التنمية الاقتصادية في الاقتصاد الإسلامي : تعد التنمية عنصراً أساسياً للاستقرار والتقدّم الاجتماعي والإنساني، وهي عملية تقدّم ونمو، جزئية أو شاملة، وبصفة مستمرة، تتفاوت أشكالها، وتركز على تحقيق الرُقي والتقدم في مجالات الحياة الإنسانية، والمضي قُدماً بالإنسان نحو الاستقرار المعيشي والرفاهية، وتلبية متطلّباته بما يتماشى مع احتياجاته وإمكانياته في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية (1).

مفهوم التنمية في الاقتصاد الإسلامي

مفهوم التنمية من المفاهيم الأساسية في الإسلام، وقد أُطلق عليه مرادفات مثل: التعمير، الحياة الطيبة، العمارة. التنمية في الإسلام تعني العمل بشرع الله تعالى في جميع مجالات الحياة، بهدف الوصول إلى حالة من الكفاية والكفاءة في المجتمع الإسلامي.

ونظرة الإسلام للتنمية والعمران شاملة لجميع نواحي الحياة المادية والروحية والأخلاقية. ويُعتبر الإنسان محور العملية التنموية؛ لأنه الكائن الوحيد القادر على الإصلاح والتغيير والبناء والتطوير، بما خصّه الله به من عقل وتفكير. كما أن الإسلام يُحارب مفاهيم سلبية، مثل الكسل والاتكالية وعدم السعي والتخلّف والجهل، التي تعيق التنمية في المجتمع (2).

والاقتصاد الإسلامي يحرص على التعمير والتنمية، وهو مهمة الفرد المسلم في الأرض، كما في قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِل فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [سورة البقرة :30] ، فهو خليفة الله في الأرض وعليه إعمارها. وسخّر الله له ما في السماوات والأرض، كما في قوله تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } [سورة الجاثية :13]، وبين أنه خلقه من الأرض لإعمارها بقوله تعالى: { هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } ][ سورة هود:61]،. وطلب منه أن ينتشر في الأرض ويطلب الرزق فيها بالانتاج والاستثمار، والانتفاع من منافعها، وإثبات عبوديّته لله باتباع شريعته التوحيدية، كما في قوله تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ، فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لعلكم تفلحون} ][ سورة الجمعة:10].

ومن خلال الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، ينبغي للإنسان أن يؤسس النشاطات الاقتصادية، ويعمل ويُنتج لإعمار الأرض، وتحقيق العيش السعيد والمرفّه له وفق تلك الأحكام الشرعية، كما في الحديث الشريف: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها” [الإمام البخاري- الأدب المفرد-479]؛ حيث تدل الفسيلة على النبّت الصغير من النخل، ويُرغب العمل بها استحباباً لا وجوباً.

الاقتصاد الإسلامي يستمد نظرياته لتحقيق التنمية من مبادئ الشريعة الإسلامية ومقاصدها. ويبدأ بالأخذ بالإنسان ومحور العمليات التنموية، حيث يبدأ الاقتصاد بالإنسان وينتهي إليه، وهو الذي يمارس هذه العمليات ويُثمر نتائجها الإيجابية. ومن ثَمَّ، لا ينتظر النمو التلقائي للاقتصاد دون بذل جهد إنساني؛ يقول تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } . ولهذا، ينبغي على الإنسان العمل بجد لإعمار الأرض، واستثمار الموارد المتاحة من رأس مال، وتشغيلها وفق أعلى معايير الكفاءة الإنتاجية، مسترشداً بقول النبي : “إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتقنه”، لتفادي الهدر والضياع.

ماهية التنمية في منظور الاقتصاد الإسلامي

إن مفهوم التنمية في الإسلام يعني العمل بشرع الله في كل مجالات الحياة للوصول إلى الكفاية والكفاءة. والنظرة الإسلامية للتنمية والعمران شاملة لكافة أبعاد الحياة، ومن بينها الإنسان كمحور أساسي للعملية التنموية، لكونه الكائن الوحيد القادر على الإصلاح والبناء والتطوير، بما منحه الله من عقل، ويُحارب الإسلام الأفكار السلبية كالكسل والاتكالية وعدم السعي (3).

ويمكن تعريف التنمية من منظور إسلامي بأنها: “مجموعة الجهود المتنوعة والمنسقة التي تؤهل المجتمع المسلم للقيام بإعمار الأرض، وإغناء المجتمع، ورفع المستويات المعيشية لكل فرد مسلم”. ويمكن القول إن مفهوم التنمية وفق المنظور الإسلامي يمثل ظاهرة جزئية من عملية الاستخلاف في الأرض وعمارتها، التي بينها الله تعالى بقوله: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } [سورة هود: 61].

والتنمية تعبّر عن الزيادة والنماء في الدارين: الدنيا والآخرة؛ فالدنيا بالنسبة للفرد المسلم مزرعة للآخرة. يقول الله تعالى:  { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } [سورة القصص: 77].

ولهذا، فإن في فريضة الزكاة — التي تعني النماء والزيادة — نجد أنها مقرونة بالطهارة والبركة، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام. وقد سمّى الله تبارك وتعالى الإخراج من المال زكاةً، مع أنه نقص بالمعيار المادي البحت، في حين ينمو بالبركة وبالأجر والثواب. وعلى النقيض من ذلك، الربا الذي قال الله تعالى فيه: { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [سورة البقرة: 276].

فإنه ينقص المال ويهلكه، مع أنه زيادة في المال ونمو له في الظاهر. وهذا المنظور المتوازن لمفهوم التنمية هو ما يميز المنهج الإسلامي عن المفاهيم الوضعية، التي تركز على البعد المادي الدنيوي البحت، من خلال قياس التنمية في مجتمعاتها بمؤشرات مادية بحتة.

أهم الركائز الأساسية لتحقيق التنمية في العالم الإسلامي

  1. الالتزام بمبادئ الشريعة الإسلامية: باعتبارها المنهج الشامل للحياة، الذي ينظم السلوك الإنساني علماً وعملاً وخُلُقاً، ويوضح الحقوق والواجبات التي تمس المجتمع على مستوى الفرد والجماعة.
  2. الإيمانُ والتقوى: إن الإيمان والتقوى من أعظم الأسباب لحل المشكلات التنموية، يقول الله تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } [سورة الأعراف: 96].
  3. الاستغفار: يقول الله عزَّ وجلَّ على لسان نبيه نوح عليه السلام: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } [سورة نوح: 10-12].
  4. الاستثمار الأمثل لرأس المال البشري: ويشمل ذلك العناية والاهتمام بالإنسان وبالعقول البشرية، وإعطاؤها الفرصة لتحقيق التنمية في مختلف المجالات، واستخدام هذا العامل مع عوامل اقتصادية أخرى مثل: التخطيط، والعدالة في التوزيع، وكسر الحاجز الجغرافي والنفسي الذي وضعه الاستعمار بين شعوب العالم الإسلامي، لتكون الخطوة الأولى على طريق التنمية والتكافل والتكامل فيما بينها.
  5. الدور الفعّال للزكاة في التنمية: الزكاة إحدى أدوات تحقيق الضمان الاقتصادي لأفراد المجتمع الإسلامي. ففي العصور الإسلامية الأولى كانت الزكاة في بيت المال تحت مسؤولية الدولة الإسلامية، وتوزَّع بالعدل لسد الحاجات الأساسية للفقراء والمساكين، وتوفير وسائل للعمل وكسب العيش. فهي أول مؤسسة للضمان الاجتماعي، ومن أهم أدوات الحفاظ على المجتمع، وإقامة العدالة الاجتماعية، وتقليل الفجوات بين الأغنياء والفقراء. وقد نجحت الزكاة في أداء دورها بصورة رائعة في عصري الخليفتين: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر بن عبد العزيز رحمه الله. ولا يقتصر دور الزكاة على توزيعها على الفقراء، بل يمكن أن تُستثمر في إنشاء مشروعات صغيرة للفقراء والمساكين، مما يحوّلهم من آخذين للزكاة إلى معطين لها بعد أن يعملوا في مشاريعهم ويحققوا دخلاً. وهذا يجعلها وسيلة مهمة لإيجاد فرص العمل للعاطلين والقضاء على البطالة، مما يثبت أن للزكاة دوراً حيوياً في اقتصاديات البلدان الإسلامية، ويجب استثمارها استثماراً سليماً لحل العديد من المشكلات الاقتصادية؛ مثل: البطالة، والفقر، والديون، والفجوات الاقتصادية الكبيرة بين طبقتي الفقراء والأغنياء.
  6. إعداد رؤوس الأموال الاجتماعية الضرورية للإعمار والتنمية: جاء الإسلام من أجل إسعاد الإنسان في حياتيه الدنيا والآخرة، وليس الاقتصار على إحداهما. لذا يهدف الإسلام إلى دفع الإنسان لجعل إيمانه واعتقاده منطلقاً نحو سعيه في الحياة وبنائها، وفق قواعد وأسس سليمة تقوم على الفضائل والأخلاق والعدالة، والعمل الذي يعمّر به الأرض، وينتج الطيبات، ويحقق حياة كريمة لنفسه.
  7. دعوة الإسلام إلى تعمير الأرض والاستفادة من خيراتها الوفيرة: يقول الله تعالى:  {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود: 61]. ولا يقتصر التعمير على الجانب المادي المتمثل في التطوير والتنمية فحسب، بل يشمل الجوانب المعنوية أيضاً. وهذا يعني أن التعمير أو التنمية في الاقتصاد الإسلامي يشملان كِلا الجانبين المادي والروحي للإنسان الذي استخلفه الله تعالى في الأرض، لترسيخ العبودية الحقّة لله تعالى، قال سبحانه:  ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [سورة الذاريات: 56].
  8. التعليم ودوره في التنمية: إذا كان الإسلام يجعل من التنمية واجباً على المسلمين، فإن رؤيته للتعليم لا تقل أهمية عن ذلك. فقد بدأت أول آية نزلت من القرآن الكريم بكلمة “اقرأ”، في قول الله تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [سورة العلق: 1].

