لكل دين من الأديان، أو فلسفة من الفلسفات، “نموذج معرفي” يلخص المعالم الكبرى والمواقف الأساسية من الألوهية والكون والحياة، وما يندرج تحت ذلك من تفريعات وتفصيلات.. وهذا “النموذج المعرفي” يرتكز على مفهوم أساس هو اللُّب والجوهر. فما هو هذا المفهوم الأساس التي يتشكل منه الإسلام ونموذجه المعرفي؟ وهل يمكن إيجازه في كلمة أو كلمات معدودات؟

للإجابة على ذلك عندنا تجربتان فكريتان؛ الأولى سجَّلها عالم مصري عام 1933م، لم يكن متخصصًا في الأديان، وإنما كان رائدًا في علم الجغرافيا.. واهتدى لهذه الفكرة المهمة عن “روح الإسلام” بما استقر في وعيه ووجدانه من حقائق الإسلام التي يفهمها المسلم من غير تكلُّف.. وهو د. محمد عو ض محمد(1).

والتجربة الثانية سجَّلها صاحبها في كتاب مهم باللغة الإنجليزية (1982م) ثم تُرجم مؤخرًا بعد صدوره بنحو ثلث القرن (2014م).. وفيه عَرَض تفصيلاً وتأصيلاً لحقيقة أن التوحيد جوهر الإسلام.. إنه المفكر الفلسطيني د. إسماعيل الفاروقي (2). واللافت أنّ بين هاتين التجربتين في التعرف على روح الإسلام وجوهره، نصف قرن!

روح الإسلام

كان د. محمد عوض طالبًا في جامعة ليفربول ببريطانيا، وحدث أن سألته زميلة له عن كلمة واحدة أو كلمات قلائل توضح لها: ما روح الإسلام؟ فأدهشه السؤال لأول وهلة، ونظر إلى السائلة نظرة الحائر المستفسِر، وأدرك أن في السؤال شيئًا من الغموض. فقالت له زميلته: “إننا، مثلاً، نرى أن روح المسيحية يتمثل في لفظ واحد وهو الحب. فهذا هو لب لباب ديننا، والأساس الذي شُيدت عليه صروح المسيحية كلها؛ فما من عقيدة ولا شعائر ولا تعاليم إلا والحب محورها الذي تدور حوله. ولا تكترث لما قد تراه مخالفًا لذلك؛ فما هو من المسيحية في شيء”(3).

فقال لها: إنكِ إذن تريدين مني كلمة واحدة أو كلمات قلائل، تكون من الإسلام بمثابة كلمة الحب من المسيحية؟ فقالت: أجل؛ فقد يكون روح الإسلام مثلاً العدل أو القوة.

فأطرق د. عوض قليلاً، وأخذ يمعن في التفكير، لعله يهتدي إلى جواب ترضاه هي ويرضاه هو. وخطر له أن يشرح لها أن للإسلام أركانًا خمسة.. لكنه تذكر أن في المسيحية أيضًا صلاة وصيامًا. وخشي أن تقول له: إن هذا من الدين بمثابة الجسم، وإنها تبحث عن الروح!

فقال لها في صراحة: إنني ما خطر لي يومًا أن أبحث عن كلمة واحدة تؤدي كل ذلك المعنى الجليل الخطير. وأنتم معشر الإنجليز قوم تحبون تبسيط كل مسألة. ومع هذا، أمهليني أتدبر الأمر، أو أسأل أهل الذكر. فلا خير في جواب عاجل لا ينطوي على الصواب.

ثم عاد د. عوض إلى بيته وأخذ يُجيل التفكير في هذا السؤال الذي عَرَض له على غير استعداد.. مدركًا أهمية أن يعود للسائلة بجواب يشفي الغلة ويريح الفكر، من غير تقوُّلٍ على الإسلام بما ليس فيه.. ولا تحريفٍ لمعانيه!

ويصور لنا د. عوض هذه الحيرة، وطريقة اهتدائه للجواب، فيقول: لم أكن، عَلِمَ اللهُ، من الملمين بعلم الدين. وكنت أحس من نفسي عجزًا وقصورًا، عن معالجة تلك المسألة، ولكني رغم هذا رأيت أن أحاول معالجتها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. وجعلت أجهد فكري أيّما إجهاد. وخُيل لي أني أرى أمامي سُبلاً كثيرة فجعلت أسلك كلاًّ منها، ولا أزال أتبعه إلى نهايته، ثم أعود فأسلك طريقًا آخر فأجتازه إلى غايته: وكانت كل خطوة تدفعني إلى خطوة أخرى حتى أبلغ نهاية المرحلة.

ويتابع: وهكذا سلكت في تفكيري وبحثي طُرقًا شتى. وعجبتُ إذ ألفيتُني أصل في كل مرة إلى غاية واحدة، ويسلمني البحث إلى شيء واحد.. فقد كان ينتهي بي التفكير دائمًا إلى التوحيد.

