التكافل الاجتماعي هو نظام تضامن متبادل بين جميع أفراد المجتمع والدّولة، بحيث يكون أفراد المجتمع مسؤولين عن المحافظة على المصالح العامّة والخاصّة للمجتمع، مع دفع المفاسد والأضرار عنه، بحيث يعرف كلّ فرد أن عليه واجبات للآخرين مثلما أنّ له حقوقاً عليهم، ويتناول مفهوم التّكافل حفظ مقوّمات الفرد الأساسيّة في الحياة، من حفظ دينه ونفسه وماله ونسله وعقله.

حقيقة لقد حقّق الإسلام التكافل الاجتماعي بين أفراد الأمّة جميعاً بعدد من الالتزامات والقيم الشّرعيّة والأخلاقيّة، واعتمد منظومة تربويّة لتحقيق التكافل الاجتماعي قائمة على مجموعة من الأبعاد التربويّة نوضّحها يما يلي:

1- ترسيخ العقيدة والإيمان الصّحيح

العقيدة هي الأساس الّذي يقوم عليه الدّين الإسلاميّ وينبثق منه، وإنّ ارتباط الضمير الإنساني بالله، هو الرّكيزة الأساس في أي تربية خلقيّة ناجحة وعميقة الجذور، حيث يرتبط صلاح المجتمعات بصلاح أفرادها، ويتحقّق صلاح الأفراد باتباع المنهج السليم، والعقيدة الصّحيحة الّتي تُقوم سلوك الأفراد وتصلح عقولهم.

وهذا يقتضي أن نتّخذ العقيدة الدّينيّة الصّحيحة قاعدة أساسيّة للتّربية الفرديّة أو الجماعيّة في سبيل تحقيق مجتمع متكافل على الطّريقة الإسلاميّة، فبناء الإيمان الصّحيح هو الخطوة الأولى إذا أردنا أن يكون مجتمعنا مجتمعاً متكافلاً على الطّريقة الإسلاميّة، فلا يمكن تركيب الإحسان بمفهومه الإسلاميّ في مجتمع مادّيّ إيمانه بالله مهزوز ولا يخاف الله، ولا يترقّب يوم البعث ولا يقيم الصلاة.

 إنّ غرس الإيمان الصّحيح هو أوّل ما ركّز عليه الأنبياء ــ عليهم السلام ــ ونصحوا به أتباعهم، فقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [سورة النحل: 36].

فالإيمان يُشيّع بين المؤمنين جوّاً من التّراحم والتّعاطف والتّعاون، فيتحقق التّكافل الاجتماعيّ في المجتمع، ويؤكّد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلّمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)(1).

2- تربية نفس الإنسان

إنّ النّفس هي الجوهر النّفيس المطلوب سعادته، والتّزكية والتّعليم هما منهج الأنبياء في تربية الإنسان ووصوله إلى طريق الخير والتّوحيد، فطمأنينة القلوب هي في الوصول إلى الله؛ لذلك فإنّنا مطالبون بتزكية أنفسنا وتربيتها على الحب والرّحمة والعطف والشّفقة والحنان والأخوّة في الله، وهذه العوامل بمجموعها من أهمّ عوامل التّربية الإيمانيةّ في المجتمع المسلم، حتّى إذا تمكّنت هذه المشاعر من نفس الإنسان كانت أقرب إلى الله عزّ وجلّ، وإلى التّعاون بين أفراد المجتمع، وأدنى إلى التّكافل فيما بينهم.

ولقد بيّن القرآن الكريم حرصه على تنمية جوانب التّربية الإيمانيّة في آيات كثيرة: منها حرصه على تذكير النّاس بالتّقوى الّتي هي رأس الأمر كلّه فقال تعالى في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [سورة النساء: 1].

وفي ظل الحبّ والمودّة والرّحمة والتّقوى، توجد قيم الإيثار والتّضحية بما هو عزيز على النّفوس في سبيل سعادة الآخرين، فلابدّ للتّكافل الاجتماعيّ من قوم يؤثّرون على أنفسهم، ويضحّون بالغالي والنّفيس، فالمجتمع فيه الواجدون والمحرومون، وإذا لم يؤثّر الواجدون على أنفسهم، وإذا لم يضحوا بما يملكون لم يقم التّكافل ولا التّعاون.

ولقد رسم القرآن الكريم صورة مشرقة للإيثار في نفوس الأنصار من أهل المدينة المنوّرة، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة الحشر: 9].

كما حرص القرآن الكريم على تطهير النفس الإنسانية من الرياء، حتى يكون العمل الخيري التطوعي خالصاً لوجه الله لا سمعة فيه ولا رياء، فقال تعالى:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [سورة الإنسان: 8].

وقال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [سورة البقرة: 262].

ثمّ إنّ الإسلام جاء بالمفهوم الواسع للإحسان، فهو لا يقتصر على الأغنياء وحدهم، بل حتّى الفقراء أمامهم مجال واسع للإسهام في التّكافل وطلب الآخرة والثّواب.

قال عليه الصلاة والسلام: (كلّ سلامى من النّاس عليه صدقة كلّ يوم تطلع فيه الشّمس، تعدّل بين الاثنين صدقة وتعيّن الرَّجل في دابّته فتحمّله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطّبيّة صدقة وكلّ خطوة تمشّيها إلى الصّلاة صدقة وتميط الأذى عن الطّريق صدقة)(2).