لذا، يعتبر التعليم في الاقتصاد الإسلامي أحد العناصر الأساسية المؤثّرة في التنمية. ونجد أن الإسلام، عبر تاريخه الطويل، قد اهتم بالتعليم والتعلّم، وحثّ عليه بشتى الوسائل المشروعة (4).

التنمية الاقتصادية الإسلامية واستحقاق الخلافة على الأرض

إنَّ الآيات القرآنية تفتح أعين الإنسان على الكون وما فيه من مصادر النعمة، ليعمل ويجدّ وينتج وينمّي، حتى يضمن ما هو في حاجة إليه من مأكل وملبس ومسكن، وقوة تحميه وترفع من قدره. وتركّز آياته على الإنسان المستخلف في الأرض ليعمل في الكون بما يرضي الله سبحانه وتعالى، ولا يلحق الضرر بأحد من خلقه. وقد وضع الإسلام من القواعد العامة ما ينير الطريق للإنسان ويوضّح له مصالحه في الإنتاج والتنمية والثروة، بالحق والعدل والعمل المفيد، الذي هو شرط لا بد منه لاستحقاق الخلافة وتحمل تبعاتها (5).

ويرفض الإسلام التبذير ويدعو إلى التوسّط بحكمة، ومراعاة حقوق الضعفاء، يقول الله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [سورة الإسراء: 27]. والتبذير المنهي عنه يشمل الأفراد والجماعات والدول، فيما يملكونه من ثروات، وكذلك فيما يتعلق بالمواد الطبيعية التي لا يجوز إهدارها أو استنزافها بما يعرّض الأجيال القادمة للأخطار. ولم تعد الثروة الحقيقية تُقاس بما يملكه الفرد من أموال، وإنما بما يتحقق من إنتاج وتنمية، وما تمتلكه الدولة من مدخرات معدنية ومياه، وموارد طبيعية، ومعارف علمية، وتقنيات تكنولوجية. وعلى الإنسان أن يعيش بإنسانيته لا بحيوانيته المفترسة، فيراعي مصالح إخوانه في الدين والإنسانية، ويتحمل مسؤولية خلافته في الأرض.

لا تبذير ولا هدر للموارد في التنمية الاقتصادية الإسلامية

إن واجب الخلافة يستوجب المحافظة على الأرزاق وتنميتها، وعدم تبذيرها، وإنفاقها فيما أوجب الله إنفاقه فيه. فمن أسرف فقد تخلى عن خلافته، إذ حماية المال من التبذير واجب إسلامي لا يمكن إغفاله. فالمال المملوك ملكية شرعية صحيحة لا يجوز التصرف فيه إلا وفق الشريعة، بالعدل والنفع العام، ليكون المسلم بذلك مسؤولاً عن تصرفاته المالية (4).

كما أن الإسلام يُفاضل بين الناس بالعمل، والغنى فيه هو أولاً غنى النفس، ثم التعفف، مع النظر إلى المال على أنه وسيلة وغاية في وقت واحد، من غير إفراط ولا تفريط. وليس الشرف في تكديس الأموال، وإنما في إنفاقها في سبيل الله تعالى وفق ما تأمر به الشريعة الإسلامية، قال تعالى: { وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } [سورة البقرة: 272].

وقال رسول الله : «يقول العبد: مالي مالي، إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس» [صحيح مسلم، رقم الحديث: 2959].

مبادئ التنمية الاقتصادية في الإسلام

يمكن حصر مبادئ التنمية الاقتصادية في الاقتصاد الإسلامي (6) فيما يلي:

أولاً: الملكية الخُماسية في الاقتصاد الإسلامي

يمتلك الاقتصاد الإسلامي المعاصر خمسة أنماط من الملكيات، هي: الملكية المشاعية للمباحات العامة المادية، الملكية العامة، الملكية الخاصة، الملكية المجموعية، الملكية المختلطة، وكلها في الأصل متأتية ونابعة من ملكية الله تعالى، أما ملكية البشر لها فهي ملكية استخلافية.

ويقوم تحقيق التنمية الاقتصادية في الاقتصاد الإسلامي على أساس تعاون الفرد والمجتمع والدولة معاً، بحيث يُكمّل كل منها الآخر، ولا يُغني أحدها عن الآخر. ومن هنا جاء اعتراف الإسلام بالملكية الخُماسية؛ فهي جميعاً على قدم المساواة تتحمل مسؤولية عمارة الأرض وتنميتها، كل في مجاله، وحسب طاقته، وبقدر مساهمته في النشاط الاقتصادي المطلوب أو المستهدف، في حالة تكاملية إيجابية فيما بينها.

ثانياً: الحرية الاقتصادية المنضبطة

الحرية في الاقتصاد الإسلامي محاطة بإطار من القيم المعنوية والأخلاقية التي أوصى بها الإسلام. فالإسلام يسمح للأفراد بممارسة حرياتهم ضمن الأحكام والقيم والمُثل الأخلاقية الشرعية، إذ تُشكِّل الأخلاق الكريمة القاعدة الأساسية التي ينطلق منها الاقتصاد الإسلامي نحو التنمية والتطور.

وعندما يعترف الإسلام بالحرية الفردية في كل مجال، تعبيراً عن احترامه للإنسان، فإنه لا يتركها مطلقة بلا حدود، بل يضبطها بضوابط تكفل سعادة المجتمع بأسره. ومن هذه الضوابط نظم التكافل الاقتصادي، التي تجعل الفرد مسؤولاً عن المجتمع الذي يعيش فيه، لأن الجزء لا ينفصل عن الكل، والغاية العليا هي سعادة المجموع قبل سعادة الفرد، فلا يعترف الإسلام بسعادة فردية تقوم على شقاء أو ضرر الآخرين.

ويقوم المبدأ الأساسي للحرية في الإسلام على أنه: “لا حرية للفرد فيما نصّت عليه الشريعة الإسلامية”؛ فقد منعت الشريعة كل نشاط اقتصادي يتعارض مع القيم والمُثل التي يتبناها الإسلام، مثل: الربا، والاحتكار، والغش، وأكل أموال الناس بالباطل، وغيرها. كما وضعت مبدأ “ولاية وليّ الأمر على النشاط الاقتصادي العام”، وتدخّل الدولة لحماية المصالح العامة وتقديمها على المصلحة الفردية إذا تعارضتا.

