إذا كان من الشائع أن يقال عن بعض العلوم إنها “نضجت واحترقت”؛ أي استوفت بيان كلياتها وجزئياتها ومقاصدها؛ فإن هذه المقولة نحتاج لإعادة النظر فيها، فيما يخص “علم التفسير” والدراسات القرآنية، بعد أن أخذت بحوثُه تأخذ منحى جديدًا فيما يعرف بـ”التفسير الموضوعي”.

و”التفسير”، كما عرّفه الزركشي، هو “عِلْمٌ يُفْهَمُ بِهِ كِتَابَ اللهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِ محمدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ، وَبَيَانَ مَعَانِيهِ، وَاسْتِخْرَاجِ أَحْكَامِهِ وَحِكَمِهِ”([1]). فهو يهدف إلى بيان معاني القرآن الكريم، والوقوف على أحكامه وتوجيهاته.

و”علم التفسير” ينقسم، من زاوية عامة، إلى قسمين:

القسم الأول: “التفسير التحليلي” أو “الموضِعي”، وهو الشائع؛ ويهتم بشرح القرآن كلمة كلمة وآية آية.. ويتنوع في اتجاهاته بين الاهتمام بالنواحي اللغوية، أو البلاغية، أو الفقهية، أو العقدية، أو غير ذلك.

ويكاد يكون هذا التفسير قد استوفى أغراضه، وبلغ غاية عظمى في ذلك، ولا يبقى إلا تيسيره للوصول إلى شرائح أوسع من غير المختصين. ولهذا كتب كثيرون “التفسير الميسر” أو “المختصرات” من التفسيرات السابقة.

ما هي أنواع التفسير الموضوعي؟

أما القسم الثاني من التفسير فهو “التفسير الموضوعي”؛ وهو ينصب على الاهتمام بالقرآن الكريم من زاوية إجمالية، تدور على “الموضوع” وليس على “الموضع”.
وهذا “التفسير الموضوعي” يُطلق على نوعين:
النوع الأول: محاولة الكشف عن معنى واحد أو عدة معانٍ تدور حولها السورةُ الواحدة.. فيما سمّاه البعض “الوحدة الموضوعية” للسورة؛ كما فعل الدكتور محمد عبد لله دراز في كتابه (النبأ العظيم).. أو فيما حاوله الشيخ محمد الغزالي من “رَسْمِ (صورة شمسية) للسورة تتناول أولها وآخرها، وتتعرف على الروابط الخفية التي تَشدها كلَّها، وتجعل أولها تمهيدًا لآخرها، وآخرها تصديقًا لأولها”([2]).
والنوع الثاني: تتبع الموضوع الواحد في طول القرآن الكريم؛ مثل: الصبر في القرآن، أو المرأة في القرآن، أو الجهاد في القرآن([3]).
وقد أشار الشيخ الغزالي ود. البيومي، إلى أن مستقبل الدراسات القرآنية هو في “التفسير الموضوعي”، لاسيما في نوعه الثاني، أي تتبع الموضوع الواحد في طول القرآن الكريم([4]).

وميزة هذا التطور في الدراسات القرآنية أنه يكشف عن أبعاد جديدة في هدايات القرآن قد لا يوضحها “التفسير التحليلي”، الذي شاع من قبل..

كما أنه يَزيد الموضوعَ محلَّ الدراسة، وضوحًا وبيانًا، بحيث تتوافر لدينا صورةٌ صادقة عنه حسبما ورد في مواضع متفرقة من كتاب الله، وتتكامل الآياتُ في تفسير بعضها بعضًا، ونمنع هذه الحالةَ غير السوية التي يتمسك فيها البعض بآية واحدة عن موضوع ما، بينما يُغفل الآيات الأخرى التي تناولت الموضوع نفسَه.

