وفقا للتفسير الاقتصادي؛ فإن دلالة هذه العملية – التنمية – تُعنى بالدرجة الأولى بجوانب محددة ومعروفة على نحو تلقائي، أبرزها معالجة اختلالات الدخل الفردي وتعزيز مظاهر النمو الاقتصادي وفق معادلات ومؤشرات محددة ترتبط أساسا بالناتج القومي. هذه هي الخطوط العريضة لفكرة التنمية ومقاصدها الختامية.
غير أن لعالم الاقتصاد الهندي إمارتيا كومار سن، الحائز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية – عام 1998- وجهة نظر مغايرة، ومسارًا نظريًا يختلف في معالجة هذه العملية الاقتصادية، عبر إسباغه على التنمية بُعدًا إنسانيا واجتماعيا أكثر عمقًا، مقارنة بالمفاهيم المجردة التي بقيت سائدة حتى أواسط تسعينيات القرن الماضي، عندما أخذ يُلقي محاضرات متخصصة في هذا الحقل بالمحافل الدولية باعتباره زميلا رئاسيا للبنك الدولي، وتمكن بالفعل من إعادة صياغة محتوى هذه المحاضرات ليصدرها في كتاب تحت عنوان ” التنمية حرية… مؤسسات حرة وإنسان متحرر من الجهل والمرض والفقر”، الذي تولى المجلس الوطني للثقافة في الكويت ترجمته وإصداره ضمن سلسلة مجلة “عالم المعرفة” في عددها رقم 303 لعام 2004. وتولى عملية الترجمة أ. شوقي جلال. وتقع النسخة المترجمة إلى العربية من الكتاب في 330 صفحة.
كانت الفكرة الرائجة لدى علماء الاقتصاد على مستوى العالم، أن الحريات هي انعكاس وثمرة طبيعية من ثمار التخطيط التنموي السليم، غير أن فكرة إمارتيا ذهبت إلى ما هو أبعد من هذه الأطروحة أو الشعار، وأخذ يجادل من خلال فصول كتابه فكرة أكثر عمقًا من هذه السابقة، مستعرضًا أوجه العلاقة بين التنمية والحرية؛ ففي التصور النمطي كانت هذه الأخيرة واحدة من النتائج المباشرة لعملية التطوير، ووفقا لتجربة إمارتيا ورؤيته الإبداعية، فقد تعامل مع الحرية باعتبارها إحدى وسائل التنمية وأدواتها، وليس باعتبارها نتيجة من نتائجها، لتمضي الفكرة في صعودها تتلمس الروابط الجامعة بين التنمية الاقتصادية بمعناها الحرفي الفني من جهة، وبين الحريات العامة بمختلف صورها ونماذجها من جهة ثانية، باعتبار أن كل عنصر يعمل على تقوية وتعزيز العنصر المقابل.
ابتداء يعرف الكاتب التنمية في مقدمة الكتاب باعتبارها:” عملية توسع في الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس”. ومن خلال سعة رؤيته، أخذ سن يفصل في دلالة ومعنى عبارته أو تعريفه الضيق، وأخذ يتلمس أوجه التشابك والعلاقة العضوية بين التنمية والحرية. فالعنصر الأول لا يمكن أن يبلغ مرحلة الاكتمال إلا إذا عمل على إزالة كافة المظاهر السالبة لمعنى الحرية، وأهم هذه المظاهر السالبة: الفقر، والاستبداد السياسي، وشح الفرص الاقتصادية والوظيفية، وإهمال المرافق الخدمية، ومصادرة حرية التعبير والسيطرة على الفعاليات السياسية. معتبرًا أن الإنجاز الإيجابي للناس العاديين مرتهن بالفرص الاقتصادية والحريات السياسية، إضافة إلى وجود قوى اجتماعية داعمة، وبالضرورة توفر نظام تعليمي وصحي جيد، كل هذه المظاهر من شأنها إن توفرت في أي كيان سياسي، أن تعمل على تعزيز الثقة والإيجابية وثقافة المبادرة لدى المجتمع.
