ذكرنا في المقال السابق نماذج للتراجعات العلمية في فَهْمِ الدين، منذ العصر النبوي إلى عصرنا الذي نعيشه، وقد طالت النماذج المذكورة المحدثين والفقهاء، كما طالت الاجتهادات الفردية، والاجتهادات الجماعية.
فما أبرز أسباب ودواعي هذه التراجعات ؟
السبب الأول :تغير العرف
وهذا السبب ليس مما نهدف إلى ذكره الآن؛ لأنه لا إشكال في حدوثه، كما أنه ليس في الحقيقة تغييرًا في الاجتهاد، ولكنه تغير في الواقع؛ فهو كما لو كان مسألة أخرى غير المسألة الأولى؛ ولذلك حرصنا أن لا تكون النماذج التي ذكرناها مما طرأ عليها التغيير، أن لا يكون تغير العرف هو السبب فيها.
السبب الثاني: ضغط الحاجة
ضغط الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، أو اتساعها لتشمل طائفة بعد أن كانت خاصة بفرد أو مجموعة أفراد، وذلك كفتوى الدكتور القرضاوي في جواز شراء المسكن بقرض ربوي للمسلمين في الغرب عند عدم القدرة على شرائه بدون القرض الربوي؛ وذلك بعد أن كان يحرم هذا الأمر في أول حياته، لكن ضغط الحاجة والصوت الزاعق لأصحاب الحاجات، والشكوى المتكررة منهم، والوقوف المباشر من الدكتور القرضاوي كما ذكر هو بنفسه على مدى الاحتياج جعلته يغير فتواه، ومن ثم تبناها المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.
ولا ينكر أحد أن الإلحاح من المستفتي قد يجعل المفتي ينتقل معه من المقام الأفضل إلى المقام الفاضل، أو يجعله يرق لحاجة المستفتي ويشعر باحتياجه فيرخص له؛ فعن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: إن لي امرأة لا ترد يد لامس فقال النبي ﷺ: «طلقها» قال: إني أحبها، قال: «فأمسكها إذا! [صحيح سنن النسائي (رقم3465).]. وما حدث بين ابن القاسم وولده من هذا القبيل فيما نرى .
السبب الثالث : الإكراه :
فقد يكره المفتي على التراجع عن فتوى معينة تحت أي سبب كان، كأن يهدد في نفسه أو ماله أو ولده، ومثال ذلك ما حدث في زمن الامام أحمد رحمه الله (في فتنة خلق القرآن) حيث أفتى كثير من أهل العلم في زمنه بما يوافق قول المعتزلة، فقد جاء في إحدى الروايات التاريخية – كما جاء في ميزان الاعتدال – عندما سئل أحد المفتين بخلق القرآن بخلاف ما كان يفتي به قال: (خفت القتل، ولو أنى ضربت سوطاً لمت)، فمن هذه الرواية وغيرها يتبين أنهم عُرِضوا على السيف، إما أن تفتي بكذا أو تقتل، فاضطروا للافتاء والرجوع عن الفتوى السابقة، وهو رجوع لا يعتد به، ولا يجوز التعبد به، ولا ينبغي التثريب على العالم بذلك إن ثبت الاكراه.
السبب الرابع: الوقوف على خطأ في الاجتهاد الأول
الوقوف على خطأ في الاجتهاد الأول أدى إلى الخطأ في الاجتهاد، فإذا بالمجتهد يكتشف وجود الخطأ، فيعدل عن اجتهاده الخطأ، وقد يكون سبب هذا الخطأ :
– السهو والغلط ، ومثال ذلك ما ذكره الألباني في حديث: (حَضْرَمَوْتُ خَيْرٌ مِنْ بني الحارثِ) . فقد ذكره الألباني في ضعيف الجامع، ثم قال في السلسلة الصحيحة (7/121): [وقع حديث الترجمة سهواً في ضعيف الجامع(7225) ، وهو من حق صحيح الجامع ، فلينقل إليه، وأستغفر الله وأتوب إليه] .
– اتساع العلم بعد ضيقه، وغزارته بعد قلته، أو إعادة تصور المسألة بشكل كامل بعد زوال الضبابية عنها.
