لقد جبلت النفس البشرية على فطرة الاهتمام بالذرية، فترى الآباء يسعون بكل ما أوتوا من القوة لحماية أبنائهم، ويبذلون الغالي والنفيس في سبيل بنائهم بناء معرفياً وسلوكياً. لكن هذه الآمال السامية كثيراً ما تصطدم بعقبات واقعية، لعل من أبرزها: الأساليب التربوية الخاطئة التي يمارسها بعض المربين، إضافة إلى اتساع الهوة بين الأجيال وصعوبة التعامل معها، وغيرها من العقبات.

يسلط هذا المقال الضوء على أبرز الأنماط التربوية السائدة اليوم، محللاً مواطن الخلل فيها، ومستعرضاً المنهج الإسلامي في التربية، كبديل متوازن محكم.

أنماط المربين المعاصرين بين الإفراط والتفريط

إن المتأمل في حال المربين اليوم يجدهم ينقسمون إلى ثلاثة أنماط:

  • نمط يعتمد العنف والقسوة: النمط المتسلط.
  • وآخر يعتمد التساهل واللين: النمط المتساهل
  • وثالث حازم يوازن بين الحزم والرحمة: النمط الحازم

النمط الأول النمط المتسلط

يعامل أصحاب هذا النمط أبناءهم كما لو كانوا في ثكنة عسكرية؛ أوامر صارمة، طاعة عمياء، عقوبات لا تنتهي. لا يعرفون من التربية إلا لغة التهديد والوعيد، ولا يجيدون إلا فن الصراخ والتعنيف اللفظي أو الجسدي.

يؤمن هؤلاء أن التربية إن لم تكن قاسية فلن تجد نفعاً، وأن اللين والحوار يسقط الهيبة الأبوية. بل إن بعضهم لا يستطيع التواصل مع أولاده إلا بنبرة الغضب المشتعلة، وسيل الكلمات الجارحة.

والنتيجة؟ أطفال محطمون: يعانون من آثار نفسية واجتماعية وسلوكية خطيرة، تتمثل في؛ قلة الثقة بالنفس، والقلق، مع إمكانية نشوء فعل عدواني أو انسحاب اجتماعي كرد فعل سلوكي على آبائهم، إضافة إلى ضعف الأداء الدراسي، والنفور من القيم الدينية التي تُفرض عليهم بالقوة.

النمط الثاني النمط المتساهل

على النقيض تماماً، يوجد نمط آخر يطلق عليه حديثاً “التربية الناعمة -الكيوت-“، يتسم أصحاب هذا النمط بالمبالغة في تلبية جميع احتياجات أبنائهم، والحرص المفرط على راحتهم النفسية ولو على حساب تقديرهم واحترامهم لآبائهم.

ومع غياب الضوابط والقواعد الناظمة للأسرة، تغيب القيّم والمسؤوليات؛ فلا يكلف الأولاد بأية واجبات، بل تراهم يمضون أوقاتهم في اللهو والألعاب. بينما يعمل آبائهم ساعات إضافية لتلبية احتياجات لا تنقضي، ورغبات لا تنتهي.

والنتيجة؟ جيل متواكل، متململ، أناني، كسول. لا يقدر جهود والديه، ويرغب في الأخذ دون العطاء، ويتنصل من مسؤولياته معتمداً على الآخرين.

النمط الثالث النمط الحازم

بين هذين النقضين؛ ثمة من يسعى لخلق توازن دقيق بين اللين والحزم، وبين الترغيب والترهيب. هؤلاء يدركون أن التربية تحتاج جرعات متوازنة من الحب والحزم، والعطف والقسوة. يعلمون خطورة التعنيف اللفظي والجسدي، غير أنهم في الوقت نفسه يدركون خطورة الإفراط في التدليل.

يؤمن أصحاب هذا النمط أن التربية لابد فيها من الحب والعفو والصفح والتغافل، وتحتاج أيضاً أن توشّح بغطاء من المنع الحكيم، والقسوة المنضبطة، والحزم المغلف بالرفق والرحمة.

والنتيجة؟ أبناء سعداء؛ واثقون بأنفسهم، قادرون على الاستقلال في اتخاذ القرار. يحبون آبائهم ويتفاعلون معهم في تواصل أسري فعّال. يتمتعون بمهارات عالية في الأداء الدراسي والتواصل الاجتماعي.

المنهج الإسلامي في التربية

يمثل النمط الثالث “النمط الحازم” المنهج الإسلامي المتوازن في تربية الأبناء، حيث زخرت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بالحث على الرفق والرحمة والمحبة في التعامل مع الأبناء، مع التمسك بالحزم والانضباط بالقواعد الشرعية التي تُقوّم سلوك العبد كبيراً كان أو صغيراً، وفيما يأتي مقتطفات من هذا المنهج الرباني:

من القرآن الكريم

  • الإحسان في التوجيه : يقول الله تبارك وتعالى: { ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجادِلْهم بِالَّتِي هي أحْسَنُ } [النحل،123]. فإذا كان الله تعالى يأمر نبيه باتباع الحكمة والرفق واللين في الموعظة من غير فظاظة أو تعنيف حتى مع المشركين، فاتباع هذه المنهجية مع الأبناء أولى وآكد.

