سلسلة طويلة من الترتيبات والإعدادات سبقت قوله ﷺ : { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] فأين كان استشعار النبي ﷺ معية الله في أثناء هذه الترتيبات!
مبدأ الهجرة
لم يستغرب النبي ﷺ مبدأ الهجرة ذاته، فلم يظن مثلا أنه ما دام أنه رسول من عند الله، فسوف ينصره الله على عدوه وهو في بلده مكة، وهو فيها قليل العدد والعدة، ليس معه سلطان ولا مال ولا إعلام، لم يستغرب أنه الآن بموازين القوى الأرضية أضعف منهم، فلم يستغرب أن تقاس الأمور بالموازين الأرضية وهو رسول الله ﷺ، فلم يقل مثلا : لماذا نهاجر، والله معنا !
القناع
كانت قريش قد اتخذت قرارها بقتله ﷺ، وعينت ساعة الصفر، فعلم النبي ﷺ أن العيون ترصده، فأمر علي بن أبي طالب أن يبيت في فراشه هذه الليلة، ومضى إلى أبي بكر مغطيًا رأسه، وذهب إليه في ساعة لم يكن يعتاد الذهاب إليه فيها، تقول عائشة : “فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله ﷺ متقنعا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها”.
البعير والبراق
لم يدُر بخلده ﷺ أن تكون رحلته على البراق الذي امتطاه في رحلة الإسراء والمعراج، تلك الدابة التي تضع حافرها عند منتهى طرفها، فتنقله إلى مكان هجرته قبل أن يقوم القائم من مقامه، أو قبل أن يرتد إليه طرْفه!
بل أخذ يتلمس الدابة التي يركبها الناس في هجرتهم، يركبها المسلم والكافر على السواء، فقد قال له أبو بكر : خذْ – بأبي أنت يا رسول الله – إحدى راحلتي هاتين، فقال رسول الله ﷺ: “بالثمنِ”.
حتى تجهيز الراحلتين كان تجهيزا على مقتضى العادة، قالت عائشة : “فجهزناهما أحث الجهاز. أي أسرعوا جدا في التجهيز مخافة أن تدركهم العيون!
طعام الرحلة
حتى الطعام الذي سيحتاجانه في الرحلة، قالت عائشة : ” صنعنا لهما سُفرةً في جرابٍ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعةً من نطاقها، فربطت به على فم الجراب”. لم يستنكر النبي ﷺ إعداد الطعام قائلا مثلا : إننا خارجون لله؛ فسيطعمنا الله ويسقينا !
بل لم يستنكر أن تقطع أسماء نطاقها ( حزامها) لتربط به جراب ( كيس) الطعام، متصورا أن الكيس سوف يستمسك وحده بقدرة الله دون حاجة لنطاق أسماء الذي ربما كانت لا تملك غيره!
تستر وتخفّ
لم ينطلق الرسول ﷺ وصاحبه في رحلتهما متناسيين ملاحقتهما من قريش، ففي أثناء الخروج من بيت أبي بكر، خرجا “من خوخة في ظهر بيت أبي بكر” كما عند ابن إسحاق. وهذا زيادة في التستر والتخفي!
ولم يبدءا المسير مباشرة، بل عمدا إلى مكان للاختباء فيه عن الأعين ، تقول الرواية : ” ثم لحق رسول الله ﷺ وأبو بكر بغار في جبل ثور ، فكمنا فيه ثلاث ليالٍ” هكذا يكمنان ويستتران من الملاحقة كما يستتر أي مطارَد مسلما كان أو غير مسلم!
متابعة الأخبار
-حتى متابعة أخبار زعماء مكة، لم يدر بخلده أن الله سيخبره بها عن طريق الوحي، تقول الرواية: ” يبيتُ عندهما عبدُ الله بن أبي بكر، وهو غلام شابٌ ثقِفٌ لقِنٌ، فيدلج من عندهما بسَحَر، فيُصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمعُ أمراً يكتادان به إلا وعاهُ، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام”
الطعام لن يكفي
-كان الطعام الذي تجهزا به قليلا لا يكفي مدة الرحلة، فكان كما تقول الرواية : ” يرعى عليهما عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما، حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث” أي كان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يذهب إليهما بالغنم ليلا، ليشربا من ألبانها، ثم يسرح عامر بالغنم نهارا كما يسرح سائر الناس.
