لم يكن التجديد الإيجابيُّ مرفوضًا داخل الثقافة الإسلامية، وكان تداوله تداولًا بريئًا لا يحمل أي شحنة ثقافية في رفض النقل عن السلف، ولا يعدّ المجدد خصيمًا للسلف ولا لإنتاجهم العلميّ، بل مستوعبًا وموضّحًا ما اندرس منه، وهنا استطاع المجدّدون من الأئمة البناء على المنجزات التي سبقتهم والإضافة إليها، دون الانحياز إلى فِناء آخر والبناء فيه بةحجة التجديد.
وقد كان المجددون من العلماء الراسخين في العلم معروفين بمؤهلاتهم التي تخوّلهم لهذا المقام العظيم، ومن أهمها لزوم غرز أهل العلم، والاتصاف بسمتهم ودلهم أي: «وقارهم»، مع طول ممارسة العلم، وهو ما غاب في زماننا؛ حيث صار التجديد علَمًا على المشاغبين وخريجي التخصّصات العلمية الذين لا يعرفون من الشرع إلا اسمه ومن الفقه إلا رسمه، ويوقعون شقاقًا بين تخصصاتهم وبين العلم الشرعي، ثم يتبرعون بممارسة وظيفة المجدِّد؛ ليخرقوا الإجماع، ويردوا التأويل، ويختلقوا لدين الله آليات جديدة؛ بحجة التجديد في الفقه والفهم.
– المجددون غير المؤهَّلين : ونظرا لكثرة المجددين غير المؤهَّلين وشيوع هذا الوصف، فإنه قد التبس على الناس أمر دينهم، وعمي عليهم مفهوم التجديد، وصار مريبا لما اتسم به مدَّعوه من خروج على الشرع، ورد لأحكامه، وتتفيهٍ لمنجزات السلف ومحاولة تجاوزها، ونحن في هذا المقال سنحدِّد مفهوم التجديد، ونبين من يحقّ له ذلك، وعلاقة التجديد بالتراث.
– مفهوم التجديد : التجديد لغة إعادة الشيء إلى سيرته الأولى، جدَّد الثوب تجديدًا: صيَّره جديدًا، وتجدَّد الشيء تجدُّدًا: صار جديدًا، تقول: جدَّده فتجدَّد وأجَدَّه -أي: الثوب- وجدَّده واستجدَّه: صيَّره، أو لبِسه جديدًا فتجدَّد. والجديد: نقيض البلى والخلق.
– التجديد في الاصطلاح : أما التجديد في الاصطلاح الشرعي: فهو اجتهاد في فروع الدين المتغيرة، مقيَّد محدود بأصوله الثابتة، قال – ﷺ -: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها.
– التجديد في الحديث : وعرف العلماء التجديد في الحديث بـ: «إحياء ما اندرس من معالم الدين، وانطمس من أحكام الشريعة، وما ذهب من السنن وخفي من العلوم الظاهرة والباطنة، وقد علق ابن حجر -رحمه الله- على الحديث فقال: «ولا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة، وهو متجه؛ فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يُدَّعى ذلك في عمر بن عبد العزيز؛ فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى، باتصافه بصفات الخير جميعها وتقدمه فيها، ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي، وإن كان متَّصفا بالصفات الجميلة، إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل، فعلى هذا كلّ من كان متَّصفا بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد، سواء تعدد أم لا.
– المجدد رديف للمجتهد : وجميع من تكلَّم في المجدِّد من العلماء جعله رديفًا للمجتهد، وطلبوا فيه ما طلبوا في المجتهد، قال ابن القيم -رحمه الله-: «الْمُفتون الذين نصبوا أنفسهم للفتوى أربعة أقسام: أحدهم: العالم بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة؛ فهو المجتهد في أحكام النوازل، يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت، ولا ينافي اجتهاده تقليده لغيره أحيانا، فلا تجد أحدًا من الأئمة إلا وهو مقلد من هو أعلم منه في بعض الأحكام، وقد قال الشافعي -رحمه الله- ورضي عنه- في موضع من الحج: قلته تقليدًا لعطاء، فهذا النوع الذي يسوغ لهم الإفتاء، ويسوغ استفتاؤهم، ويتأدَّى بهم فرض الاجتهاد، وهم الذين قال فيهم النبي – ﷺ -: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها»، وهم غرس الله الذين لا يزال يغرسهم في دينه، وهم الذين قال فيهم علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-: لن تخلو الأرض من قائم لله بحجته.
– المعرفة بالنصوص : ويلاحظ أن التجديد هو مستوى من المعرفة العالية بالنصوص والتمسك بها وعدم الخروج عن مدلولها، مع مراعاة الاتباع بشرطه الشرعي الذي يشمل الوقوف عند السنة واتباع سبيل المؤمنين المأمور به شرعًا في قوله -سبحانه-: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (النساء: 115).
– الانفلات العلمي: وهذا القيد من العلماء في مفهوم التجديد الظاهر أنه كان تحسُّسًا من الانفلات العلمي الذي يتَّسم به أهل البدع في كثير من أطروحاتهم الفقهية والعقدية، كما هو شأن سائر طوائف أهل البدع، وقد ظهر حديثًا في زمننا مجدِّدون جعلوا النصَّ هو محل التجديد، وجعلوا تجاوُزَه علامة الاجتهاد الحقيقيّ، بحيث لا يستقرّ للرجل قدَم في العلم حتى يثورَ على المألوف، ويتجاوز الإنجاز العلمي لدى السلف، ويعتبره تراثًا لابدَّ من نفضه من أجل الخروج إلى مساحة أوسع في التعامل مع النصوص.
– مسائل الاجتهاد : وهذه المحاولة عادَة ما تلغي كثيرًا من مسائل الاجتهاد وطرائق الاستدلال، وتصفها بالعوائق العقلية لعملية الاجتهاد والتجديد؛ لأنه لا يمكن التجديد في ظل الالتزام بضوابط السلف التي تعيق المبدع عن فهم النص فهمًا ذاتيًّا بعيدًا عن التوجيهات المؤدلجة للنصوص -كما يزعمون-، وقد أنتج هذا التوجُّه مظاهر تفلت أصحابها من الدين، وجعلوا القرآن عضين، ولم يكن لهم في القرآن من مشاركة غير التشكّي والتشكيك والردّ، أمَّا السنة الغراء فقد أخذت مقاعد الاحتياط، ونُظِر إليها بعين التهمة، واتخذوا أقوال العلماء والسلف ظهريًّا.