إنَّ بناء الدُّول، وتربية الأمم، والنُّهوض بها يخضع لقوانين، وسنن، ونواميس، تتحكَّم في مسيرة الأفراد والشُّعوب، والأمم والدُّول، وعند التأمُّل في سيرة الحبيب المصطفى ﷺ نراه قد تعامل مع السنن، والقوانين بحكمةٍ، وقدرةٍ فائقةٍ.
إنَّ السُّنن الرَّبَّانيَّة، هي أحكام الله تعالى الثَّابتة في الكون على الإنسان في كلِّ زمانٍ، ومكانٍ، وهي كثيرةٌ جدّاً، والَّذي يهمُّنا منها في هذا الكتاب هو ما يتعلَّق بحركة النُّهوض تعلُّقاً وثيقاً.
«ولقد شاء الله ربُّ العالمين أن يجري أمر هذا الدِّين، بل أمر هذا الكون على السُّنن الجارية، لا على السُّنن الخارقة، وذلك حتَّى لا يأتي جيلٌ من أجيال المسلمين، فيتقاعس، ويقول: لقد نُصِر الأوَّلون بالخوارق، ولم تَعُد الخوارق تنزل بعد ختم الرِّسالة، وانقطاع النُّبوَّات».
إنَّ المتدبِّر لآيات القرآن الكريم يجدها حافلةً بالحديث عن سُنن الله تعالى؛ الَّتي لا تتبدَّل، ولا تتغيَّر، ويجد عنايةً ملحوظةً بإبراز تلك السُّنن، وتوجيه النَّظر إليها، واستخراج العبرة منها، والعمل بمقتضياتها لتكوين المجتمع المسلم المستقيم على أمر الله.
والقرآن الكريم حينما يوجِّه أنظار المسلمين إلى سُنن الله تعالى في الأرض، فهو بذلك يردُّهم إلى الأصول الَّتي تجري وفقها، فهم ليسوا بدعاً في الحياة؛ فالنَّواميس الَّتي تحكم الكون، والشعوب، والأمم، والدُّول، والأفراد جاريةٌ لا تتخلَّف، والأمور لا تمضي جزافاً، والحياة لا تجري في الأرض عبثاً؛ وإنَّما تتبع هذه النواميس، فإذا درس المسلمون هذه السُّنن، وأدركوا مغازيها؛ تكشَّفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبيَّنت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنُّوا إلى ثبات النِّظام الَّذي تتبعه الأحداث، أو إلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النِّظام، واستشرفوا خطَّ السَّير على ضوء ما كان في ماضي الطَّريق، ولم يعتمدوا على مجرَّد كونهم مسلمين؛ لينالوا النَّصر، والتَّمكين بدون الأخذ بالأسباب المؤدِّية إليه.
«والسُّنن الَّتي تحكم الحياة واحدةٌ؛ فما وقع منها من زمانٍ مضى سيقع في كلِّ زمان».
وهذه السُّنن هي الَّتي يُجْرِي الله – تعالى – عليها فَلَكَ الحياة، ويُسيِّرُ عليها حركَتَها، فليس هناك شيءٌ واحدٌ في حياة البشر يحدُث اعتباطاً، وإنَّما يجري كلُّ شيءٍ في هذه الحياة حسب سُنن اللهِ تعالى؛ الَّتي لا تتبدَّل، ولا تتخلَّف، ولا تحابي أحداً من الخلق، ولا تستجيب لأهواء البشر.
والمسلمون أولى أن يدركوا سنن ربِّهم المبرزة لهم في كتاب الله، وفي سنة رسول ﷺ ، حتَّى يصلوا إلى ما يرجون من عزَّةٍ وتمكينٍ؛ «فإنَّ التَّمكين لا يأتي عفواً، ولا ينزل اعتباطاً، ولا يخبط خَبْطَ عشواء، بل إنَّ له قوانينه الَّتي سجَّلها الله تعالى في كتابه الكريم؛ ليعرفها عباده المؤمنون، ويتعاملوا معها على بصيرة».
إنَّ أوَّل شروط التعامل المنهجيِّ السليم مع السُّنن الإلهيَّة، والقوانين الكونيَّة في الأفراد، والمجتمعات، والأمم، هو أن نفهم، بل نفقه فقهاً شاملاً رشيداً هذه السُّنن، وكيف تعمل ضمن النَّاموس الإلهيِّ، أو ما نعبر عنه بـ «فقه السُّنن»، ونستنبط منها على ضوء فقهنا لها القوانين الاجتماعيَّة، والمعادلات الحضاريَّة.
إنَّ حركة الإسلام الأولى؛ الَّتي قادها النَّبيُّ ﷺ في تنظيم جهود الدَّعوة، وإقامة الدَّولة، وصناعة الإنسان النموذجيِّ الرَّبانيِّ الحضاريِّ خضعت لسنن، وقوانين قد ذكر بعضها بنوعٍ من الإيجاز؛ كأهمِّيَّة القيادة في صناعة الحضارات، وأهمِّيَّة الجماعة المؤمنة المنظَّمة في مقاومة الباطل، وأهمِّية المنهج الَّذي تستمدُّ منه العقائد، والأخلاق، والعبادات، والقيم، والتَّصوُّرات. ومن سنن الله الواضحة فيما ذكر سنَّة التَّدرُّج، وهي من سنن الله تعالى في خلقه، وكونه، وهي من السُّنن المهمَّة الَّتي يجب على الأمَّة أن تراعيها، وهي تعمل للنُّهوض، والتَّمكين لدين الله عزَّ وجلَّ.