ثالثاً: العمل أساسٌ للملكية

هناك مصادر عديدة للملكية الخاصة والدخول الفردية في الاقتصاد الإسلامي، إلا أن العمل هو المصدر الأساسي لها في الإسلام. ولهذا حثّ الإسلام المسلمين على العمل، بالانتشار في الأرض والمشي في مناكبها وطلب الرزق، قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [سورة الملك، الآية: 15]، قال تعالى: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ [سورة المزمل، الآية: 20]. قال تعالى : ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ…﴾ [سورة التوبة، الآية: 105]. قال تعالى : ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ…﴾ [سورة الجمعة، الآية: 10].

كما حثّت السنة النبوية على القيم التي تخدم التنمية بالتأكيد على العمل كأصل للملكية، قال رسول الله : “ما مِن مسلمٍ يَغرسُ غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكلُ منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ، إلا كان له به صدقة” [صحيح البخاري، رقم الحديث: 2320]. «ما أكلَ أحدٌ طعامًا قطُّ، خيرًا من أن يأكلَ من عملِ يدِه، وإن نبيَّ اللهِ داودَ كان يأكلُ من عملِ يدِه» [صحيح البخاري، رقم الحديث: 2072].

والعمل في الاقتصاد الإسلامي هو كل جهد حلال مشروع، يبذله الإنسان ذهنياً أو بدنياً أو كليهما، لإنتاج سلع وخدمات ذات قيمة ومنفعة معتبرة شرعاً، لإشباع حاجات المجتمع المادية أو المعنوية، مقابل أجر نقدي أو عيني، أو مجاناً تبرعاً وصدقة.

ولكي يكون العمل صالحاً، لا بد أن يقترن بالإيمان الذي يضع العامل تحت رقابة الله تعالى قبل رقابة صاحب العمل، فيرجو أجر الآخرة قبل أجر الدنيا، مؤدياً عمله بأمانة وإخلاص وإتقان، ابتغاء وجه  ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [سورة المجادلة، الآية: 11].الله تعالى. وبذلك تجتمع الثروة المادية مع الثروة الروحية. لذا دعا الإسلام إلى الجمع بين العلم والإيمان، قال تعالى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ…﴾ [سورة النساء، الآية: 124]. و قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [سورة المائدة، الآية: 9].

فالإيمان دافع جوهري للعمل، إلى جانب دافع المصلحة الشخصية، وهو ضمانة لزيادة الإنتاجية وتحسين الجودة. والعمل في الإسلام يشمل الإنتاج المادي والمعنوي على حد سواء، كما في قوله : “والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدُكم حبلَه فيحتطب على ظهره، خيرٌ له من أن يأتيَ رجلًا فيسأله، أعطاه أو منعه” [صحيح البخاري، رقم الحديث: 1471].

شرح الحديث: كان النبي يحرص على تربية المؤمنين على العفة والاستغناء عن الناس، والجِدية في السعي لكسب الرزق الحلال. وفي هذا الحديث، يؤكد أن العمل – مهما كان شاقاً – خير من سؤال الناس وإراقة ماء الوجه، وأن الاكتساب بجهد الذات أشرف من التسول. وهو دعوة لمحاربة البطالة، والحث على العمل المنتج ولو كان متواضعاً، حفاظاً على الكرامة وعزة النفس. وفيه: مشروعية الحلف لتقوية الأمر، وتأكيده. وفيه: إثبات اليد لله تعالى على ما يليق بجلاله سبحانه دون تكييف أو تمثيل، ودون تحريف أو تعطيل (7).

رابعا: التنوع الصناعي والمنتجات

إن أنواع الصناعات والخبرات الفنية التي تحتاجها الأمة، إذا لم يقم بها أحد، أثمت الأمة بأكملها، وأصبحت فرض عين على كل مسلم. وتعبير “إذا لم يقم بها الناس أثمت الأمة بأكملها” يشير إلى مفهوم “فرض الكفاية” في الشريعة الإسلامية؛ وهو أن هناك بعض الواجبات إذا قام بها عدد كافٍ من الناس سقط الإثم عن الباقين، أما إذا لم يقم بها أحد فإن الأمة كلها تأثم لتقصيرها في أداء هذا الواجب (8).

ولذلك، يجب إعداد العنصر البشري إعداداً علمياً وفنياً لهذا الغرض، وتشجيع الابتكار، وتوفير فرص العمل وفرضه على كل قادر، منعاً لأي صورة من صور البطالة. فالإسلام يحث الأفراد على اكتساب الرزق عن طريق العمل، ولا يتحقق السبيل الحقيقي للتنمية إلا بتعبئة الطاقات البشرية، وتوفير العمل لكل قادر، بما يضمن تشغيل جميع الموارد الاقتصادية والإنتاجية، ومن ثم الوصول إلى إنتاج مختلف أنواع الحاجات الاقتصادية للأمة، وهو ما يعني بلوغ التنمية الشاملة في الدولة الإسلامية.

خامسا: إنتاج السلع والخدمات المعتبرة شرعا

من الخصائص المميزة لمنهج التنمية في الاقتصاد الإسلامي أنه يركز على إنتاج الطيبات من السلع والخدمات، ولا ينتج الخبائث. فالتنمية في الاقتصاد الإسلامي لا تُعنى بإنتاج السلع أو الخدمات المحرمة شرعاً، بل تمنع دخولها إلى المجتمع المسلم عبر أي تبادل تجاري أو علاقات اقتصادية.

سادسا: إنتاج حاجات الضروريات أولا

الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي هو العمل وبذل الجهد لاستغلال الموارد الاقتصادية المتاحة، وتحويلها إلى منافع طيبة شرعاً لإشباع حاجات المجتمع. ومن مبادئ التنمية في الاقتصاد الإسلامي أولوية ترتيب الإنتاج، بحيث يبدأ أولاً بإشباع الحاجات الضرورية، ثم الحاجية، ثم التحسينية. وهذا التدرج منطقي وعلمي، يبدأ بتأمين الأساسيات التي لا غنى للإنسان عنها، ثم الانتقال إلى ما يخفف المشقة ويوسع نطاق الحياة، وأخيراً إلى ما يزيد من جودة الحياة وكمالها.

سابعا: الوسطية في الإنفاق

الإنفاق هو صرف المال في السلع والخدمات الاستهلاكية أو الاستثمارية. وقد نهى الإسلام عن صرف المال في غير حق، أو في ترف وسفه، وذم المترفين واعتبرهم من المجرمين، قال الله تعالى: ﴿وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [سورة هود، الآية: 116].

فالترف والبذخ إنما هما تصرف في المال على غير وجه حق، وهما يثيران الحقد والبغضاء بين الناس. والمقصود بالتوسط في الإنفاق هو الترشيد، أي الاعتدال والاقتصاد، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا﴾ [سورة الفرقان، الآية: 67]. أي أن إنفاقهم معتدل، لا إلى حد الإسراف ولا إلى حد البخل، بل بالعدل والقوام، فيطابق طاعة الله، ويؤدي الحقوق إلى مستحقيها، من غير مجاوزة ولا تقصير. , وتصف هذه الآية الكريمة صفة من صفات عباد الرحمن، وهي الاعتدال في الإنفاق، حيث لا يكونون مسرفين ولا بخلاء، بل ينفقون بالعدل والقوام. وهذا يعني أنهم ينفقون في طاعة الله، ويقدمون الحقوق لأصحابها، ولا يتجاوزون الحد في الإنفاق.

4 نقاط في الاعتدال في الإنفاق

وتبرز أهمية الاعتدال في الإنفاق في أمور، منها:

  1. أنه من صفات المؤمنين الصالحين.
  2.    أنه يجنب الإنسان الوقوع في المعاصي.
  3.     أنه يعزز روح التكافل الاجتماعي.
  4.     أنه يحقق التوازن في الحياة.

فالذي ينفق ألفاً في حق فليس بمسرف، والذي ينفق درهماً في غير حق فهو مسرف، ومن يمنع حقاً عليه فقد قتر. أما الترشيد فيحفظ الأموال، ويصرفها فقط في وجوهها المعتبرة شرعاً.

