لا يولد التطرف الفكري من فراغ، بل ينشأ حين تتلاقي ظلمات الجهل بلهيب التعصب، فيتحول الخلاف الطبيعي إلى معركة إقصاء، ويتبدل الحوار إلى ساحة اتهام وتخوين. حينها يصبح الفكر سجيناً، والقلوب ملوثة بالكراهية، والدين مغيبًا عن مقاصده الحقيقية.
لقد جاء الإسلام دين رحمة وعدل، يقرر قاعدة التعايش والحوار، كما قال تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ ﴾ (النحل:125). فالحكمة والموعظة الحسنة هما السياج الذي يحمي من الانزلاق إلى مسار التطرف.
وفي السنة النبوية، يضع النبي الكريم ﷺ مبداً جامعاً حين قال:” المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا” (متفق عليه)، وهذا البناء لا يقوم على الإقصاء أو الكراهية، بل على التعاون والرحمة.
لكن حين يغيب العلم الشرعي الرصين، ويتصدر المشهد الجهلة والمتعصبون، تتحول النصوص إلى أدوات انتقاء وانتقام، ويصبح الانتماء للجماعة أو المذهب أهم من الانتماء للإسلام نفسه. وهنا يبدأ الإرهاب الفكري، حيث يقصى المخالف، ويتهم في دينه، وربما يستحل عرضه ودمه.
التاريخ مليء بالشواهد على أن التعصب الأعمى كان دائماً وقودًا للفتن، كما حدث في الصراعات المذهبية التي مزقت وحدة المسلمين، وأشغلتهم عن مواجهة أعدائهم. واليوم، لا تختلف الصورة كثيراً، بل زادها الإعلام الموجه اشتعالاً، حتى صار الاختلاف البسيط سبباً للعداء.
ولكي نواجه هذا الداء، لابد من إحياء منهج الوسطية الذي أمر الله به تعالى: ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ (البقرة: 143)، وتعليم الأجيال أن الخلاف سنة كونية، وأن الرحمة بالخلق من تمام الإيمان، كما قال ﷺ:” لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” (رواه البخاري ومسلم).
إن مكافحة التطرف تبدأ من البيت والمدرسة والمنبر، بتعليم الناس فقه الاختلاف، وآداب الحوار، وحرمة الدماء والأعراض، وغرس أن الدين الذي جاء به محمد ﷺ ليس دين قتل ولا إقصاء، بل دين حياة وعدل ورحمة.
فلنكن جميعاً سداً منيعاً أمام الجهل والتعصب، ولنجعل عقولنا وقلوبنا جسرًا للحوار والتفاهم، بدل أن تكون معبراً للكراهية والانقسام.