فكلّ مفصل من مفاصل الإنسان عليه صدقة لله تعالى من خلال: فعل الطّاعات والخير والصّدقة كل يوم، وهذه الصّدقة تكون بتحركها في الطّاعة ونفعها للآخر واشتغالها بالعبادة لله عزّ وجلّ، فتركيب هذه العظام ومفاصلها من نعم الله على العباد، وكلّ عظم منها يحتاج إلى الصّدقة الّتي يتصدّق بها الإنسان عنه يكون ذلك شكراً لله على هذه النّعمة، واشتمل هذا الحديث على تعدّد أنواع الخيرات والطّاعات الّتي تكون صدقة مقدمة لله عزّ وجلّ، ونجد فيه الحثّ على الطّاعات بشكل مستمر، وتفضّل الله على العباد بأن يسر لهم الأعمال التّطوّعيّة، ثمّ أعطاهم الأجر عليها.

وهكذا نجد إنّ التّكافل في الإسلام إيماني ربّاني والمسؤوليّة فيه مزدوجة دنيويّة وأخرويّة، بينما في النّظام الوضعيّ مادّيّ دون روح أو تسامح.

3- غرس الشّعور بالأخوّة بين المؤمنين

يحرص الإسلام على أن تسود المحبّة والإخوة بين النّاس جميعاً، لا يفرق بينهم لون أو لغة، ولا مجال لوجود الصّراع أو الحقد بين أفراد المجتمع وإن تفاوتوا في الثّروة أو المنزلة، فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة الحجرات: 10].

ومن الجوانب التّربويّة للتّكافل الاجتماعيّ غرس الشّعور بالأخوّة بين المؤمنين، فالأخوة في الله رابطة توجد بين شخصين أو أكثر بمجرّد اشتراكهما في الانتماء إلى المنهج الرّبّانيّ، فقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [سورة التوبة: 11].

وشبّه الرّسول عليه الصلاة والسلام مجتمع المؤمنين في توادّهم وتراحمهم بالجسد الّذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى، فقال صلّى الله عليه وسلّم: (ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكى عضواً تداعى له سائر جسده بالسّهر والحمّى)(3).

 وقد جسَّد الرّسول عليه الصلاة والسلام هذه الأخوّة بين المؤمنين من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في المدينة المنوَّرة، فالأخوّة في الإسلام ليست مجرَّد شعار أو عواطف، بل هي أخوّة حقيقيّة تصل في وقت الشّدة والحاجة إلى اقتسام الثّروة والقوّة، وبالتّالي يتحقّق التّكافل الاجتماعيّ في المجتمع الإسلامي.

4- تربية الفرد على التّوسّط في النّفقات

الوسطيّة في الإسلام تدلّ على العدالة والخيريّة، والوسط يفيد البعد عن الإفراط والتفريط، ولمّا كان الوسط مجانباً للغلوّ والتّقصير كان محموداً، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [سورة البقرة: 143].

لذلك فإنّ تربية الأمّة على التّوسّط والاقتصاد في النّفقات، وعدم الإسراف والتّبذير من أهم الأسس التّربويّة الّتي جاءت بها الشَّريعة الإسلاميّة، فالتّبذير في الإسلام منهي عنه وهو سيّئة، والإقتار والبخل كذلك سيّئة والقوام بينهما هو الحسنة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [سورة الفرقان: 67].

المجتمع الإسلاميّ مبني على التّوسّط والاقتصاد في النّفقات، وهذا الأمر يقضي على الطّبقيّة، ويجعل التّكافل الاجتماعيّ خفيف العبء على الناس.

5- تحريم الظُّلم بين العباد

لقد جاء الإسلام بالحبّ والتّسامح والعفو وتحريم الظّلم بين العباد، فالظّلم منهي عنه، وهو مناقض للتّكافل وعدّو لوجوده، قال تعالى في الحديث القدسيّ: “يا عبادي إنّي حرمت الظّلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً فلا تظالموا”(4).

ولقد ربط الإسلام العدل بالإحسان تنبيهاً لتلازمهما، فقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل: 90].

 فالظّلم يفضي إلى خراب النّسيج الاجتماعي، ويكرّس ثقافة الخوف ويعرقل تقدم المجتمعات، ويدفع الأمّة إلى ظلمات الجهل والانحراف، وظلم العباد جرم عظيم ما حلّ في قوم إلّا أهلكهم وأحلّ بينهم كلّ سوء، ولقد بيّن القرآن الكريم عاقبة الظّلم ممّا ورد من قصص الغابرين، الّذين تعرّضوا لسخط الله وعذابه، فكان مصيرهم الهلاك والدّمار، قال تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [سورة الحج: 45-46].

ومن نافلة القول: لابد من تحقيق التكافل الاجتماعي للأفراد؛ لتنميـة الشّـعور بالانتماء والولاء للمجتمع، والترّكيز على توفير أسباب العيش الكريم وتلبية الاحتياجات الأساسيّة للأفراد، وضرورة التّوافـق عـلى مبـادئ سلوكيّة وأخلاقيـّة واحـدة بغرس القيم النّبيلة والثّوابت الدّينيّة الصّحيحة في المجتمع.