ثامنا: المعاملات الشرعية في الأسواق

يتمّ التبادل التجاري بين أفراد المجتمع من خلال السوق الإسلامية، القائمة على آليات المنافسة النزيهة التي تؤدّي إلى زيادة الإنتاج وتحسين جودة المنتجات، وذلك عبر المعاملات الشرعية العادلة والواضحة، وفي بيئة يسودها البر والتقوى، والتواصي بالحق، والتناصح، والرقابة الشرعية، والتوجيه.

فالأسواق الإسلامية لا تعرف التطفيف، ولا الاحتكار، ولا البَخس، ولا الاستغلال، بل تقوم على معايير القيمة العادلة، في ظل تفاعل قوى العرض والطلب. وهناك شروط وقواعد شرعية تنظم عمليات التبادل والمعاملات المالية والتجارية، من أهمها:

1- تحريم الربا

الربا من أكبر معوّقات التنمية في منظور الاقتصاد الإسلامي، بمفهومه الواسع، وخاصة ما يرتبط بسعر الفائدة الربوي، الذي حرّمه الإسلام تحريماً قاطعاً. وقد جاءت الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية مؤكدةً على تحريمه وبيان خطورته. قال الله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275] فهنا أباح الله البيع وحرّم الربا، في دلالة على عدله ورحمته، حيث يسّر للناس طرق الكسب الحلال، وحظر المعاملات الجائرة التي يأكل فيها الناس أموال بعضهم بالباطل.

وقال تعالى:  ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ [البقرة: 276] أي أن الله يزيل بركة الربا ويذهب خيره، بينما يبارك في الصدقات ويزيدها.

وقال رسول الله : «ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة» [سنن ابن ماجه، رقم الحديث: 2279] شرح الحديث: : [من رحمة الله تعالى بعباده أن أحل لهم الطيبات من الرزق، وحرم عليهم الخبائث، وإن الربا من أخبث الأموال. وفي هذا الحديث بيان لسوء مآل أموال الربا، حيث يخبر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي قال: “ما أحد أكثر”، أي: أصاب مالا كثيرا “من الربا”، وهو من المراباة والزيادة على أصول الأموال، فيأخذ المرابي زيادة عن حقه نظير تأجيل سداد الديون، “إلا كان عاقبته إلى قلة”، أي: كانت نهاية أموال الربا القلة والنقصان، فيمحق الله الربا، أي: ينقصه ويذهب بركته، وهو مصداق لقوله تعالى: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات)( البقرة: 276) ، ومعنى يربي الصدقات: يبارك فيها؛ فكانت نتيحة المرابي عكس المراد من الزيادة والكثرة في المال. وفي الحديث: التحذير من التعامل بالربا، وبيان سوء عاقبته. وفيه: الإرشاد إلى إحسان المكاسب، والقناعة بالحلال] (9).

وقال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [البقرة: 278] ومعناها: يا أيها الذين آمنوا، اتقوا الله واتركوا ما بقي من الربا إذا كنتم مؤمنين حقًا.

وقال رسول الله : «الذَّهَبُ بالذَّهَبِ، والفِضَّةُ بالفِضَّةِ، والبُرُّ بالبُرِّ، والشَّعيرُ بالشَّعيرِ، والتَّمرُ بالتَّمرِ، والمِلْحُ بالمِلْحِ: مِثلًا بمِثلٍ، يَدًا بيَدٍ، فمَن زاد أوِ ازداد فقد أَربَى؛ الآخِذُ والمُعْطِي فيه سواء» [صحيح مسلم، رقم الحديث: 1584].

2- العلم والفقه بأحكام المعاملات

من الواجب على كل صاحب مهنة أو عمل أن يتعلّم ما يرتبط بمجال عمله من الأحكام الشرعية، إلى جانب ما يلزمه من الخبرات العملية والمهارات. قال الله تعالى: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 55] وقال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لا يَبِعْ في سوقِنا إلا من قد تفقَّه في الدين” [أخرجه الترمذي وحسنه] وهذه العبارة تعني أنه لا يُسمح بالتجارة في سوق المسلمين إلا لمن لديه معرفة بأحكام الدين المتعلقة بالبيع والشراء، كما قال رضي الله عنه: لا يبيع في سوقنا إلا من يفقه، وإلا أكل الربا شاء أم أبى” [ كتاب: قوت القلوب لأبي طالب المكي (2/ 432)، وإحياء علوم الدين (2/ 64)].

ويؤكد مبدأ التَفَقُّه في الدين للتجار– الذي وضعه عمر بن الخطاب – يؤكد على أهمية الفهم الشرعي للمعاملات التجارية ، حتى يتجنبوا الوقوع في المعاملات المحرمة، وفي مقدمتها الربا. وهكذا كان العلم والفقه والقدرة على إدارة المعاملات بأمانة وضبط من أهم شروط نجاح التجارة في السوق الإسلامية.

بعض أقوال فقهاء الإسلام في وجوب تفقه التجار بفقه المعاملات (10)

  • حُكي عن الإمام مالك رحمه الله أنه: “كان يأمر الأمراء، فيجمعون التُّجار والسُّوقة، ويعرضونهم عليه، فإذا وجد أحداً منهم لا يفقه أحكام المعاملات، ولا يعرف الحلال والحرام، أقامه من السوق، وقال له: تعلَّم أحكام البيع والشراء، ثم اجلس في السوق، فإن لم يكن فقيهاً أكل الربا” (التراتيب الإدارية، لعبد الحي الكتاني (2/17).)
  • وقال عبد الرؤوف المناوي رحمه الله:   “ومن يبيع ويشتري يلزمه تعلُّم أحكام المعاملة” (التيسير بشرح الجامع الصغير (1/164). )
  • وقال أبو الحسن السندي رحمه الله – ضمن الأقوال الواردة في شرح الحديث “طلب العلم فريضة” –: وقيل: هو علم البيع والشراء… إذا أراد الدخول في شيء من ذلك، يجب عليه طلب علمه” [حاشية السندي على ابن ماجه (1/98)]
  • وقال الشوكاني رحمه الله: “ فيندرج تفقّه التاجر للتجارة تحت الأدلة العامة، ولا شك أن أنواع الدين تختلف باختلاف الأشخاص، فمثلاً التاجر المباشر للبيع والشراء، أحوج لمعرفة ما يرجع إلى ما يلابسه من غيره، ممن لا يلابس البيع إلا نادراً” [وبل الغمام (2/122)].
  • وقال ابن عابدين رحمه الله – في معرض الحديث عن الفرضية :”وعلم البيع والشراء… لمن أراد الدخول في هذه الأشياء”[رد المحتار، المعروف بحاشية ابن عابدين (1/42)].
  • وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله: “اعلم أن تحصيل علم هذا الباب – (علم الكسب) – واجب على كل مسلم مكتسب؛ لأن طلب العلم فريضة على كل مسلم، وإنما هو العلم المحتاج إليه، والمكتسب يحتاج إلى علم الكسب، ومهما حصَّل علم هذا الباب، وقف على مفسدات المعاملة فيتقيها، وما شذَّ عنه من الفروع المشكلة، فيقع على سبب إشكالها فيتوقف فيها إلا أن يسأل… فلابد له من علم التجارة؛ ليتميّز له المباح عن المحظور، وموضع الإشكال عن موضع الوضوح (إحياء علوم الدين (2/64)].
  • وجاء في التراتيب الإدارية للكتاني (2/18):
لا تَجلسنَّ في السوق حتى تعلمَا ما حَلَّ من بيع وما قد حُرِّما وفي الشِّرا أيضًا وذاك واجب أيضًا على جميع من يُسَبِّب لنفسه أو غيره ما يعرف حكم الذي في فعله تصرّف

3- الالتزام بأنواع المبادلات التجارية التي أحلها الله تعالى وترك ما حرّمها.

4- تحرّي الصدق والأمانة وحسن التعامل في التبادلات التجارية، قال رسول الله : «التاجرُ الصدوق الأمينُ: مع النَّبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين» [سنن الترمذي، رقم الحديث: 1209]، وقال : “إنَّ التُّجارَ يُبعَثون يومَ القيامةِ فُجَّارًا، إلَّا منِ اتَّقى اللهَ وبَرَّ وصَدَقَ (سنن الترمذي، رقم الحديث: 1210).