  • الرفق في التربية: يقول تعالى: { فَبِمَا رَحۡمَةࣲ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِیظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّوا۟ مِنۡ حَوۡلِكَۖ } [آل عمران ١٥٩]. في إشارة بليغة إلى صفات المربي الناجح؛ يخبر الله تعالى أنه من كان قاسي القلب، سيء الخلق، قليل الاحتمال ينفض الناس عنه، ولا يستجيبون لرغباته وأوامره.

  • المسؤولية التربوية : يقول الله تبارك وتعالى داعياً المؤمنين للقيام بمسؤوليتهم تجاه أنفسهم وأهليهم: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ قُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِیكُمۡ نَارࣰا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَیۡهَا﴾ [التحريم ٦].

  • العفو والصفح والتغافل عن الأخطاء:يقول الله تعالى: { يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ مِن أزْواجِكم وأوْلادِكم عَدُوًّا لَكم فاحْذَرُوهم وإنْ تَعْفُوا وتَصْفَحُوا وتَغْفِرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [التغابن،14]. قد يكون بعض الأزواج والأولاد فتنة للإنسان إما في أمر الدين أو الدنيا، لكن الخلق القرآني الرشيد يأمر بالعفو – وهو ترك المعاقبة على الذنب بعد الاستعداد لها-، والصفح -أي الإعراض عن المذنب دون توبيخ-، والمغفرة – وهي ستر الذنب وعدم إشاعته-.

  • أثر صلاح الآباء في الأبناء: يقول تعالى: ﴿وَلۡیَخۡشَ ٱلَّذِینَ لَوۡ تَرَكُوا۟ مِنۡ خَلۡفِهِمۡ ذُرِّیَّةࣰ ضِعَـٰفًا خَافُوا۟ عَلَیۡهِمۡ فَلۡیَتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَلۡیَقُولُوا۟ قَوۡلࣰا سَدِیدًا﴾ [النساء ٩] فصلاح الآباء وتقواهم يتعدى أثره إلى صلاح الذرية وفلاحها، وكما قال بعض المفسرين: “تقوى الأصول تحفظ الفروع”.

ومن السنة النبوية

  • التعبير عن حب الأبناء والاهتمام بهم: كان يعبر عن حبه لأبناءه ولأحفاده ولصحابته رضي الله عنهم أجمعين، فكان يعانق الحسن رضي الله عنه ويقول: «اللهم إني أُحِبُّه، فأَحِبَّه، وأَحْبِبْ مَن يُحِبُّه» [صحيح مسلم، 2422]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «جَاءَ أعْرَابِيٌّ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ؟ فَما نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أوَأَمْلِكُ لكَ أنْ نَزَعَ اللَّهُ مِن قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ!» [الأدب المفرد، 90].

  • الرفق في القول والفعل: يحثنا رسول الله على التعامل برفق في الأمور كلها، فقد نبه السيدة عائشة رضي الله عنها لهذا الخلق عندما كانت تركب جملاً «فيه صعوبة» -غير مذلل- «فجَعَلَتْ تُرَدِّدُه»، أي: تمنعه وتدفعه بشدة ليستجيب لها، فقال لها رسول الله : ” ما كان الرفقُ في شيءٍ إلا زانَه ولا نُزِعَ من شيءٍ إلا شانَه” [الأدب المفرد،446]. فالرفق وهو لين الجانب بالقول والعمل لا يكون في أمر سواء أكان مع الحيوان أو الإنسان إلا “زانه” أي كمّله وحسنه، ولا ينزع من أمر إلا “شانه” عابه وجعله ناقصاً. وفي السياق ذاته: «اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ علَى النبيِّ ، فقالوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُالت عائشة رضي الله عنها: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ واللَّعْنَةُ، فقالَ: يا عائِشَةُ، إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ في الأمْرِ كُلِّهِ قُلتُ: أوَلَمْ تَسْمَعْ ما قالُوا؟ قالَ: قُلتُ: وعلَيْكُم» [صحيح البخاري، 6927] وفي رواية: «يا عائِشَةُ إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعْطِي علَى الرِّفْقِ ما لا يُعْطِي علَى العُنْفِ، وما لا يُعْطِي علَى ما سِواهُ». [صحيح مسلم، 2593].