استهل الفصل الأول من الكتاب، وعنوانه ” منظور الحرية” مستشهدا بنص سنسكريتي – هندي قديم – وهو عبارة عن محادثة بين رجل وزوجته حول الثروة وإشباع الرغبات، لتصل المحادثة إلى سؤال الزوجة: في حال امتلاك امرؤ ثروات الأرض كلها، فهل يستطيع الحصول على الخلود ؟ وكانت إجابة الزوج بالنفي، وأن حياة الأثرياء في النهاية مصيرها مصير الفقراء، ليأتي تعليق الزوجة على هذا النحو:” إذن لا أمل في الخلود بفضل الثراء… إذن ماذا عليّ أن أفعل بهذا الذي لا يمنحني الخلود”. والمعنى الذي قصده سن من الاستشهاد بهذا النص الالتفات إلى حقيقة جوهرية، مؤداها العام أن الحياة الطيبة الجيدة بدلا من البؤس والفقر هي معيار خيرية الحياة الحقيقي وأفضليتها. ووفقا للمفهوم العصري لهذا النص؛ فإن قراءته تغدو على هذا النحو: لا يمكن أن نعالج النمو الاقتصادي معالجة معقولة باعتباره غاية في ذاته وإنما يلزم أن تكون التنمية معنية أكثر بتعزيز الحياة التي نبنيها ودعم الحرية التي نستمتع بها .
وتأكيدا لهذا الاستخلاص الفلسفي وحضوره في الواقع العالمي اليوم، يسرد الكاتب عددا من الشواهد والأمثلة، من بينها مقارنته متوسط دخل المواطن الأمريكي من أصل إفريقي بمواطن أمريكي أبيض، وفي الغالب فإن دخل المواطن من أصول إفريقية أقل من دخل المواطن الأبيض. في المقابل فإن دخل هذا المواطن الأمريكي ذا الأصل الإفريقي يفوق دخل مواطن في الهند أو في الصين على سبيل المثال، ومع ذلك فإن متوسط أعمار الأمريكان الأفارقة قليل بالمقارنة مع سكان هذه الدول، ومن هنا يطرح المؤلف صيغة بديلة لمفهوم التنمية ترتكز بالأساس على القدرة والفعالية ونوعية الحياة.
في الفصل الثاني ” التنمية: الوسائل والغايات” يناقش سن الصيغة الشائعة في عالم الاقتصاد السياسي، والتساؤل المعتاد في هذا الحقل فيما إذا كانت المشاركة السياسية تؤدي أو لا تؤدي إلى التنمية؟ معتبرا أن السؤال بهذه الصيغة قاصر وينقصه الفهم الحقيقي باعتبار أن المشاركة السياسية وكذا المعارضة السياسية جزآن أصيلان من العملية التنموية. أما الوسائل العملية لهذا النمط المتقدم فيرى أنه بالإمكان تحقيقها عبر الأنماط الآتية: الحرية السياسية، والتسهيلات الاقتصادية، والفرص الاجتماعية، والشفافية، والأمن الوقائي ممثلا بإعانات البطالة، والمساعدات الإغاثية في حالات الطوارئ، وتأمين دخل للمعدمين. وأسهب في الحديث عن التجربتين الهندية والصينية في هذا المجال، وأوجه نجاحهما وإخفاقهما في هذا المجال.
وبعد استعراضه لنظريات العدالة الاقتصادية التي أبرزها نظرية المنفعة بصيغتها التقليدية، باعتبار أن منفعة شخص مرتبطة بتقديره لذاته وسعادته، والنزعة التحريرية باعتبار أن حقوق الملكية سابقة عن سياسات الأهداف الاجتماعية. يعتمد سن في الفصل الثالث من الكتاب منطقا بديلا لكلا الفلسفتين يقوم على مبدأ “القدرة” يمكن للفرد من خلالها إنجاز حياة واقعية إما من خلال ما يستطيع هذا المرء أداءه بالفعل أو من خلال فرص متاحة تتوافق مع قدرات متوفرة دونما تحديدات سابقة.
وفي معرض تناوله لآثار البطالة كظاهرة عالمية، يناقش المؤلف في الفصل الرابع فكرة أن للبطالة نتائج بعيدة المدى، فبالإضافة إلى فقدان الدخل هناك الأضرار النفسية للذين يعانون من هذه المشكلة، واستشهد مطولا بإحصائيات وبيانات عالمية تظهر الأثر النفسي على البطالة إضافة إلى أثرها في ارتفاع معدل الوفيات وانتشار الأمية والانحياز الجنوسي. وأبرز فكرة طرحها المؤلف في هذا الفصل تأكيده على ضرورة أن نفهم ظاهرة الفقر باعتبارها مفهوما شاملا، ليميز بين فقر الدخل وفقر القدرة.
