يتضح لنا يوماً بعد يوم أن معظم المشكلات التي يعاني منها الناس، لا يعود إلى ما هو موجود في الواقع، ولا إلى ضعف الإمكانات والمعطيات المادية، وإنما يعود إلى قصور في الذهنية، وإلى خلل في رؤية الأشياء، وإلى خلل في آلية التفكير وعتاد العقل. ولو أننا تأملنا في طريقة تفكير الشباب لوجدنا أن لها طابعاً خاصاً يميزها عن طريقة تفكير الشيوخ.
وبما أن التعميم في كل شيء يشكل خطأ في الحكم، فإنه يمكن القول: إن هناك من الكهول والشيوخ من يفكر بنفس طريقة الشباب؛ لأنه يملك روح الشباب وحيويته وتوقّد ذهنيّته. وهناك أيضاً من الشباب من لا يفكر كما يفكر الشاب الذكيّ، وذلك ليس لأنه يفكر بلون آخر من منهجية التفكير، وإنما لأنه لا يفكر أبداً! فما معالم تفكير الشباب؟ وما وجه المفارقة بينه وبين تفكير الشيوخ؟
- تتعاظم الخبرة لدى الكبار في السن، وتنضج التجربة والرؤى، وتكتمل القناعات. ولهذا -ولا شك- ميزته الكبرى، بل هو إحدى الثمار اليانعة للمعاناة الطويلة والأخطاء المتكررة، لكن لهذا أيضاً مشكلاته وعقابيله العديدة، والتي منها كثرة الحديث عن الماضي، والإغراق في تحليله وبيان أزماته وممانعاته. بمعنى آخر يجد الكبير في السن نفسه وكأنه صار مكبلاً مرتبكاً بأثقال التجربة الكبيرة التي خاضها. إن الخيال ينقل الوعي من بؤرة الخبرة ويجعله على حوافها؛ ليكون متصلاً بالمظنون والمجهول والمتوهم والمحتمل. وحين تكون الخبرة عريضة وعميقة، فإن مغادرة الخيال لحدودها تصبح أمراً شاقاً. وهذا يجعل المرء يبدو وكأنه يدور حول نفسه. أما الشباب، فإن لديهم القليل والقليل جداً مما يمكن أن يتحدثوا عنه، ولهذا ميزاته وسلبياته. حين يفكر المرء من غير خبرة يتكئ عليها فإنه يكون مهدداً بالتهور وبالبعد عن الحدود التي يرسمها الواقع، وخطورة مثل هذا التفكير تتمثل في اتخاذ قرارات غير عملية، والتطلع إلى الحصول على أشياء لا يمكن الحصول عليها، مما يجعل الشاب يتعرض في النهاية إلى موجات من اليأس والإحباط، لكن التفكير الإبداعي يتطلب من المرء أن يكون مستعداً لرؤية الأشياء خارج الأنماط المألوفة، وبعيداً عن الارتباطات السببية المعهودة والمعمول بها، ومن هنا فإن معظم المبدعين هم من الشباب، ومن يكبرهم قليلاً. إن السذاجة كثيراً ما تكون عبارة عن محرّض لبذل أعظم الجهود وتحمّل أكبر المشاق، وهذا ما نجده لدى الشباب ونجده أيضاً لدى الكتاب، إننا -معشر الكتاب- نتمتع بسذاجة كسذاجة الأطفال؛ إذ نعتقد أن ما نكتبه يؤثر تأثيراً بالغاً في حركة المجتمع، ومع أن هذا قد لا يكون صحيحاً في كثير من الأحيان، وهو مبالغ فيه في معظم الأوقات إلا أنه يشكل الوقود الحيوي للاستمرار في الكتابة بوصفها عملاً عظيم التكاليف وقليل الجدوى.