ثم يبين لنا د. عوض حقيقة هذا التوحيد الذي هو روح الإسلام ومرتكزه الأساس، فيقول: لعل روح الإسلام إذن هو التوحيد.. وهل أراني بلغت الغاية حين رستْ بي سفينة الفكر على ذلك الساحل الأمين؟ أليس التوحيد أن يقصد الناس بجسدهم وبروحهم وجه الإله، ولا ينصرفوا عنه إلى سواه؟ وألا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله؟.. وأن نرتفع بأنفسنا عن عبادة تلك الأوثان البشرية؛ وعبادتها ذل وإثم، وهي تمثال ما بالعالم من شر ورجس؟.. أليس التوحيد هو الذي يرتفع بنا عن عبادة المال والتكالب على جمعه.. وعبادة الشهوات التي تسترقّنا وتذلّنا؟.. أليس التوحيد إذن هو الذي يعلو بأنفسنا عن كل دنيء مهين، ويرقى بنا إلى سماء كلها طهر وصفاء؟ فيمَ التردد إذن؟ إن روح الإسلام هو التوحيد.

جوهر الإسلام

أما د. إسماعيل الفاروقي فقد جلَّى مسألة التوحيد في كتابه وفصَّلها، مبينًا أن الإسلام هو جوهر الحضارة الإسلامية، وأن التوحيد هو روح الإسلام وجوهره.. ومن البدهي بالنسبة للمسلمين أن للثقافة الإسلامية وللحضارة الإسلامية جوهرًا معرفيًّا هو التوحيد.. والمقصود بالتوحيد هو الشهادة بأن الله تعالى هو الواحد الأحد، المطْلَق، الخالق المتعالي، رب كل ما في الوجود ومالكه (4).

ويوضح الفاروقي أن الحضارة الإسلامية تستمد هويتها من التوحيد؛ فهو الوشيجة التي تربط بين مختلف مكوناتها، على نحو يشكِّل منها جسدًا عضويًّا متكاملاً نسميه: الحضارة. ويربط التوحيد بين العناصر المتباينة، ويصبغها بصبغته، ويعيد صياغتها على نحو تتناغم فيه بعضُها مع بعض، ويشد بعضُها أزر بعض.. والدليل على أن هذا التوحيد هو الأمر التكليفي الإلهي الأسمى والأهم، هو الوعد الرباني بمغفرة الذنوب جميعًا عدا الشرك به سبحانه وتعالى، يقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (النساء: 116). ويقول: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج: 31)

ويضيف: ومن الجلي أنه لا قِوام لأي أمر آخر في الإسلام إلا بالتوحيد؛ فبمجرد المساس بالتوحيد ينهار صرح الدين ذاته بكامله، والتزام الإنسان بعبادة ربه، وامتثاله أوامرَه ونواهيه؛ ذلك أن مقتضى المساس بالتوحيد هو الشك في كون الله تعالى هو الواحد الأحد الفرد الصمد وحده لا شريك له. ومفاد المساس بالتوحيدِ الوقوعُ في الظن بمشاركة آخرين لله تعالى في القداسة؛ وهو ما يستلزم بالتبعية الشكَّ في وجوب طاعة أوامر الله تعالى.

ويخلص الفاروقي إلى أنه لا إسلام إلا بالتوحيد، وأن من المؤكد أنه في غَيْبة التوحيد لا تصير السنة النبوية محلاًّ للشك وتهتز صفتها الآمرة فحسب، بل تنهار مؤسسة النبوة من أساسها… ومن هنا، فإن الاعتصام بمبدأ التوحيد هو حجر الأساس لكل ما يتعلق بالتقوى والتدين والفضيلة. ومن الطبيعي في ضوء ذلك أن يسمو التوحيد بالملتزِم به في ميزان الله تعالى ورسوله، إلى أعلى مقام، ويؤهله لأعظم المثوبة. يقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: 82). وروى الترمذي عن أنس بن مالك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يروي عن رب العزة في الحديث القدسي: “يا ابنَ آدمَ، لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خطَايا ثُمَّ لَقِيْتَني لاتُشْرِكْ بِيْ شَيْئًا؛ لأتيْتُكَ بِقِرَابِها مَغْفِرَةً”.

إذن، هاتان إطلالتان مهمتان على حقيقة الإسلام، بما يجعلنا على بصيرة من هذا الدين؛ سواء ونحن نمارسه عبادةً وشعائرَ، ونُقِيمه نظامًا وحضارةً.. أو ونحن ندعو غيرنا إليه.. حتى تتضح لنا المفاهيم، ولا تختلط التصورات بأمور فرعية أو هامشية لا تمثِّل روحَ الإسلام وجوهره!


([1]) عوض: عالم وأديب مصري، ولد عام 1895، أحد رواد علماء الجغرافيا. شغل منصب رئيس المجلس التنفيذي لليونسكو (1960- 1962). وأسس معهد الدرسات السودانية عام 1950. توفي في 10 يناير 1972م.

([2]) الفاروقي: مفكر فلسطيني، ولد عام 1921م. تخصص في الأديان المقارنة. من مؤسسي مشروع “إسلامية المعرفة”، وأول رئيس للمعهد العالمي للفكر الإسلامي. استشهد رفقة زوجته في 27 مايو 1986م، بأمريكا.

([3]) روح الإسلام، د. محمد عوض محمد، بمجلة “الرسالة”، عدد 1 مايو 1933م، ص: 9، 10.

([4]) التوحيد..مضامينه على الفكر والحياة، د. إسماعيل راجي الفاروقي، ترجمة: د. السيد عمر، مدارات للأبحاث، ط5. ص: 63- 66.