5- تحريم أكل الأموال بطرق غير شرعية، مثل الغش، والتدليس، والغرر، والرشوة، وغيرها، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ…﴾ [البقرة: 188] وقال رسول الله : قال اللهُ: ثلاثةٌ أنا خصمُهم يومَ القيامةِ: رجلٌ أعطى بي ثم غدر، ورجلٌ باع حرًّا فأكل ثمنَه، ورجلٌ استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يُعطِه أجرَه (صحيح البخاري، رقم الحديث: 2227).

6- المكاتبة في التجارة والديون، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ…﴾ [البقرة: 282]، تفسير الآية: يأمر الله تعالى بكتابة الديون إلى أجل مسمى، حفظاً للحقوق، ودفعاً للنزاع، على أن يكتب الكاتب بالعدل (11).

7- التقوى في المبادلات والوفاء بالعهود، قال الله تعالى: ﴿بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 76]، وقال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا…﴾ [النساء: 58].

8- النهي عن جميع البيوع المنهي عنها كالنجش، والمنابذة، والملامسة، وتلقي الركبان، وبيع الحاضر للبادي، وبيع الغرر، وكل ما نهى عنه القرآن والسنة.

9- ستة أنواع من الرقابة في الاقتصاد الإسلامي: الرقابة على التبادلات التجارية في الأسواق، وتقوم بها الدولة عبر وظيفة المحتسب أو ولاية المظالم. قال الله تعالى: { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ…} [التوبة: 105] وفي الاقتصاد الإسلامي، تشمل الرقابة على النشاطات الاقتصادية ما يلي:

  • رقابة الله تعالى.
  • رقابة رسول الله .
  • رقابة المؤمنين.
  • رقابة الفرد المسلم على نفسه.
  • رقابة ربّ العمل (صاحب النشاط الاقتصادي).
  • رقابة الدولة الإسلامية على المستويين الجزئي والكلي.

تاسعا: العدالة الاقتصادية

العدالة الاقتصادية في الإسلام تعني تحقيق التوازن والإنصاف في توزيع الثروات والموارد بين أفراد المجتمع الإسلامي، والسعي لتوفير حياة كريمة لجميع أفراده، مع مراعاة الحقوق والواجبات لكل فرد، إضافةً إلى القضاء على الفقر والمسكنة والعوز، وتعزيز التكافل الاقتصادي داخل النظام الاقتصادي الإسلامي.

متطلبات أساسية لتحقيق العدالة الاقتصادية في الاقتصاد الإسلامي

  • الزكاة: فريضة مالية إلزامية على الأغنياء، تُصرف للمحتاجين والفقراء، وتعدّ ركيزة أساسية في تحقيق التوازن الاقتصادي.
  • تحريم الربا: يحرم الإسلام التعامل بالربا، وهو الزيادة في المال مقابل الأجل، لما يسببه من ظلم واستغلال للفقراء.
  • التحذير من الاحتكار المحرَّم: يحرّم الإسلام الاحتكار، وهو حبس السلع عن البيع وقت الضيق بهدف رفع أسعارها، لما فيه من إضرار بالمجتمع.
  • العمل والإنتاج: يشجع الإسلام على العمل والإنتاج ويسعى لتحقيق التنمية الاقتصادية، مع التأكيد على أهمية الكسب الحلال.
  • التكافل الاقتصادي: يدعو الإسلام إلى التكافل والتعاون بين أفراد المجتمع، ومساعدة المحتاجين والضعفاء.
  • العدالة في المعاملات: يحث الإسلام على العدل في جميع المعاملات التجارية والمالية، وينهى عن الغش والخداع والظلم وأكل أموال الناس بالباطل.
  • توفير فرص العمل: تسعى الشريعة الإسلامية إلى توفير فرص عمل لجميع أفراد المجتمع للقضاء على البطالة والفقر.
  • حماية الضعفاء: تهتم الشريعة بحماية حقوق الضعفاء والمستضعفين وتضمن لهم حياة كريمة.

أهداف العدالة الاقتصادية في الاقتصاد الإسلامي

أ. تحقيق التوازن والإنصاف في توزيع الثروات.

ب. القضاء على الفقر والظلم الاجتماعي.

ج. تحقيق التكافل الاقتصادي بين أفراد المجتمع.

د. تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

هـ. بناء مجتمع إسلامي قوي ومتماسك ومتعاون.

أهمية العدالة الاقتصادية في الاقتصاد الإسلامي

تسهم العدالة الاقتصادية في:

أ. تحقيق الاستقرار والأمن الاجتماعي.

ب. تعزيز الوحدة والتضامن بين أفراد المجتمع.

ج. دعم تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة.

د. ضمان حقوق الأفراد والمجتمعات.

ومما تقدم يتضح أن العدالة الاقتصادية في الاقتصاد الإسلامي ليست مجرد مبدأ نظري، بل هي نظام متكامل يسعى لتحقيق التوازن والإنصاف في جميع جوانب الحياة الاقتصادية، مع التركيز على حماية حقوق الضعفاء والمحتاجين، وتعزيز التكافل الاقتصادي، وتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة للمجتمع.

ولتحقيق مبدأ العدالة الاقتصادية، يجب أن يتضامن كلٌّ من الدولة والأفراد في ذلك؛ فالدولة تضع أسس التوزيع العادل للدخل والموارد، والأفراد يقومون بالتكافل فيما بينهم لتقليل حدة التفاوت في الدخول بينهم، والقضاء على الصراع الطبقي بين الأغنياء والفقراء. فيقدم الغني العون للفقير، ويلتزم بواجباته المالية تجاهه، وخاصة الزكاة، تطبيقاً لقول رسول الله : “فأعلِمهم أنَّ اللهَ افترضَ عليهم صدقةً في أموالهم، تُؤخَذُ من أغنيائِهم، وتُرَدُّ على فقرائِهم” [صحيح البخاري، رقم الحديث: 1395].

أهم جوانب وضروريات التنمية الاقتصادية في الاقتصاد الإسلامي

1. العدالة الاقتصادية:يهدف الاقتصاد الإسلامي إلى تحقيق التوازن والإنصاف في توزيع الثروات والموارد بين أفراد المجتمع، مع توفير فرص العمل للجميع، ومساندة الفقراء والمحتاجين، وذلك بهدف إقامة مجتمع متماسك تسوده روح التكافل والكرامة الإنسانية.

2.   منع الاحتكار والربا والاستغلال: يحرم الإسلام الاحتكار الذي يضر بالمجتمع من خلال حبس السلع ورفع الأسعار، كما يحرم الربا بجميع أشكاله لما فيه من ظلم واستغلال للفقراء. كذلك يمنع التلاعب بالأسعار، ويدعو إلى المنافسة الشرعية النزيهة في الأسواق.

3.  تداول الثروة: يشجع الاقتصاد الإسلامي على تحريك الثروة وعدم تكديسها، وذلك من خلال آليات الزكاة والصدقات والإنفاق في سبيل الله، بما يسهم في دوران الثروة وتوزيعها بشكل عادل يخدم التنمية ويحد من الفقر.

4. العمل والإنتاج: يُعدّ العمل والإنتاج الوسيلة الأساسية لكسب الرزق الحلال وتحقيق التنمية المستدامة للمجتمع، مع التأكيد على أن العمل عماد الملكية والنجاح الاقتصادي، وضرورة اقترانه بالإتقان والعمل الصالح.

5. الاستثمار الحلال: يشجع الاقتصاد الإسلامي على الاستثمار في المشاريع النافعة المشروعة التي تحقق منفعة للفرد والمجتمع، مع تجنب الاستثمار في الأنشطة المحرمة شرعاً، والالتزام بالقيم الأخلاقية والمبادئ الشرعية في إدارة الأموال وتنميتها.

6. التعاون والتكافل: يؤكد الإسلام على أهمية التعاون والتكافل الاقتصادي بين أفراد المجتمع، من خلال الوسائل المالية الإسلامية المختلفة، وخاصة الزكاة الواجبة والصدقات التطوعية، وغيرها من أشكال الدعم الاجتماعي، لتحقيق العدالة وتخفيف المعاناة عن المحتاجين.