ومنطلق هذه السُّنَّة: أنَّ الطَّريق طويلٌ – لا سيَّما في هذا العصر الَّذي سيطرت فيه الجاهليَّة، وأخذت أُهْبَتَها، واستعدادها – كما أنَّ الشرَّ، والفساد قد تَجَذَّر في الشُّعوب، واستئصاله يحتاج إلى تدرُّج.
بدأت الدَّعوة الإسلاميَّة الأولى متدرجةً، تسير بالنَّاس سيراً دقيقاً، حيث بدأت بمرحلة الاصطفاء، والتَّأسيس، ثمَّ مرحلة المواجهة والمقاومة، ثمَّ مرحلة النَّصر والتَّمكين، وما كان يمكن أن تبدأ هذه جميعها في وقتٍ واحدٍ، وإلا كانت المشقَّة، والعجز، وما كان يمكن كذلك أن تقدم واحدةٌ منها على الأخرى، وإلا كان الخلل، والإرباك.
إنَّ اعتبار هذه السُّنَّة في غاية الأهمِّيَّة؛ «ذلك أنَّ بعض العاملين في حقل الدَّعوة الإسلاميَّة يحسبون أنَّ التَّمكين يمكن أن يتحقَّق بين عشيةٍ وضحاها، ويريدون أن يغيِّروا الواقع الَّذي تحياه الأمَّة الإسلاميَّة في طرفة عينٍ، دون النَّظر في العواقب، ودون فهمٍ للظُّروف، والملابسات المحيطة بهذا الواقع، ودون إعدادٍ جيِّدٍ للمقدِّمات، أو للأساليب، والوسائل»، وقد وجَّه الله تعالى أنظارنا إلى هذه السُّنَّة في أكثر من موقع، فالله – تعالى – خلق السَّموات والأرض في ستَّة أيام، يعلمها سبحانه، ويعلم مقدارها، وكان – جلَّ شأنُه – قادراً على خلقها في أقلَّ مِنْ لمح البصر، وكذلك بالنسبة لأطوار خلق الإنسان، والحيوان، والنَّبات، كلُّها تتدرَّج في مراحل حتَّى تبلغ نماءها، وكمالها، ونضجها، وَفْقَ سنَّة الله – تعالى – الحكيمة.
وسنَّة التَّدرُّج مقررةٌ في التَّشريع الإسلاميِّ بصورةٍ واضحةٍ ملموسةٍ، وهذا من تيسير الإسلام على البشر؛ حيث إنَّه راعى معهم سنَّة التَّدرُّج فيما شرعه لهم إيجاباً، وتحريماً، فنجده حين فرض الفرائض؛ كالصَّلاة، والصِّيام، والزَّكاة فرضها على مراحل، ودرجاتٍ؛ حتَّى انتهت إلى الصُّورة الأخيرة الَّتي استقرَّت عليها.
«ولعلَّ رعاية الإسلام للتدرُّج هي الَّتي جعلته لا يُقدم على إلغاء نظام الرِّقِّ الذي كان نظاماً سائداً في العالم كلِّه عند ظهور الإسلام، وكانت محاولة إلغائه تؤدِّي إلى زلزلةٍ في الحياة الاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، فكانت الحكمة في تضييق روافده؛ بل ردمها كلِّها ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وتوسيع مصارفه إلى أقصى حدٍّ، فيكون ذلك بمثابة إلغاء الرِّق بطريق التَّدرُّج».
«إننا إذا درسنا القرآن الكريم، والسُّنَّة المطهَّرة، دراسةً عميقةً؛ علمنا كيف؛ وبأيِّ تدرُّج، وانسجامٍ تمَّ التَّغيير الإسلاميُّ في بلاد العرب، ومنها إلى العالم كلِّه على يد النَّبيِّ ﷺ .. فلقد كانت الأمور تسير رويداً رويداً حسب مجراها الطبيعيِّ؛ حتَّى تستقرَّ في مستقرِّها الَّذي أراده الله ربُّ العالمين».
«وهذه السُّنَّة الرَّبَّانيَّة في رعاية التَّدرُّج ينبغي أن تُتَّبع في سياسة النَّاس، وعندما يُراد تطبيق الإسلام في الحياة، واستئناف حياةٍ إسلاميَّةٍ متكاملةٍ؛ يكون التَّمكين ثمرتها، فإذا أردنا أن نقيم مجتمعاً إسلامياً حقيقيّاً؛ فلا نتوهَّم: أنَّ ذلك يمكن أن يتحقَّق بقرارٍ يصدر من رئيسٍ، أو ملكٍ، أو من مجلسٍ قياديٍّ، أو برلمانيٍّ، وإنَّما يتحقَّق ذلك بطريق التَّدرُّج؛ أي: بالإعداد، والتَّهيئة الفكريَّة، والنَّفسيَّة، والاجتماعيَّة.
وذلك هو المنهج الَّذي سلطه النَّبيُّ ﷺ لتغيير الحياة الجاهليَّة إلى الحياة الإسلاميَّة، فقد ظلَّ ثلاثة عشر عاماً في مكَّة، كانت مهمَّته الأساسية فيها تنحصر في تربية الجيل المؤمن، الذي يستطيع أن يحمل عبء الدَّعوة، وتكاليف الجهاد؛ لحمايتها، ونشرها في الآفاق، ولهذا لم تكن المرحلة المكِّيَّة مرحلة تشريعٍ بقدر ما كانت مرحلة تربيةٍ، وتكوينٍ».