قصة الإنسان في هذه الحياة عبارة عن سلسلة طويلة ومستمرة من الأنشطة التي يكافح من أجلها العماء و(اللاتكوّن) ودأبه في صناعة المعرفة هو داؤه وترياقه في آن واحد. وعلى الرغم من كل ما بذلنا من جهود في سبيل الإحاطة بحقائق الوجود فإننا ما زلنا نشعر في أكثر الأحيان بأننا نقف على أرض هشة محاطين بالغموض والشكوك والاحتمالات وحائرين في معرفة القرار الصحيح.
مهما تكن ثمرات الضرب في غياهب المجهول متواضعة ومحدودة فإن علينا مواصلة البحث حيث لا نملك أي خيار آخر سوى التنقيب والاكتشاف حتى نحتفظ بطاقة الاستمرار على تكوين صور ذهنية ومعرفية، إن لم تتطابق مع حقائق الوجود، فإنها ليست بعيدة عنها.
امتلاك أكبر قدر من المعارف الصلبة في كل مجال من مجالات الحياة هدفنا، وهو في الوقت نفسه وسيلتنا إلى الشعور بالأمن والاطمئنان في ظل اضطراب كوني لم يسبق له مثيل. وهو وسيلتنا أيضًا إلى جعل منة (التسخير) تتجسد في المزيد من تحكم الإنسان ببيئته ومحيطه.
التنقيب المعرفي هو محاولة لاجتراح الحقائق المنثنية والمحتجبة، ذلك الاجتراح مهما بلغ من الحرفية والعمق، فإنه سيظل قاصرًا عن بلوغ أقصى طبقات الحقيقة حيث قضت مشيئة الله – تعالى – أن يظل في كل مخلوق عنصر غيبي تتقاصر أذهاننا عن الإحاطة به، لكن حسبنا أن نقلل نسبة المجهول في كل قضية نعاني معالجتها.
من خلال المزيد من البحث قد نصل إلى المزيد من الإدراك للموازنات العميقة التي بثها الخالق – جل وعلا – في هذا الوجود كما أننا من خلاله نحمي أنفسنا من شرور الرؤى المبتسرة والجزئية والسطحية والمغالية، حيث ينجذب عقلنا الباطن إلى ذلك على نحو عجيب! ونحن بعد هذا وذاك محتاجون إلى التنقيب المعرفي كي نكشف خصائص الأشياء، وكي نثري حياتنا بالمزيد من المفاهيم التي تمكننا من معرفة أكبر قدر ممكن من العلل والأسباب وأكبر قدر ممكن من العلاقات الأفقية التي تربط بين مفردات الوجود. وبذلك يجد العقل الكثير من الأدوات التي يستعين بها على طرح البدائل وفتح حقول جديدة للفهم والممارسة.
شروط لا بد منها
– الحفر المعرفي شاق وشاق جدًا ولن نستطيع المضي فيه والاستمرار في معاناته من غير توفر بعض الحوافز والشروط التي تجعلنا نشعر بالرغبة للقيام به أو بالاضطرار إليه، وتلك الحوافز والشروط متعددة، لعل من أهمها:
ـ حب اكتساب المعرفة والشغف بالوصول إلى طبقات الحقيقة الأكثر عمقًا، حيث يفقد معظم الناس ذلك الشغف، ويكتفون بالمعطيات والمدركات الأولية لكل قضية يبحثونها، فيكون ما يحصلون عليه أشبه بما يحصل عليه صياد يلقي بشباكه في المياه الضحلة قرب الشواطئ. أما الدرر والصيود الثمينة، فلا يصل إليها إلا أولئك الذين يبحرون في الأعماق، ويركبون لذلك الأخطار. ومن المؤسف أن الوعي الإسلامي جفل من (الفلسفة) في وقت مبكر (بسبب الانحرافات العقدية لبعض فلاسفة المسلمين) فضعفت لدينا صناعة المفاهيم، واضمحل الوَلَه بسبر الظواهر إلى منتهاها!