7. المسؤولية الاجتماعية والاقتصادية: يدعو الاقتصاد الإسلامي الأفراد والجماعات إلى تحمّل المسؤولية الاجتماعية والاقتصادية تجاه المجتمع، عبر المشاركة الفاعلة في خطط التنمية، والسعي لتحقيق الخير والنماء الشامل للجميع، دون تهميش أو إقصاء لأي فئة.

8. المالية الإسلامية: تعتمد التنمية الاقتصادية في الإسلام على نظام مالي متكامل، يقوم على تجنب الربا والمعاملات المحرمة، ويرتكز على أدوات التمويل الإسلامي والشركات الملتزمة بضوابط الشريعة، بما يضمن عدالة النظام الاقتصادي واستقراره.

تنمية شاملة في الفكر الاقتصادي الإسلامي

سبق الاقتصادُ الإسلاميُّ كلَّ فكرٍ اقتصاديٍّ وضعي في معالجة قضايا التنمية (12)، وإن لم يكن مصطلح “التنمية” موجوداً بلفظه، فقد وردت ألفاظ عديدة مترادفة له في النصوص القرآنية والسنة النبوية الشريفة وكتابات العلماء، مثل: التعمير، والعمارة، والحياة الطيبة، والتثمير. ويقترب مصطلح التنمية في الاقتصاد الإسلامي من مصطلح العمران، الذي يعني العمل بشرع الله تعالى لتحقيق الكفاية للجميع، والوصول إلى نموٍّ مستمر للطيبات، وذلك بالاستخدام الأمثل لكل ما سخَّر الله تعالى من موارد وفيرة، قال الله تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61]  وقال تعالى : ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]

إن نظرة الاقتصاد الإسلامي للتنمية (العمران) هي نظرة شمولية تتضمن جميع نواحي الحياة المادية والروحية والأخلاقية، مع التركيز على بناء الإنسان باعتباره المحور الأساس للعمليات التنموية؛ فهو الكائن الوحيد القادر على إحداث التغيير والتطوير، والقيام بعملية التنمية في هذا الكون، بما ميّزه الله سبحانه وتعالى من قدرات ومؤهلات.

وقد حارب الاقتصاد الإسلامي السلوكيات السلبية، مثل الكسل، والاتكالية، وعدم السعي، لما ينتج عنها من التخلف والفقر، وهما معيقان لأي عملية تنموية وعمرانية. وحرص على تنمية الإنسان وموارده، ليعيش حياة طيبة مليئة بالإنجاز، فينال ثمرة عمله الصالح في الدنيا والآخرة.

وتقوم التنمية الاقتصادية في الإسلام على الإنسان المسلم الذي تخرّج في مدرسة النبوة، ويستثمر كل ما هو متاح من الموارد وفق المنهج الإسلامي في العمل، كما قال رسول الله : “إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ» [المعجم الأوسط للطبراني: 897]

ويبقى الهدف الأسمى للإنتاج والتعمير هو مرضاة الله سبحانه وتعالى وابتغاء وجهه، وليس مجرد المردود المادي. والتنمية في الاقتصاد الإسلامي هي تنمية شاملة لأجل الإنسان الذي يؤدي وظيفته في تحمل أعباء الاستخلاف وإعمار الأرض، لكونه خليفة الله فيها، والكون بكامل موارده مسخر له لهذا الغرض، مما يجعل التنمية واجباً شرعياً، وجزءاً من العبادة.

ومن هنا، فإن الاقتصاد الإسلامي لا يؤيد التنمية الرأسمالية الوضعية التي تمنح الحرية المطلقة ولا تضمن القوت اليومي، كما لا يؤيد التنمية الاشتراكية الوضعية التي تضمن القوت اليومي لكنها تقيّد الحرية الاقتصادية الفردية. بل يعتمد فكره التنموي على حرية اقتصادية منضبطة بالأحكام الشرعية، مع ضمان مستوى معيشي كريم لكل فرد، يتحقق به ما يعرف بـ”الكفاية المعتبرة”.

أثر الدعوة الإسلامية في تحقيق التنمية الاقتصادية

حظيت التنمية الاقتصادية باهتمام واسع من المفكرين والدعاة والفقهاء، لما لها من أثر عظيم في تحقيق الرخاء والازدهار على مستوى الفرد والجماعة. ويتضح هذا في بيان مفهوم التنمية وخصائصها في رحاب الدعوة الإسلامية، حيث تمتاز التنمية الاقتصادية في الإسلام بالشمول، والتنوع، والعدالة (13).

لقد كان للدعوة الإسلامية أثر بارز في دفع عجلة التنمية الاقتصادية على مستوى الأفراد والجماعات والدول، إذ حثّت على استغلال الثروات الطبيعية وحُسن توظيفها، كما دعت أصحاب الأموال إلى الإنفاق فيما يحقق النفع العام، كإنشاء المساجد، وبناء المستشفيات، وتنمية الأوقاف على اختلاف أنواعها.

كما ربطت الدعوة بين التدين والطاعة من جهة، وبين الازدهار والرخاء من جهة أخرى، وأكدت على ضرورة التصدي لمعوقات التنمية الاقتصادية، مثل: الربا، والرشوة، والسرقة، والغش، والاحتكار.

ويرتبط الاقتصاد الإسلامي بكافة العلوم الإسلامية، كعلم الحديث، والتفسير، والعقيدة، وغيرها، ذلك أنه نظام شامل مستنبط من الأصول والمبادئ العامة للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة المرتبطة بالنظام الاقتصادي في الإسلام.

وتتنوع خصائص التنمية الاقتصادية في الإسلام، ومن أبرزها:

  •  الشمولية.
  • التوازن.
  • الواقعية.

والإسلام يتسم بالوسطية في نظامه الاقتصادي بوجه خاص، وفي جميع أنظمته بوجه عام، جامعاً بين الجانب المادي والجانب الروحي. ولهذا، فإن من واجب الأمة إحياء قيمة العمل كوسيلة لتحصيل الرزق، وحفظ النعمة بشكر الله عليها، وتوجيه النظم الاجتماعية والاقتصادية للاستفادة من منهج الإسلام في وضع أفضل السياسات الاقتصادية التي تحقق توزيع الموارد توزيعاً شاملاً وعادلاً، بلا تفرقة جنسية أو عرقية.

مفهوم العمارة في الاقتصاد الإسلامي

من مفاهيم التنمية في الاقتصاد الإسلامي العمارة، وهذا مفهوم واسع وشامل ومتكامل يهدف إلى تحقيق المستوى المعيشي الكريم المسمى بمستوى حدّ الكفاية المعتبرة المجانية لكل فرد مسلم؛ وكذلك تحقيق الكفاءة الاقتصادية للدخول الى النشاطات الاقتصادية من خلال الاستغلال الأمثل للموارد الاقتصادية الوفيرة (14).

هنالك العديد من المصطلحات في القرآن والسنة تدل على النمو أو التنمية منها : الإعمار، الابتغاء من فضل الله ، السعي في الأرض ، إصلاح وإحياء الأرض وعدم فسادها ، الحياة الطيبة ، التمكين . إلاّ أن مصطلح العمارة ، والتعمير هو من أصدق المصطلحات تعبيراً عن التنمية الاقتصادية فى الاقتصاد الإسلامي (15).

المفهوم الضيق للتنمية في الاقتصاد الوضعي

ينحصر المفهوم الوضعي للتنمية في الإنتاج المادي البحت، مغفلاً إنتاج الحاجات الروحية، كما هو الحال في النظامين الرأسمالي والاشتراكي الوضعيين، اللذين يهملان إنتاج السلع والخدمات ذات البعد الروحي، ويقتصران على الحاجات المادية فقط. وفي ظل هذا القصور يختل التوزيع، ولا يتمتع أفراد المجتمع فيهما بحدّ الكفاية في الدخل والمعيشة.

المفهوم الواسع للتنمية في الاقتصاد الإسلامي

المفهوم الإسلامي للتنمية يشمل الإنتاج المادي والروحي معاً، بحيث لا يقتصر على أحدهما ويهمل الآخر، بل يعمل على إحداث التوازن العادل بينهما وفق مصالح الأمة، مع إشباع حاجات المجتمع من كليهما، دون التضحية بأحدهما من أجل الآخر.

