قبل التطرق إلى موضوع أن الجندر نقيض الإنسان ، نعلم أن الأسرة هي أول مؤسسة نشأت على الأرض، ورغم فطريتها وقدسيتها وقدم نشأتها وانتشارها العابر للثقافات والجغرافيا والأزمان، إلا أنها تتعرض لتفكيك عميق وواسع، انعكست آثاره في العقود الأخيرة، ففي العام 2018 كشف مكتب الإحصاء الأوروبي أن (155) مليون أسرة من بين (220) مليون أسرة في الاتحاد الأوروبي ليس لديها أطفال، أما الأطفال الذين يولدون خارج إطار الزواج فزدات نسبتهم عن 47% من الأطفال المولودين، وفي فرنسا فإن60% من الولادات تأتي من خارج إطار الزواج.
هذا التآكل السكاني والاجتماعي يقابله تراجع التراحم، وتضخم دور الدولة ومؤسساتها في الجانب الاجتماعي، حتى باتت الحضانة بديلا عن الأم، وحضرت الشرطة في العلاقة الأسرية، وأصبح الهرم السكاني مقلوبا في عدد من الدول الأوروبية، وأخذت أفكار تتسلل إلى العقل الغربي تحارب العلاقات الأسرية وتخلق صراعا بين الرجل والمرأة، ومنها مفهوم “الجندر”([1]) Gender، ليشق وحدة الإنسان إلى نوعين غير متكاملين، في حين أن الرؤية القرآنية تعلن أن الإنسان لفظ يجمع داخله الذكر والأنثى معا، وليس لفظاً يستقل به أحدهما عن الآخر.
وفي هذا الإطار يأتي إصدار العدد السادس عشر من “الاستغراب” صيف 2019 ليطرح ملفا مهما بعنوان “الإنسان نقيض الجندر” يناقش فيه مفهوم الجندر في نشأته التاريخية وتداعياته الفكرية والثقافية والسوسيولوجية، سواءً في المجتمعات الغربية حيث نما وتطوّر، أو في تداعياته على المجتمعات العربية والإسلامية.
غواية المصطلح
هل بات المزاج الغربي أسيرَ غوايةِ الانقلاب على مفاهيمه ومصطلحاته؟ وهل للمصطلحات في التجربة الغربية مدة صلاحية سرعان ما يتحول عنها الفكر الغربي إلى مصطلحات ومفاهيم مغايرة، تكشف عن قلقه الوجودي وليس تطوره المفاهيمي؟ أسئلة تطرح نفسها عن نقاش بعض المفاهيم القلقة في الفكر الغربي، ومن بينها المفهوم النسوي([2])، فالتركيز المكثّف على “الجندر” بدلاً من العناية بقضايا المرأة وحقوقها البديهيّة لم يكن شيئاً محمولاً على البراءة المعرفيّة، كما أن مشكلات المرأة دُفعت نحو مسارٍ لا مستقرّ له؛ رؤيةٌ تبدأ من الفوارق البيولوجيّة والتكوينيّة بين الرجل والمرأة ولا تنتهي بالفوارق الثقافيّة والتاريخيّة، بل تسعى لتتحول إلى أيديولوجيا تلغي أية فوارق بين الجنسين على مستوى الأدوار الاجتماعية المبنية على الاختلاف في الجنس بين الذكر والأنثى.
وقد عبرت النسوية عن أطروحاتها بكلمات مثل الجندر Gender بدلا من رجل وإمراة، وعن الشريك بدلا من الزوج، فهناك فارق بين إنصاف المرأة والدفاع عن حقوقها وبين النزعة الأنثوية Feminism التي تبلورت في الغرب، فأقصى ما طمحت إليه حركات تحرير المرأة، هو: إنصاف المرأة من الغبن والظلم الاجتماعي والتاريخي الذي عانت منه، مع الحفاظ على فطرة التميز بين الرجل والمرأة وتمايز الأدوار الاجتماعية بينهما خاصة في حيز الأسرة والمجتمع على النحو الذي يحقق المساواة بينهما باعتبارهما شقين متكاملين متعاونيين متآلفين لا صراع بينهما ولا حرب.