وقوله يعد قاعدة جوهرية في كيفية تعامل الآباء مع الأبناء. وتحت هذه القاعدة يوجد أحاديث كثيرة تتفرع عنها منها، قوله : ليس منَّا من لم يرحَمْ صغيرَنا ويُوقِّرْ كبيرَنا» [سنن الترمذي، 1919].

  • مداعبة الأبناء وإدخال السرور عليهم: كان رحيماً بالأطفال؛ يحبهم ويلاطفهم، ويعلمهم أمور دينهم بلطف ورحمة وحب، فيقبلون عليه بقلوبهم وعقولهم مستئنسين مستمتعين، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: «ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله » [صحيح مسلم، 2316]. وعنه أيضاً يقول: «كانَ النَّبيُّ أحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وكانَ لي أخٌ يُقَالُ له: أبو عُمَيْرٍ -قالَ: أحْسِبُهُ- فَطِيمًا، وكانَ إذَا جَاءَ قالَ: يا أبَا عُمَيْرٍ، ما فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» [صحيح البخاري، 6203] -والنغير: طائر صغير كالعصفور-

  • ضوابط التأديب:وأما في باب التأديب، فقد كان لنا في رسول الله أسوة حسنة، فالخير كل الخير في اتباع هديه وسنته، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ما ضَرَبَ رَسولُ اللهِ شيئًا قَطُّ بيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا؛ إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ في سَبيلِ اللهِ، وَما نِيلَ منه شَيءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِن صَاحِبِهِ؛ إلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيءٌ مِن مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» [صحيح مسلم، 2328].

 في الحديث دعوة إلى التيسير والمسامحة والبعد عن الغضب في غير محله، وذلك بوضع الأمور في نصابها؛ فلا يغضب المربي إلا بانتهاك حرمات الله وحدوده، أما فيما عدا ذلك من أمور الدنيا فعليه أن يتغافل ويتسامح وييسّر. ويقول في ذلك: «يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وبَشِّرُوا، ولا تُنَفِّرُوا» [صحيح لبخاري، 69].

وعلى الرغم من أن النبي لم يضرب أحداً بيده قط، غير أن الشريعة لم تمنع الضرب كوسيلة للتأديب والإصلاح، لا لتفريع شحنات الغضب والانتقام، ومن ذلك تشريع الضرب والجلد في الحدود؛ كحد القذف مثلاً.

وقيّد العلماء الضرب التأديبي للأولاد بضوابط واضحة، لا تتعدى الغرض الإصلاحي الذي وضعت له، ومن ذلك:

  • منع ضرب الوجه والأماكن الحساسة من الجسم.
  • ألا يكون الضرب مبرّحاً يؤذي وألا يتجاوز عشر ضربات.
  • أن يكون الغرض منه إصلاح الولد لا التشفي، فإن عُلم أن هذه الوسيلة لا تصلحه فلا يؤخذ بها إطلاقاً.
  • أن يكون المربي قد استنفذ جميع وسائل الترغيب والتنبيه والتحذير قبل اللجوء إلى الضرب. ومن ذلك قوله ” مُروا أولادَكم بالصَّلاةِ وهُمْ أبناءُ سَبْعِ سنينَ، واضرِبوهُمْ عليها وهُمْ أبناءُ عشْرٍ” [رياض الصالحين، 156]، فتعويد الطفل على الصلاة يبدأ من عمر السابعة، ولا يضرب عليها إلا وهو ابن العاشرة إذا كان ممتنعاً عنها، لأن المربي إذا قام بواجبه ورغبّ الطفل في الصلاة في عمر السابعة، واستمر على ذلك إلى العاشرة، لن يُضطر لضربه عليها بعد ذلك، إلا في حالات نادرة يكون فيها الطفل صعب المراس، يحتاج جهداً مضاعفاً في التربية والإرشاد.

وأما فيما يتعلق بالتعنيف اللفظي فقد نهى رسول الله عن القول الفاحش والبذيء وعن كل ما يؤذي النفس ويتعبها، والأحاديث في ذلك كثيرة، منها قوله : «ليس المُؤمِنُ بالطَّعَّانِ ولا اللَّعَّانِ ولا الفاحشِ ولا البَذيءِ» [سنن الترمذي، 1977].

كان هذا غيض من فيض من المنهج الإسلامي في التعامل مع الأبناء، الذي أمرنا به الله تعالى ونبيه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

نحو تربية متوازنة

ختاماً؛ مهما تتبعنا طرائق التربية الحديثة فإننا لن نجد منهجاً شاملاً متكاملاً يغطي جميع جوانب شخصية الإنسان، كالمنهج الإسلامي المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية المشرّفة. هذا المنهج المتوازن الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، والذي يجمع بين العلم والحكمة، وبين الحزم واللين، وبين الترغيب والترهيب، وهو خير منهج لبناء أجيال متفاعلة قوية، واثقة بدينها، معتزة بأصالتها، واعية برسالتها اتجاه خالقها ومجتمعها.