ويُحدَّد الحجم النسبي لكل منهما من خلال التخطيط الاقتصادي للدولة، وفق المصالح العليا للمجتمع الإسلامي. وفي هذا النموذج، يتحقق الاعتدال في التوزيع، بما يعني تحقيق العدالة في توزيع الدخل القومي وثروات الأمة، واستقرار الاقتصاد الوطني، وحمايته من الأزمات والمشكلات المختلفة.

كما يعتمد على الاستغلال الأمثل للموارد الاقتصادية، مع تجنب الهدر والتبذير والإفراط في الترف، وضمان حصول كل فرد في المجتمع المسلم على حدّ الكفاية المعتبرة في الدخل والمعيشة.

عمارة الأرض

إن مصطلح “عمارة الأرض” في الفكر التنموي الإسلامي له دلالات واسعة لا تحدّها حدود، ما دام ملتزماً بالأحكام الشرعية. فهو نشاط مستمر لا نهاية له، يهدف إلى خدمة المجتمع الإسلامي. وكما أن إنتاج السلع والخدمات يبدأ بالضروريات، ثم الحاجيات، ثم التحسينيات، ويتطور بلا توقف نحو الأمام، فكذلك عمارة الأرض والتنمية عليها لا يتوقفان، بل يواصلان النمو والتطور نحو آفاق غير محدودة.

قال الله تعالى: { هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61] فالآية الكريمة تؤكد وجوب عمارة الأرض. ومعنى “استعمركم فيها” أي طلب منكم عمارتها بما تحتاجون إليه من زراعة وغرس وبناء. وهذا الطلب المطلق من الله تعالى يفيد الوجوب، أي أن الله جعلكم عُمّار الأرض وسكانها.

معنى “استعمركم” (16): إن كلمة “استعمركم” في المنظور الشرعي لها معانٍ عديدة، منها ما يلي: في سياق الآية القرآنية، تعني “جعلكم عمّاراً” أو “مستوطنين” في الأرض؛ أي أن الله تعالى خلقكم وأسكنكم فيها، ومنحكم القدرة على عمارتها وإصلاحها.

 أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه من بناء المساكن وغرس الأشجار. قيل: ألهمكم عمارتها من حرث وزرع وحفر للأنهار. والاستعمار طلب العمارة، والطلب المطلق من الله تعالى يكون على الوجوب. خلقكم لعمارتها (هو أنشأكم من الأرض)، أي ابتدأ خلقكم منها، لأن كل بني آدم من صلب آدم عليه السلام المخلوق من تراب، واستعمركم فيها أي جعلكم عمّارها وسكانها.

(هو أنشأكم من الأرض) ؛ لم ينشئكم منها إلا هو، ولم يستعمركم فيها غيره، وإنشاؤكم منها هو خلق أصل البشر من التراب، واستعمركم فيها أي أمركم بالعمارة، وهي متنوعة إلى واجب وندب ومباح ومكروه. بشكل مبسّط: الاستعمار هنا لا يعني الاستعمار السياسي المتمثل في احتلال البلدان القوية للبلدان الضعيفة، بل معناه أن الله تعالى جعل الإنسان يعيش على الأرض ليعمرها ويبنيها.

أقوال العلماء في العمارة

استخدم قاضي القضاة أبو يوسف لفظ العمارة في نصيحته لأمير المؤمنين هارون الرشيد، حيث قال:”إن العدل وإنصاف المظلوم، وتجنب الظلم، مع ما في ذلك من الأجر، يزيد به الخراج، وتكثر به عمارة البلاد” (17).

ومعنى العبارة: أن إقامة العدل وإنصاف المظلوم، وتجنب الظلم، يؤدي إلى زيادة الإيرادات (الخراج) وعمران البلاد، في حين أن الظلم يؤدي إلى النقصان والخراب. وهذا المفهوم يؤكد أهمية العدل في بناء مجتمعات قوية مزدهرة، حيث يشعر الناس بالأمان، فتزداد إنتاجيتهم وعطاؤهم، مما يعزز الثقة بين الحاكم والمحكوم ويخلق بيئة مستقرة ومواتية للاستثمار والتنمية.

وقد ورد عن الإمام أبي يوسف في كتابه الخراج: “إن العدل وإنصاف المظلوم وتجنب الظلم، مع ما في ذلك من الأجر، يزيد به الخراج، وتكثر به عمارة البلاد، والبركة مع العدل تكون، وهي تفقد مع الجور” (18).

ويرى الماوردي أن من مستلزمات السلطان عمارة البلدان بالاعتماد على مصالحها وتهيئة سبلها ومسالكها، مع الالتزام بالعدل، إذ لا ينجح أي مشروع إنمائي إذا لم يصطبغ بالعدل الشامل الذي يعمر البلاد وينمي الأموال (19). ويقول المقريزي: “عندما يتقلص العدل مع هيمنة الفساد والجبروت والاغتصاب في مواطن الحكم والإدارة، يتوقف الإعمار، وتحدث الأزمات، ويحل البوار بالديار” (20) .

يقوم مفهوم عمارة الأرض في الاقتصاد الإسلامي على شرط الخلافة في الأرض، قال الله تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] وتبعية الاستخلاف تعني تسخير الموارد الطبيعية الوفيرة في الأرض للإنسان لينتفع بها في إنتاج السلع والخدمات، وتمكينه منها، تمكين استعمال أو انتفاع. قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [الأعراف: 10]

وعمارة الأرض لا تقوم إلا بالعمل، لأنه شرط أساس للملكية. وكل عمل يعمله ابن آدم محاسب عليه، قال الله تعالى: { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129] والمعنى: أن الله يجعلكم خلفاء في الأرض، أي يمنحكم السلطة والقدرة على إعمارها وتدبير شؤونها، ثم يراقب أعمالكم ليحاسبكم عليها ويجازيكم على ما قدمتم من خير أو شر. وهذا يعني أن الاستخلاف في الأرض أمانة ومسؤولية وليست امتيازاً مجرداً.

التنمية (العمارة) الإسلامية هي الأخذ بأسباب الرقي والتقدم

إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها؛ وقد أمرنا باستباق الخيرات، كما قال تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة: 148] أي: بادروا وسارعوا في عمل الخير، والمبادرة تعني المسارعة الإيجابية للعمل النافع.

والدنيا مزرعة الآخرة، ونحن مأمورون بعدم تقديمها على الآخرة، ومحذّرون من جعلها أكبر الهم ومبلغ العلم، لكننا مأمورون أيضاً بعمارة الأرض، كما قال الله تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61] فالأخذ بأسباب الرقي والتقدم لا ينافي الدين، بل هو مما أمرنا الله به صيانةً للدين، ولأن تكون يد المسلمين هي العليا، فإن اليد العليا خير من اليد السفلى.

ومن هنا، فإن وجود الصناع والزراع والأطباء وأصحاب المهن المختلفة التي تقوم عليها مصالح الناس، يُعتبر من الفرائض الكفائية على المسلمين، والحرص على هذه الأعمال والنهوض بها، مع النية الصالحة، من جملة الطاعات التي يُتقرب بها إلى الله تعالى (21)

الفلسفة التنموية المتفائلة والمتشائمة في منظور الاقتصاد الإسلامي

ترتكز التنمية الاقتصادية في الاقتصاد الإسلامي على مبادئ وأخلاقيات مستمدة من الشريعة الإسلامية، بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وتوزيع ثروات ودخول الأمة توزيعاً عادلاً، وتلبية احتياجات المجتمع في مجالاته الثلاثة: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات، مع تجنب الاحتكار والربا والاستغلال.

ويصنّف الاقتصاد الإسلامي الفكر الفلسفي في العمل والاكتساب والنشاطات الاقتصادية إلى صنفين متناقضين:

  • المنظور الفلسفي الاقتصادي المتفائل.
  • المنظور الفلسفي الاقتصادي المتشائم.