أما النسوية Feminism فهي حركة متعددة الأفكار والتيارات تسعى للتغيير الاجتماعي والثقافي وتغيير بناء العلاقات بين الجنسين وصولا إلى المساواة المطلقة كهدف استراتيجي، وتتسم أفكارها بالتطرف والشذوذ، وتتبنى العداء والصراع بين الجنسين، وتهدف إلى تقديم قراءات جديدة للدين واللغة والتاريخ والثقافة.
وقد تطورت النسوية من حركة اجتماعية إلى حركة سياسية ثم حركة عقائدية لها رؤاها للوجود وقضاياه، ففي القرن التاسع عشر كانت الحركة النسوية قضاياها مطلبية في المساواة الاجتماعية والقانونية بين المرأة والرجل، لكن سعت النسوية إلى تصوير المرأة كضحية في كل زمان ومكان وثقافة ودين لتبرير عالمية قضايا المرأة، وتصوير المجتمع أنه يمنح الذكور حق الاضطهاد للمرأة، لذا وقعت الحركة النسوية في خطأ النظر إلى موضوع المرأة كشأن أنثوي خاص بها بعيدا عن المجتمع، نظرا لأن إصلاح مشكلات المرأة هو إصلاح لمشكلات المجتمع.
كان الفرنسي “تشارلز فوربي” المتوفى (1772) هو أول من استخدم مصطلح النسوية، ورفض النسويون الاشتراكيون تقسيم العمل على أساس الجنس، بل إن ” فريدريك إنجلز” أحد مؤسسي الشيوعية دعا في كتابه “العائلة” عام 1884 إلى نبذ فكرة العائلة وإلى شيوعية الجنس والأطفال، واستفادت النسوية من الماركسية قدرتها على الجدل، فأخذت تنفذ إلى عقول الكثيرين لتتحول إلى ما يشبه الأيديولوجيا.
وتعد “سيمون دي بوفوار” أشهر دعاة النسوية، ونشرت كتابها عام 1949 بعنوان “الجنس الثاني” حللت فيه العلاقة بين المرأة والرجل على أسس وجودية، وادعت أن الإنسان حر في أن يختار جنسه بإرادته، لكن النسويين المتأخرين انتقدوا “دو بوفوار” لتحقيرها الجسد الأنثوي، ومحاولاتها “ترجيل المرأة”.
وفي محاولة لفلسفة النسوية تم إنشاء “الرابطة الفلسفية النسائية” عام 1972، وعبرت عن نفسها في مجلة “هيباتنا”، وتم تأليف كتاب “تاريخ النساء” لـ”ماري إلن وايث”، وظهرت دعوات فلسفية في هذا الإطار تدعو إلى تخليص المرأة من سلطة الرجل، وسعت النسوية إلى تأسيس علاقة مع الرجل قائمة على الهوية الذاتية وليس على أساس الفضيلة، أو قاعدة الواجب والتكليف.
وحاربت النسوية أي تصور يميز بين المرأة والرجل في فلسفة الأخلاق، ورأت أن وضع الأمومة في قمة أولويات المرأة يجهض كل محاولات النسوية للهجوم على المجتمع واتهامه بالذكورية، وكان كل توجه يعطي للمرأة خصوصيات تحتلف عن خصوصيات الرجل يتعرض للهجوم من النسويين، ورأى الماركسيون أن النظام الطبقي هو أصل كل المظالم الاجتماعية، وأن النظام العائلي هو انعكاس لهذا النظام الطبقي لذا رأوا وجوب تقويض النظام العائلي، ومن ثم تبنى النسويون الموقف الماركسي من العائلة بحرفيته، فرفضت النسوية فكرة التكامل بين الرجل والمرأة، كما رفضت مفهوم الأسرة والزواج لأنها ترى فيهما رمزا لتسلط الرجل، ورأت أن الفضيلة هي حرية المرأة في التعبير عن رغباتها وإرضاء ميولها، ومن الضروري ملاحظة أن الشذوذ أو “المثلية الجنسية” كانت بمثابة مؤشر بارز على رفض الدور التقليدي لكل من المرأة والرجل، فترى النسوية أنه لا يولد المرء رجلا أو امرأة بل يصبح كذلك، فالبيولوجيا تصنع الذكور والإناث بينما يصنع المجتمع الرجل والمرأة.