في الفصل الخامس يناقش الكتاب معادلة الضرورات الاقتصادية والحريات السياسية، ويستشهد في بداية الفصل بقصة مؤلمة؛ حيث نجد سكان غرب البنغال في الهند وقد اضطروا إلى دخول غابات الإقليم والتوغل فيها لجمع العسل، وأثناء الرحلة ذهابا أو إيابا يتعرض جامعو العسل لخطر الفتك من جهة النمور المفترسة، المحمية أصلا بقوانين تحظر صيدها، في حين لا توجد قوانين تحمي الناس البؤساء الذين يعرضوا حياتهم للخطر في سبيل تأمين قوتهم.
هذه الظاهرة استدعت طرح التساؤل الآتي: أيهما أجدى، القضاء على الفقر والبؤس أم كفالة الحقوق المدنية والحقوق السياسية؟ وهنا يعود المؤلف لفكرته المركزية، وهي أن الطرح على هذا النحو يجانب الصواب، وأن هناك ترابطًا وتداخلا بين العنصرين، ويؤكد في هذا السياق على ضرورة إعادة النظر في أثر الديمقراطية على حياة الناس وقدراتهم، ويستشهد بتجربة رئيسة وزراء الهند، أنديرا غاندي، التي حاولت ترويج حجج تبرر حالة الطوارئ التي تنوي فرضها، وأجرت استفتاء بهذا الشأن لتظهر النتيجة رفضًا حاسمًا لفكرة قمع الحقوق السياسية رغم أن المواطن الهندي فقير. وكأن لسان حال استخلاص هذا الفصل ومدى مطابقته لواقع التنمية العربية يقول: إن حالة من الوعي أوصلت المواطن الهندي العادي مرحلة بات خلالها يرفض المساومة على حريته وتحترم حكومته رغبته، في حين ما زالت الطروحات الرائجة في منطقتنا العربية تحديدا، تروّج لفكرة أن الفقراء لا يكترثون للديمقراطية ولا للحقوق السياسية، وأن غاية طموحهم هو رغيف الخبز، ومن ثمّ تغدو الحريات السياسية والديمقراطية الحقيقية استحقاقًا مؤجلًا إلى ما شاء الله.
في الفصل السادس الذي خصصه المؤلف لمناقشة “فعالية المرأة والتغيّر الاجتماعي” انتقد الدعوات التي تركز على رفاه المرأة وتغفل بالمقابل عن ذكر فعاليتها ودورها في التنمية. وركز الفصل على مسألة عمل المرأة خارج البيت وأثره على دعم الوضع الاجتماعي داخل البيت وفي المجتمع. كما عظم الكتاب من مسألة ممارسة المرأة لحقوقها في الملكية الخاصة، إضافة إلى تمكينها في اتخاذ القرار داخل الأسرة.
الفصل الأخير من الكتاب تناول المؤلف فيه موضوع حقوق الإنسان وتأثيرات هذا الموضوع في الأدبيات التنموية، وذلك من خلال السؤال الآتي: كيف يمكن أن يكون لحقوق الإنسان أي مكانة إلا من خلال الاستحقاقات التي تجيزها الدولة باعتبارها السلطة الشرعية الأخيرة ؟ وعليه فإن الحقوق يتعين اكتسابها عن طريق التشريع. ويستشهد الكاتب هنا بواقع التجربة في قارة آسيا، حيث يعيش قرابة 60% من سكان العالم، ضمن تنوع هائل لا يمكن من خلاله تطبيق أو تعميم قيم جوهرية على الجميع، وعليه سادت في هذا الجزء من العالم القيم الآسيوية التسلطية، حيث الولاء الأعمى للدولة. غير أن هذه القارة شهدت ممارسات عديدة تدل على التسامح، من بينها تجربة الإمبراطور المغولي أكبر (وهنا يقصد المؤلف السلطان جلال الدين محمد أكبر أحد سلاطين المغول الذين حكموا الهند بين عامي 1556-1605)، الذي أصدر عدة قوانين جرى التركيز فيها على التسامح الديني، وعدم السماح لأيٍّ كان التدخل في تفسير الدين، وأن من حق أي إنسان اعتناق الدين الذي يشاء.
يُعدّ هذا الكتاب بمثابة رؤية إبداعية بصورة ناقدة لعالمنا الثالث على وجه الخصوص وتجربة هذا العالم في مجال التنمية الاقتصادية؛ إذ يرتبط هذا المفهوم وحصره إلى حد كبير بدلالاته ذات الصلة بالدخل وإجمالي الناتج القومي دونما سعي لتلمس العلاقة بين هذا المفهوم ومفاهيم أخرى وثيقة الصلة بجوانب نوعية في الحياة، ودونما مسعى جاد وعلمي لعقد صلة وارتباط وثيقين بهذا المفهوم الاقتصادي مع معاني الحرية وقدرات الإنسان الحر في صنع الحياة.