– استعظام وقوع الخطأ من المجتهد
يستعظم بعض الناس المراجعات التي كان الخطأ سببها، أو كان قلة العلم سببها، أو قلة الملكة الفقهية، أو غياب المعلومة، أو عدم المعرفة بوجود حديث مخالف.. يستعظم بعض الناس، وخاصة الشباب أن يقع هذا من العلماء، الذين يحملون هذا الدين، متصورين أن حفظ الله لدينه يقتضي عصمة العلماء من الزلل والخطأ.
والحق أن هذا تصور خطأ من هؤلاء الشباب، ووضع للعصمة في غير موضعها، فليس أحد من المجتهدين إلا وهو معرض للخطأ عدا رسول الله ﷺ، بل حتى رسول الله ﷺ ليس معصوما من الخطأ في الاجتهاد، ولكنه معصوم من الإقرار على الخطأ، فهو يخطئ لكن الوحي يصحح له كما سبق في حديث غفران الذنوب للشهيد.
وسبب هذا اللبس أمران:
الأمر الأول : عدم الإدراك الصحيح لمعنى الاجتهاد.
فبعض الشباب يتصور أن الاجتهاد معناه إصابة الحق، وهذا ليس صحيحا، بل الاجتهاد هو بذل الجهد من المجتهد الذي حقق أهلية الاجتهاد، ثم قد يصل إلى الحق وقد يخطؤه، ففي واقعة بني قريظة لم يلُم النبي ﷺ أحدا من الفريقين مع أنهما اختلفا اختلاف تضاد، فأحد الفريقين صلى العصر في وقتها معتبرًا أن هذا هو الصواب، والفريق الآخر أخَّر صلاة العصر إلى ما بعد المغرب معتقدًا أن هذا هو الصواب.
لم يلُم النبي ﷺ الفريق المخطئ ؛ لأنه بذل ما عليه، وهو الاجتهاد، ولم يكن أمامه للتعرف على الحكم سوى الاجتهاد.
الأمر الثاني : الظن بأن الخطأ في الاجتهاد لا يرفع الإثم، فتجد أحدهم يقول لك: فإذا خرج علينا المجتهد بتصحيح رأيه، فماذا نفعل وقد عشنا ردحا من الزمان نقلده في اجتهاده الخطأ؟ كيف نصحح هذا الخطأ؟
والذي ينبغي أن يُعلم هنا أن المصيب في المسائل الاجتهادية مأجور، والمخطئ فيها معذور، وخطؤه فيها مغفور، بل هو مأجور بنص الحديث ، فعن عمرو بن العاص، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر” [اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (2/ 195)] والمهم هنا أن يقع الاجتهاد ممن جمع شروط الاجتهاد، وإلا فإن اجتهد دون أن يجمع شروط الاجتهاد فإنه يكون آثما.
ووقوع الخطأ من العلماء يجعل بعض الشباب يتصور أنه من حقه هو الآخر أن يجتهد في فهم الدين؛ باعتبار أن الكل معرض للخطأ، وأن الإثم مرفوع عن المخطئ؛ فلماذا إذن يكون الاجتهاد حكراً على العلماء .
والجواب أن الإثم في الخطأ مرفوع عمن استجمع شروط الاجتهاد لا عن كل أحد؛ ولذلك دعا رسول الله ﷺ على من اجتهد بدون علم، فأفتى المشجوج في البرد بوجوب الغسل فاغتسل فمات؛ فدعا رسول الله ﷺ فقال: {قتلوه, قتلهم الله, هلا سألوا إذا لم يعلموا؟ إنما شفاء العي السؤال} . [ متفق عليه]
وفي المقابل لما أخطأ بلال، فاشترى الصاع بالصاعين، يعني وقع في الربا، أمره النبي ﷺ برد هذا البيع دون أن يفسقه أو يلعنه أو يغلظ عليه؛ لأن بلالا أهل للاجتهاد.
السبب الخامس: تزوير الدين
من أسباب تغيير المفتي فتواه، رسوبه في الاختبار، وتقديمه للدنيا على الدين، قال تعالى في مثل هؤلاء : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } [البقرة: 79] ، وقال تعالى : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] ويكون هذا أكثر ما يكون في علماء السلطة، الذين يزورون الدين حسب هوى الحاكم، فمن حق الإنسان أن يستريب في العالم إذا غير اجتهاده بعد تقلده سلطة دينية في الدولة، وبخاصة في القضايا التي تحرص الدولة على تبني آراء معينة فيها !
كما من حق الباحث أن يستريب في العالم إذا انقلب على فكره كله، وغير اجتهاده كله بعدما كان يدافع عن اجتهاده الأول باستماتة !