الجندرية ضد الإنسانية
مصطلح الجندر تبنته الأمم المتحدة في مؤتمر بكين عام 1995 وروجت له([3])، لدرجة أنه في البيان الختامي ذكرت كلمة الجندر (233) مرة، ورغم ذلك نظر البعض إلى النسوية باعتبارها ثورة على قيود الفضيلة، وأن رؤاها تسببت في التشجيع على المثلية الجنسية، فنتج عن ذلك تفكيك مفهوم الأسرة، فرفض ربط الدور الاجتماعي بالذكورة والأنوثة أدى إلى تدمير كيان الأسرة وإشاعة الشذوذ.
والحقيقة أن أيديولوجية الجندر مدمرة ولا اجتماعية ولا فطرية، وتخلق صراعا عنيفا لا ينتهي في العلاقات الاجتماعية، كما أن المضي مع الجندر حتى نهايته يهدم مؤسسة الأسرة بالكامل، ويزيد من الأولاد غير الشرعيين، ويخلق تشوهات نفسية عميقة من الصعب علاجها، فالأولاد في حاجة إلى بيئة مستقرة وحامية لهم في نشأتهم، والجندر يساهم في الإفقار الاجتماعي، فالمجتمع الذي يمجد الفردانية إنما يسحق الضعفاء والعجزة والفقراء، والمجتمع الذي يمجد خرق القوانين الفطرية إنما يكسر صلات التضامن ويشجع على العنف وعدم التراحم ، فيسقط الجميع في الدناءة الاجتماعية والأخلاقية.
ويلاحظ أن الجندرية حريصةً على النظر للنوع الأنثوي ككينونةٍ منفردةٍ ومستقلّةٍ في عالم الوجود، وهو أمر يهدم الإنسانية لأنه ينظر إلى المرأة كجوهر لا تتحقق جوهريّته إلّا بالانفصال عن منشئه الأصلي الذي هو الإنسان، وهو مسلك يؤذي الإنسانية في وجودها واستمرارها، وتناست الجندرية أن الرجل والمرأة زوجٌ ينتمي طرفاه إلى نفسٍ واحدةٍ، فالجندرية ذات إقصائيّةٌ مستمدّةٌ من “عنصريّةٍ بيولوجيّةٍ” غايتها تقويض المركزيّة الذكوريّة وإنشاء مركزيّةٍ أنثويّةٍ تُعيد صياغة معادلة العلاقة بين الرجل والمرأة على نصاب الندِّية والاختصام، ومن ثم فالجندر هو امتدادٍ لأزمة الإنسان الحديث، وثمرةٍ غير ناضجةٍ لتعثرات مابعد الحداثة بأبعادها الفلسفيّة والمعرفيّة وأنماط سلوكها.
ومن هنا فالجندرية هي مرجعية المرأة قبل الأسرة، والمرأة قبل المجتمع، والمرأة فوق الجميع، في حين أن النظرة الفطرية ترى أن التكامل الإنساني يفترض النظر إلى الرجل والمرأة كزوجٍ وجوديٍّ لا يقبل الانفصال، فالإنسان ليس جوهراً مفرداً، إما أن يكون ذكرًا أو أنثى، وإنّما هو كينونةٌ جوهريّةٌ تستوي فيها الذكورة والأنوثة، وحين يفتقد الإنسان نظيره في التكوين لا يقدر على الاستمرار في الحياة.