– الرحلة تحتاج إلى مرشد خبير بالطرق للوصول إلى المدينة، لم يظن النبي ﷺ أن الله سينزل عليه وحيًا يهديه السبيل إلى المدينة، أو يسخر له نجوما علامات للوصول، ولكنه فعل كما يفعل أي مهاجر، تقول الرواية : ” استأجر رسول الله ﷺ وأبو بكر رجلا هاديا خريتا، والخريت الماهر بالهداية، وهو على دين كفار قريش، فأمِنَاه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال”.
أين معية الله إذن؟
قام النبي ﷺ بهذه الترتيبات الفنية والإستراتيجية، والتي لا يمكن لأي خبير إستراتيجي أن يضيف إليها شيئا بعد مرور أربعة عشر قرنا من الزمان؛ لأنها كانت غاية في الإتقان والإحسان.
ويشاء الله سبحانه أن يصل المشركون بعد كل هذه الترتيبات إلى الغار الذي يختبئان فيه، فيقول أبو بكر لرسول الله ﷺ : ” لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا” فيجيبه النبي ﷺ إجابة الواثق من قدرة ربه، والمستشعر معية ربه : { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]
إن المعية التي يتحدث عنها النبي الآن ليس معية الإحاطة، التي قال الله فيها : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].
ولكنها معية المعونة والنصرة والحفظ ، وهذا هو أوان نزولها، إن معونة الله لها وقت لنزولها على عباده، حتى لو كانوا رسله.
هذه المعية لا تتنزل إلا بعد أن يقدم كل شخص غاية ما يقدر عليه، ويستنفذ جميع طاقاته، فإذا طاشت بعد هذه القوى، وأخفقت هذه الخطط،واستعرض الباطل قوته زهوا وبطرا .. عندئذ يقول الله للنار: كوني بردا وسلاما على إبراهيم؛ لأن إبراهيم لا يمكنه بإمكاناته المحدودة أن يطفئ النار بفمه، ولكن يمكنه أن يثبت حينما يهدد بالرمي فيها ، وقد فعل.
عندئذ ينزل الوحي لينهى الرسول أن ينام في بيته الليلة، فقد أتى جبريل رسول الله فقال”: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. قال: فلما كان العتمة من الليل اجتمعوا على بابه فترصدوه متى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله مكانهم قال لعلي بن أبي طالب. نم على فراشي واتشح ببردي الحضرمي الأخضر، فنم فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم وكان رسول الله ينام في برده ذلك إذا نام. [الصحيح من أحاديث السيرة النبوية (ص: 141)]
عندئذ، يُنزل الله في الغار جنودا لا يراها أحد، يدفع بها هذه القوة المتربصة؛ لأن محمدا ﷺ قدم كل ما عنده، فالآن تنكشف المعركة بين الله وبين وأعدائه، فيديرها الله – جلت قدرته- دون ستار لهذه القدرة، فيسلط ما يشاء من جنده على أعدائه .
ولأن رسول الله ﷺ يدرك هذا المعنى بيقين ، فإنه جلس مستريح البال ، هادي الخاطر، واثق القلب، وأسند ظهره لحائط الغار، وأعين المشركين أمامه، لو نظروا تحت قدميه لرأوه، فيقول مقولة الواثق، وكأنه يرى المعركة وقد انكشفت بين الله وأعدائه : ” يا أباكر ، لا تحزن ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما” إنه الآن يرى الله يدير معركته ؛ لأن مناديبه وخلفاءه الآن لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا ، فقد قدموا كل شيء، والله عز وجل يقول : ” ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد/4] وقد ابتلى الله نبيه ، فرأى ما يحب أن يرى.
وبعدُ، فإن من يظن أن الله ناصره لمجرد أنه مسلم دون أن يتخذ أسباب النصرة، إنما هو شخص لم يتعلم درس الهجرة.