ما هي فوائد التفسير الموضوعي؟

يذكر د. عبد الستار فتح الله سعيد أن “التفسير الموضوعي”، بنوعه الثاني، له أهمية فائقة وضرورة بالغة في هذا العصر الذي تقاربت فيه المسافات، وتشابكت فيه الأقطار والأمصار، واختلطت المذاهب والأفكار، وصار كل حزب بما لديهم فرحون، وكل فريق يصارع من أجل اكتساب عقول الأمم والشعوب.. فتبدو الحاجة ماسة إلى هذا اللون من التفسير، لما له من فوائد أساسية؛ منها:
1- إبراز إعجاز القرآن على وجه يلائم العصر: فحين نجمع “نجوم القرآن”- أي متفرقاته- معًا، نجدها على غاية التوافق والتناسق، وكأنّ أقساطه جميعًا نزلت في وقت وحد، تعالج قضية ما في موعدها وظروفها.. ونجد قانونًا واحدًا ينتظم النجوم جميعًا. وهذا ضرب بالغ الإعجاز، لا يستطيعه بشر مهما أوتي من إحكام العقل، وجودة العلم والفكر. ولعل إلى هذين الطريقين من وجوه الإعجاز يشير قولُه تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (المائدة: 3)، فالإكمال: يرجع إلى الوصف والكيف. والإتمام: يرجع إلى العدد والكم.

2- الوفاء بحاجات هذا العصر إلى الدين: فالبشر عامة، والمسلمون خاصة، لهم حاجة إلى الإسلام؛ الدين الصحيح والرسالة الهادية. ولم يَبْقَ كتاب إلهي على وجه الأرض يمثل الدين الصحيح إلا القرآن.. فَهُم بحاجة إلى معرفة هديه غاية الاحتياج، وإلى فَهْم ما حواه من شمول موضوعي بالغ غاية الكمال، وإلى إدراك ما يقدمه لهم من حلول لمشكلاتهم النفسية والاجتماعية، ومعضلاتهم الأخلاقية والاقتصادية.. ولا يتحقق ذلك إلا بدراسات علمية جادة لموضوعات القرآن الكريم.

3- تأصيل الدراسات القرآنية والعلمية: فحين تُجمع الآيات الكريم جمعًا موضوعيًّا، وتُفسر على هذا النمط، مع إحصاء الألفاظ واستقصاء المعاني وتتبع الدلالات القرآنية في مواضعها وموضوعاتها.. فإن هذا اللون حين تنضج مباحثه، سيكون له أعظم الأثر في إبراز علومٍ قرآنية جديدة، ودفعها نحو التأصيل والاكتمال بإذن الله. ومن ذلك: علم الأصول القرآنية.. علم الإعجاز التشريعي.. علم الحكمة القرآنية.

4- تصحيح مسار الدراسات القائمة: من حيث تصحيح طريقة النظر في القرآن الكريم.. وإصلاح طريقة التفسير وإنضاجه.. وضبط القواعد العلمية في الدراسات الدينية واللغوية جميعًا([5]).

إن القرآن الكريم يفسِّر بعضُه بعضًا، ولا تتناقض آياته.. وعلينا أن نضم الآياتِ جنبًا إلى جنب حتى نرسم لها صورة كلية مرتبة واضحة صادقة.. و”التفسير الموضوعي” هو ما يتكفل بإبراز ذلك وإيضاحه، وعلى نحوٍ بديع يليق بهذا الكتاب العزيز..


([1]) الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، 4/ 195.

([2]) نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، الغزالي، ص: 5.

([3]) راجع المزيد عن التفسير الموضوعي واتجاهاته، في: المدخل إلى التفسير الموضوعي، د. عبد الستار فتح الله سعيد، ص: 24 وما بعدها.

([4]) راجع: نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، الغزالي. و: المختار من التفسير القرآني، د. محمد رجب البيومي.

([5]) المدخل إلى التفسير الموضوعي، د. عبد الستار فتح الله سعيد، ص: 40- 54، باختصار.