العقل لا يحتاج إلى تدليل، فالسكون الفكري ليس فضيلة، والاستسلام للآراء الجاهزة كاملة التصنيع ليس ميزة، وغياب القدرة على تمحيص الأفكار ونقدها، وفهم العلاقات فيما بينها، واختبار صحتها، دليل على كسل العقل وترهله، وهي دعوة لم يقرها الإسلام أو يدعو إليها، وإنما حرض على التفكير، وطالب بنقد الأفكار، وعدم قبولها بلا جدال ولا نقاش، وذلك حتى يتولد الإيمان عن قناعة راسخة.
في وقتنا الراهن يواجه الإنسان المعاصر تدفقا معلوماتيا يفوق قدراته بكثير، وحسب الاحصاءات فإن أكثر من 40 ألف عملية بحث عن معلومات تتم كل ثانية على الانترنت، أي أكثر خمسة مليارات عملية بحث تُجرى يوميا، ناهيك عما توفره مواقع التواصل الاجتماعي من أخبار وتفاعل، والفضائيات والصحف من قصص وحكايات، هذا الفيض المذهل يتطلب امتلاك الشخص قدرة على فرز وتدقيق هذا السيل، من خلال امتلاك عقل نقدي له معاييره في التفكير، لتبيان صحة الأفكار والأحداث وصوابيتها، وتحديد السلوك الواجب اتخاذه حيالها، فـ “الشخص الذي يعلق عينيه على الشمس ينتهي به الأمر إلى العمى”(1) وكذلك العقل، فعندما لا يختبر أفكاره، وينقدها باستمرار، ولا يقبل الفكرة بسهولة، فإنه ينتهي به الأمر إلى الهزال.
ما هو التفكير النقدي؟
تعددت التعريفات للتفكير النقدي، ومنها أنه “القدرة على تحليل المعلومات وتقييمها واستخلاص النتائج” وهنا تكمن مهارات مثل القدرة على حل المشكلات، وفهم الأفكار المعقدة، ويعرف –أيضا- بأنه “القدرة على التفكير بوضوح وعقلانية، وفهم العلاقة المنطقية بين الأفكار” و يعرف كذلك بأنه “فن إصدار أحكام واضحة ومعللة، تستند إلى تفسير وفهم وتطبيق وتوليف الأدلة التي تم جمعها من الملاحظة والقراءة والتجريب”.
يلاحظ أن القاسم المشترك بين التعريفات السابقة، هو التفكير بعقلانية ومنطقية، والقدرة على تحليل المعلومات، وتجريد الأحداث للوصول إلى الأفكار، والقدرة على الربط بين المعلومات والخبرات، إضافة إلى وجود جانب شخصي في الموضوع، فبعض الأشخاص، وهبهم الله تعالى إمكانية التفكير النقدي، ففي القرآن الكريم في قصة بحث إبراهيم –عليه السلام- عن الخالق سبحانه وتعالى، فعندما نظر إلى النجم، وقارن بينه وبين الشمس، مارس تفكيرا نقديا، وقال: “لا أحب الآفلين”، حيث وضع معايير وصفات للإله منها أنه لا يغيب، فهذه السياحة الكونية كانت تفكيرا نقديا في حقيقة الموجودات، التي اتخذها الناس آلهة.
هل نحتاج في حياتنا إلى التفكير النقدي؟
التفكير النقدي ضروة في حياة الإنسان، خاصة المسلم،، فبدون مهاراته، يمكن أن نُضلل بسهولة، فهو يساعد على تمحيص المعلومات والأحداث والأخبار والقصص والأفكار، وتقييم الأشخاص، ونقد الذات، وفهم العلاقات بين الأشياء، مما يساهم في صحة اتخاذ القرار، واعتماد الفرضيات الملائمة، وتوفير الجهد، ويمنح القدرة على قراءة ما بين السطور، وسماع المسكوت عنه في الكلام، والموازنة بين الفرضيات، والنفاذ السريع لجوهر الأشياء، والامساك بالحجج الصحيحة والقوية، وفرز المعلومات فرزا منطقيا واعيا، للوصول إلى أفضل السبل وأقصرها وأكثرها نفعا، ومن ثم اكتساب القدرة على حل المشكلات، مما يمنح النفس شعورا بالثقة، ورضا عن الذات.