ولو أمعنّا النظر في هذه الآيات الكريمة من القرآن الكريم، نجد الوصف الدقيق لكلا هذين المذهبين أو الفلسفتين، وذلك على النحو الآتي:

أولاً: المنظور الفلسفي الاقتصادي المتفائل

هؤلاء هم الفئة المؤمنة الصادقة التي تعمل وتكدّ بميزان الاعتدال، فتحقق التوازن بين الدنيا والآخرة، وبين الحاضر والمستقبل، وبين المصلحة الفردية والمصلحة العامة للأمة، دون تفريط أو إفراط في نشاطاتهم.

إنهم الفئة الصادقة المتفائلة، أصحاب الميمنة، الذين وصفهم الله تعالى في قوله عز وجل: { فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } [البلد: 11-18]

ثانياً: المنظور الفلسفي الاقتصادي المتشائم

وهؤلاء على النقيض من الفئة الأولى، فهم الفئة الكافرة غير المؤمنة، التي تعمل وتكدّ للدنيا فقط، وتنسى الآخرة، وتبني حياتها على الحاضر فقط، وتسعى بإلحاح لمصلحتها الفردية المطلقة، مهملةً المصلحة العامة للأمة، مع إفراط في بعض نشاطاتهم الاقتصادية وتفريط في أخرى.

إنهم الفئة الخاسرة، أصحاب المشأمة، الذين وصفهم الله تعالى بقوله: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ } [البلد: 19-20]

العيش على أتعاب الآخرين هو تنمية اقتصادية عقيمة

إن عمارة الأرض في الاقتصاد الإسلامي تكون بإصلاحها، وإحيائها، وإشاعة الحياة والنماء فيها، حتى تكتسي جنات من نخيل وأعناب، وحدائق ذات بهجة، وزروع وثمار تُؤخذ حقوقها عند الحصاد، وأنعام وخيل، وأنهار وديار، وصناعة وتجارة، وغير ذلك مما تحتاج إليه الحياة (23).

وهذا العمل واجب على الناس جميعاً، يتعاونون فيه، ويقوم كلٌّ منهم بما يستطيع من جهد، ولا يجوز أن يعمل البعض ويظل الآخرون عالةً عليهم، يستهلكون دون إنتاج، ويأخذون دون عطاء. فالمتعطل عن الكسب والكدح، ما لم يكن عاجزاً أو متفرغاً لطلب علم نافع، مذموم؛ ولو اقتدى به المسلمون لفسدت الأرض، وصاروا تبعاً لغيرهم من الأمم العاملة القوية.

فالإنسان المثالي في الإسلام هو الذي يجمع بين العمل لدنياه والعمل لآخرته، “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً”، بخلاف الصورة النصرانية التقليدية التي جعلت “الراهب” مثالاً للتقوى، فيعتزل العمل والحياة.

والكسب والعمل الدنيوي في الإسلام ليس مباحاً فحسب، بل يكون واجباً إذا تعلق بضرورة المجتمع والأمة. وقد نبّه الإمام الراغب رحمه الله في كتاب الذريعة إلى مكارم الشريعة، إلى أن التكسب وإن كان مباحاً من وجه، فهو واجب من وجه آخر، لأنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ومن أخذ من عمل غيره أو منافع غيره ولم يعط مقابلها نفعاً، فقد ظلمهم، وخالف قوله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وقال تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]

ولهذا ذُمَّ من يدَّعي التصوف ويترك العمل، فلا هو صاحب كسب ينفع به الناس، ولا علم ينتفع به، فيضيق على الناس معاشهم ويأخذ منهم دون أن يعطيهم.

ومن تعطّل وتبطّل فقد انسلخ من الإنسانية، بل من الحيوانية، وأصبح من عداد الموتى. وقد شبّه بعض أهل التصوف الفقير الذي لا حرفة له بـ”البومة” الساكنة في الخراب، التي لا نفع فيها لأحد.

أهداف العمليات التنموية في الاقتصاد الإسلامي

تتسم التنمية في الفكر الاقتصادي الإسلامي بصفات التوازن والشمولية، فهي تشمل الجانبين المادي والروحي معاً، وتعمل على تحقيق الرفاهية القائمة على إشباع الحاجات المادية، إلى جانب إشباع الحاجات الروحية التي تمثل مع البعد المادي جناحي حياة الإنسان. وبتحقيق التوازن الشرعي الدقيق بين هذين البعدين، تتحقق الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة في الاقتصاد الإسلامي.

والتنمية في الاقتصاد الإسلامي تستهدف تحقيق أهداف اقتصادية عديدة، من أهمها ما يلي (24):

تحقيق الأمن المادي من الجوع والأمن من الخوف، قال الله تعالى: { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } [سورة قريش: 3-4]. توفير الحياة الطيبة الكريمة لكل إنسان مسلم، قال الله تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [سورة النحل: 97]، حياة تسمو بالروح والجسد.

تحقيق سيادة روح الإخاء والتكافل والمودة والرحمة بين أفراد المجتمع الإسلامي، تحت ظلال الأمن والعدل، وخالية من شبح الفقر والخوف والبغضاء والأثرة والصراعات الطبقية المقيتة.

    تحقيق العدالة في توزيع دخول وثروات الأمة، بحيث:

  • لا يكون المال دُولة بين الأغنياء وحدهم.
  • يتحقق التوازن بين منافع الأجيال الحالية ومنافع الأجيال المستقبلية.
  • تتحقق التنمية المستدامة، وهي: “التنمية التي تلبي احتياجات الجيل الحاضر دون التضحية أو الإضرار بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها”.

التنمية المستدامة في الاقتصاد الإسلامي

سبق الاقتصاد الإسلامي إلى تعريف وتطبيق مفهوم التنمية المستدامة قبل أن تعرفه الاقتصاديات الغربية الوضعية بأكثر من أربعة عشر قرناً. فالأجيال القادمة في المنظور الإسلامي لها حق في الموارد الاقتصادية الطبيعية الحالية، وكذلك في ثروات الأجيال الحاضرة.

وتطبيقاً لذلك، حثَّ الإسلام الآباء على أن يتركوا أولادهم أغنياء لا فقراء، فقال رسول الله : ” أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغنياءَ خيرٌ من أنْ تَذَرَهُمْ عالةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، ولن تُنفقَ نفقةً تبتغي بها وجهَ اللهِ إلَّا أُجِرتَ عليها، حتى ما تَجعلُ في فيّ امرأتِك» [صحيح البخاري، رقم الحديث: 5668]

وقال :” إذا ماتَ الإنسانُ انقطع عملُهُ إلا من ثلاثٍ: إلا من صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له» [صحيح مسلم، رقم الحديث: 1631]

وقال : “إنَّ مما يلحقُ المؤمنَ من عملِه وحسناتِه بعدَ موتِه: علمًا علَّمه ونشره، وولدًا صالحًا تركه، ومصحفًا ورَّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابنِ السبيلِ بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقةً أخرجها من مالِه في صحتِه وحياتِه، يلحقُهُ من بعد موتِه» [سنن ابن ماجه، رقم الحديث: 200] (25)

شرح الحديث: حثَّ الشرع المطهَّر على فعل الخيرات والطاعات، وجعل الدنيا مزرعةً للآخرة، وأوضح أن هناك أعمالاً يمتد أجرها بعد الموت، ومنها: نشر العلم، وتربية الولد الصالح، ووقف المصحف أو بناؤه، وبناء المساجد والمساكن لابن السبيل، وحفر الأنهار، والصدقة الجارية. وهذه الأعمال تجري أجورها على صاحبها ما دام نفعها مستمراً.

ويشير القرآن الكريم إلى الترابط بين الأجيال في صورة من التراحم والتعاطف، في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [سورة الحشر: 10]

ومن الأمثلة العملية على مراعاة مصالح الأجيال القادمة، ما فعله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث لم يقسم أراضي العراق بعد فتحها بين الجنود الفاتحين، بل فرض عليها الخراج لمصلحة الأجيال المتعاقبة.

إن الإسلام ـ بقدر حرصه على تحقيق النفع للأجيال الحالية ـ يضع في اعتباره منافع الأجيال القادمة أيضاً، ويجعل من التنمية المستدامة واقعاً عملياً ملموساً، فتصبح الأمة على مر العصور حلقات متماسكة، يعمل أوّلها لخير آخرها، فيغرس السلف ليجني الخلف، ويواصل الخلف العمل على نهج السلف.