سوف يكون الحافز على الاستمرار في التنقيب المعرفي ضعيفًا إذا كنا ننظر إليه على أنه وسيلة لتكديس المعلومات والمكتسبات المعرفية، حيث يكون من السهل شعور المرء بالتشبع المعرفي الخادع لكن سيكون الوضع مختلفًا إذا نظرنا إلى المزيد من اكتشاف الأشياء والحقائق والعلاقات على أنه يعني المزيد من اكتشاف الذات وتنمية العقل، حيث إن العقل الذي يحفر وينقب ليس عبارة عن بنية مكتملة ومعزولة، مهمتها القبض على الحقائق وإيداعها في سجلات المعرفة، وإنما هو بنية نامية ومتفاعلة، فهو في أثناء البحث والحوار والنقد يغير في رؤيته لنفسه وللعالم، كما يغير في طروحاته، ويجدد تقويمه للمعلومات التي في حوزته. إنه يعيد بناء نفسه مع كل خبرات قيمة تدخل في تركيبه. وهذا يجعل الوعي يفرح بذاته، وذلك الفرح يشكل الوقود الحي الذي يجعله يتحمل تبعات الاستمرار في الحفر المعرفي عن طيب خاطر.
ـ من غير التخصص والتخصص الدقيق لن يكون هناك تنقيب معرفي حقيقي، حيث يتطلب بلوغ قاع الحقيقة ـ إن كان لها قاع ـ نوعًا من التوظيف الرأسي المكثف للعقل والخبرة. لا ريب أن على المتخصص أن يتزود بالكثير من المفاهيم والمعلومات التي تنتمي إلى علوم شتى، لكن منطقة العمل ينبغي أن تكون محددة وصغيرة وإلا فلن يستطيع الحصول على شيء ذي قيمة.
أدوات التنقيب المعرفي
على مدار التاريخ كان الوصول إلى الحقائق العميقة، وكان حل المشكلات المعقدة منوطًا بالعثور على المنهج الملائم والأدوات الملائمة للتعامل معها. المنهج المطلوب لمعالجة مشكلة البطالة ـ مثلاً ـ غير المنهج المطلوب لمعالجة قضية فقهية أو لغوية أو تقنية. والأدوات والوسائط المعرفية والتقنية التي يجب استخدامها هي الأخرى مختلفة ومتباينة.
من المؤسف أن حلقة (مناهج البحث) من أضعف حلقات سلاسلنا العلمية. والجهود المبذولة لدينا لبلورة مناهج بحث جديدة محدودة للغاية. والنتائج تدعو إلى الإحباط. وذلك قد يعود إلى قلة الذين يشتغلون بالتخصصات المعرفية الدقيقة، وإلى ارتباكنا في التعامل مع المسائل المتصلة بالفلسفة وتلك التي تتطلب خلفيات ثقافية عريضة ومنوعة.
معرفة السنن الربانية المتعلقة بالقضية موضع البحث أمر حيوي للغاية، حيث إن من شأن السنن أن توضح لنا الثوابت التي تمنح الأشياء طبيعتها، كما توضح لنا منطق الأشياء، أي اتجاهات تطورها. ومع أن امتلاك أكبر قدر من المعلومات حول الظاهرة أو القضية موضع التنقيب يعد أمرًا في غاية الأهمية إلا أن معرفة السنن تظل أهم، لأنها تمنح رؤية كلية، على حين تمنح المعلومات رؤى جزئية مشتتة، ولأنها أيضًا تظل أبعد عن قبول التزييف والمتاجرة، وليس كذلك الشأن في المعلومات.
ـ من أدوات التنقيب المعرفي (المقارنة) حيث تتوقف درجة الوعي بالكثير من الأشياء والظواهر والمشكلات على درجة وعينا بالأشياء المماثلة والمضادة، فعقولنا ليست مؤهلة لإدراك الوجود الأعمق للأشياء المعزولة عن أمثالها وأضدادها، فنحن لا نستطيع إدراك مستوى الفقر أو الأمية أو التنظيم أو العدل الموجود لدينا من غير مقارنته بما لدى الأمم الأخرى. من شأن المقارنة التأسيس لعلوم جديدة، ومن شأنها كذلك تشغيل الجهاز العقلي لإنتاج مستويات من الإدراك أكثر عمقًا وشمولاً لكثير من القضايا موضع البحث والنظر.
التنقيب عن المفاهيم والمعاني والحفر حول الجذور والعلل والنتائج والعلاقات وخصائص الأشياء أهم من التنقيب عن النفط والذهب، وقد باتت هذه الحقيقة أشد تألقًا حيث باتت المفاهيم والمعارف تشكل رأسمال التقدم الإنساني بكل أشكاله وأبعاده.