ وجلَّ، ناهيك به وقد جزم بعجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله، ثمَّ تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، فهذا التحدِّي حجَّة مستقلَّة على نبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم.

وفي الأخير، لقد ظلت رؤية الإمام محمَّد عبده، وتلميذه محمَّد رشيد رضا من بعده، المتعلِّقة بالسُّنن الإلهية محكومة بإطار العقلانية من جهة، ومتَّسقة مع الدَّعوة القرآنية لضرورة إعمال مبادئ: التَّدبُّر، والتَّفكُّر، والتَّذكُّر في آيات الكون ومصائر الأمم السابقة من جهة أخرى. وقد أوضح الإمام نهجه الذي اتبعه في التَّفسير وغيره حين قال: “إنَّ العقل هو جوهر إنسانية الإنسان، وهو أفضل القوى الإنسانية على الحقيقة، ولقد تآخى العقل والدين لأوَّل مرة في كتاب مقدَّس على لسان نبي مُرسل بتصريحٍ لا يقبل التأويل، وتقرَّر بين المسلمين كافّة؛ إلَّا مَنْ لا ثقة بعقله، ولا بدينه فاللَّه يخاطب في كتابه الفكر والعقل والعلم بدون قيدٍ ولا حدٍّ… والذي علينا اعتقادُه أنَّ الدِّين الإسلاميَّ دينُ توحيدٍ في العقائد، لا دين تفريقٍ في القواعد. والعقلُ من أشدِّ أعوانِه، والنَّقلُ من أقوى أركانه”.