- يحلم الشباب بالأحلام العريضة الطويلة، ويمدون أبصارهم نحو الآفاق البعيدة؛ لأن اعتقادهم بطول المدة المتاحة لهم في هذه الحياة، يحملهم على التفكير والاستثمار في قضايا ومشروعات بعيدة الأمد وذات بعد إستراتيجي، وهذه ميزة كبرى على صعيد تطوير الأمم والشعوب؛ وعلى صعيد تأمين مساقات للعمل والعطاء على صعيد الأفراد، أما الشيوخ فإن إحساسهم بدنو الأجل ونفاد الطاقة يجعلهم يفكرون فيما يمكن أن يحدث على المدى القصير، كما يدفعهم في اتجاه التقليل من الحديث عن التغيير والتطوير، مع أن الله تعالى قد ينسأ في الأجل، ويمدّ في الطاقة، مما يمكّن المرء من القيام بالكثير من الأشياء العظيمة. وإنه لدرس بليغ ذلك الذي نستخلصه من قوله عليه الصلاة والسلام:”إذا قامت الساعة على أحدكم وفي يده فسيلة فليغرسها”. إن علينا أن نفكر في المستقبل البعيد، وأن نؤسس الأعمال الجيدة والمطلوبة بقطع النظر عما إذا كنا نحن سنقطف ثمارها، أو كان من يفعل ذلك من الأبناء والأحفاد.
- يتسم تفكير كثير من كبار السن بالتشاؤم، ويتّشح بالسواد، ولا ندري تماماً لماذا يكون ذلك؟ هل هو بسبب تراجع القوى والشعور بالضعف والشعور بالخوف من الموت وما بعده؟ أو أن ذلك يكون بسبب التربية والبيئة اليائسة والمحبطة حيث بلغ التشبع بمعطياتها أقصى مداه؟ أما الشباب فله شأن مختلف حيث الآمال الغضة والنفوس المتطلعة إلى الأفق البعيد، وحيث الترقب للأشياء السارة والمدهشة، تفكير الشباب تفكير يتسم بسمتين مهمين هما التفاؤل والمرح. ضعف الخبرة بظروف الحياة وقيودها يساعد الشباب على التفاؤل ويدفعهم دفعاً في انتظار مباهج الحياة ومسراتها. والمرح شيء طبيعي في النفس البشرية حين تسلم من الشعور بوطأة التكاليف وثقل الأعباء، وهذا موجود لدى الشباب؛ إذ تكون مسؤولية إعالتهم على أهلهم، وأعتقد أن في إمكان الشيوخ أن يستفيدوا من الشباب، ويتعلموا منهم هذه الميزة، وذلك بشيء من إدارة الإدراك ومحاولة رؤية الأشياء بطريقة جديدة.
- الشباب أكثر مواكبة للجديد وأقدر على التلاؤم معه، وهذا يجعلهم يعتقدون أن هناك معطيات جديدة في كل مجال من المجالات، ووجودها طبيعي ومألوف، والاستجابة لها لا تحتاج إلى تفريغ الذهن من معطيات قديمة ومتقادمة؛ إذ لا قديم يذكر لدى الشباب ولهذا فإن الشباب يعملون وفق قاعدة (الجديد صحيح حتى يثبت خطؤه) أما الشيوخ فيعملون وفق مقولة (الجديد يُعامل بتريّث وحذر إلى أن يثبت صوابه). ومع أن أياً من الموقفين لا يكون مناسباً في بعض القضايا إلا أن الانفتاح على الجديد يظل أقرب إلى الصواب في معظم الأحيان.
- شبابنا يرون اليوم بأم أعينهم الطفرات المتتابعة في مجال التقنية والاتصال والكماليات والمرهفات، وهذا يدعوهم إلى التفكير وفق المقولة (كم ترك السابق للاحق)، أما كبار السن فإن امتلاءهم من القديم وعدم تفتّحهم على الجديد.. يجعلهم يفكرون وفق المقولة الذائعة (ليس في الإمكان أبدع مما كان) ووفق مقولة (ما ترك الأول للآخر شيئاً)، وهذا يعبر عن التوجّس من الجديد، كما يعبر عن التعلّق بالقديم.
نحن في حاجة إلى العمل وفق معادلة صعبة، تقوم على أفضل ما لدى الشيوخ من الأناة والخبرة وعمق التجربة، كما تقوم على أفضل ما لدى الشباب من توثّب ذهنيّ وتفتح عقليّ وانطلاق روحيّ، ومن يستطيع الجمع بين هاتين الفضيلتين فإنه يستحق بجدارة لقب (شيخ الشباب).