تنمية التفكير النقدي
هل يمكن للإنسان أن يُنمي قدرته على التفكير النقدي، ليصبح ملكة وسجية لا تُمارس بتكلف أو عنت؟
يمكن تنمية هذه المهارة، من خلال مسارين كبيرين، الأول: اجتناب ما يسمى “قتلة التفكير النقدي” ، والثاني: اكتساب مهارة التفكير النقدي.
يشير بعض كتاب التنمية البشرية أن هناك مجموعة من المثبطات للتفكير النقدي، أطلقوا عليه “قتلة التفكير النقدي”، ومنها:
–الإفراط في الاعتماد على مصادر ثابتة للحصول على المعلومات، والإيمان بعصمة أفكار بعينها: فالشك المنهجي مفتاح لتحصيل اليقين، وكما يقول “أبو حامد الغزالي“: “الشك أول درجات اليقين”، ولذلك كان القرآن الكريم يحرض على النظر في الكون، لأن الإيمان المتحصل من النظر أشد رسوخا، كذلك لا يمكن أن يزدهر التفكير النقدي إلا في بيئة تدعم طرح الأسئلة.
–التفكير الحدي: الشخص الذي يفكر بطريقة حدية، ولا يرى في الأفكار والأشخاص إلا لونين هما الأبيض والأسود، يهمل في التفكير النقدي، وهذا لا يسمح بإنشاء قواسم مشتركة في التواصل مع الناس، وإدارك أن الإنسان ليس كتلة مصمتة إما أن تقبلها أو ترفضهأ، ولكن هناك ما يمكن قبوله في الشخص وهناك ما يحق لك رفضه.
– الأحكام المسبقة: وضع حكما مسبقا على شيء أو شخص ما، يعني أنك أغلقت باب التفكير، ويعد عائقا أمام النقد، وكما يقول الكاتب الإسباني ” كارلوس زافون”: “الأحكام المسبقة هي آخر من يتعرض للفناء في هذا العالم”.
–التسرع في النظر للأشياء، ومن ثم إصدار الأحكام ، يصيب التفكير النقدي بالضمور والتقزم.
–عدم إدارك التغير: فالبعض قد يمتلك مهارة التفكير النقدي، ويجيد ممارستها، لكن يقع في مأزق عدم إدارك التغير، لذا تجده يستدعي الأحكام السابقة مغفلا التغير الجديد، وربما كان ذلك أحد أسباب الهزائم التي لحقت بقادة عسكريين كبار في التاريخ، أو الاخفاقات التي حاقت بشركات عملاقة، والتي لم تدرك التغير في السوق.
–الإفراط في الاعتماد على التكنولوجيا: هذا الإفراط، يصيب العقل بالكسل، والاعتقاد أنه لا يستطيع أن يمارس دوره بدون التكنولوجيا، وهو مؤشر على العجز .
وسائل زيادة مهارات التفكير النقدي:
-القدرة على التساؤل: إذا غابت التساؤل، فقد اختفت القدرة على التفكير النقدي، فالتساؤل يغري بالشك، ويؤكد عدم الاقتناع الكامل، وكلما انصب التساؤل على الجوهر، وعلى طرح الأسئلة المناسبة والضرورية، كلما كان العقل النقدي فعالا، فالتساؤل يدفع العقل للنظر للقضية من زوايا مختلفة، وتقليب الأدلة من وجوهها المتعددة.
–القدرة على الاستماع الجيد: توفر مهارة الاستماع، والقراءة العميقة الواعية، يتيح النفاذ لجوهر الأشياء، وكما يقولون “الحكمة تختبيء في الأماكن الأكثر هدوءا” والاستماع الجيد وسيلة للوصول إليها.
–عدم الاستسلام للسائد: قدرة العقل على مقاومة السائد وعدم الاستسلام للمألوف، يدفعه لعدم قبول أي شيء دون أن يمتلك أدلة الاقناع، ولهذا عاب القرآن الكريم على الكافرين الاستسلام لعقلية الآباء، وعدم القدرة على تقليب الأفكار ووزن الأمور بعقولهم، ولذلك تقول الحكمة: ” كن كالماء ولا تستسلم سريعا..عاجلا أو آجلا سيجد الشقوق وينفذ منها”، أو كما يقول الفيلسوف “سبينوزا”: “العقل النقدي ليس قادرا على الوصول إلى الحقيقة دائما، ولكنه على الأقل قادر على كشف زيفها”.
(1) – مقوله للأديب “باولو كويلو”