أثرُ العاطفة والمحبّة والأخلاق في التربية والتعليم أكبرُ من أثر العقل، إذا أراد أحد الأبوين وهكذا المعلّم التأثيرَ الاستثنائي في أبنائه وتلامذته عليه أن يبدأ بالحديث إلى قلوبهم. داخل كلّ إنسان طفلٌ صغير يتوق بشغف إلى الاعتراف والثناء والحُبّ، ولو كان ذلك مجرد تحية أو كلمة امتنان صادقة من أيّ شخص صادق. عندما تصلني رسائل من أشخاص لا أعرفهم، أحرص دائمًا على الرد عليها، تكريمًا لمبادرة المرسِل وامتنانًا لتواصله وتحيته. أنا أُدرك جيدًا قيمة العطاء المعنوي وتأثيره العميق في بناء العلاقات الإنسانيّة وترسيخها، العطاء يخلق جسورًا من الاحترام والمودة بين القلوب.
أي إنسان مهما كان قويًا، وإن تنكّر لحاجته، لا يستطيع أن يستغني عن الصلة الوجوديَّة بالله ليحتمي من الاغتراب الميتافيزيقي، ومَن يتيه في طريقه إلى الله يتوكأ على مطلقٍ متخيَّل بديلًا عن الله. كذلك لا يستطيع الإنسان الاستغناء عن صلة معنوية تمنح حياته معنىً بالإنسان الآخر. الحُبّ أعذب تعبير عن الصلة المعنوية بالإنسان الآخر، المهم نوع الإنسان الآخر الذي نتواصل معه، أكثر الناس غير قادرين على العطاء العاطفي والإلهام الروحي، لذلك ينبغي أن ينتقي الإنسان أولئك الأخلاقيين القادرين على منح حياته أعذب معانيها. الحُبّ الأخلاقي الأصيل لا ترتقي إليه إلا القلوب السليمة من الأمراض.
تتجلّى قوّةُ الحُبّ في البناء لا في الهدم، وفي قدرتِه الفريدةِ على تنمية العلاقات الإنسانيّة السليمة وترسيخها. الحُبّ يمتلك طاقةً خلّاقةً تُعزّز أسس الحياة الأصيلة، وتكرّسُ استمرارها بنبضٍ متدفِق، ينجذب الإنسان لمَنْ يُسمِعه نداء قلبه. الحُبّ هو الكيمياء المشتركة التي تجعل القلوب تتحقّق بطورٍ وجوديّ أشبه بضوءٍ لا يشوبه ظلام. إنه أساسُ الحياة الأصيلة وجذرها الأعمق. كما تهزم إرادة الحياة والإنجاز والعطاء قلقَ الموت، الحُبّ يهزم قلقَ الموت أيضًا.
يموت كلُّ معنىً جميل في حياة الإنسان لحظة يموت الحُبّ في الأرض. عبر الاستثمار بالحُبّ في التربية والتعليم والثقافة والإعلام وخطب الجمعة والوعظ الديني، وتكريس الحُبّ بوصفه قيمة ملهِمة للعيش المشترك، يتمكن الإنسان من خفض الآثار الفتاكة لغريزة العدوان، وما يتوالد عنها من كراهيات وحروب. قلّما يحضر الحُبّ في سياساتنا وإعلامنا وثقافتنا وكتاباتنا وفنوننا وآدابنا وتديننا ومنابرنا وأحاديثنا ونقاشاتنا، على الرغم من أن الحُبّ أسمى معاني الحياة وأعذب ما تهبه للإنسان.
إنتاج الحُبّ أصعب أنماط إنتاج المعنى العذب في حياة الإنسان، مَن يمنحك الحُبّ يمنحك أجمل شيء لأنّه يمنحك معنى الحياة، من يسلبك الحُبّ يسلبك معنى الحياة. الحُبّ شحيح في مجتمعاتنا، كثير من وسائل الإعلام وتطبيقات وسائل التواصل تثير الضغائن والأحقاد، وتفجّر المكبوتات التاريخيّة، وتنبش ما هو مودع في الذاكرة العتيقة، وتثير ما هو مكبوت في اللاشعور الجمعي من صراعات وحروب الطوائف، وتسمّم الفضاء العام بروائحه المميتة. مَن يتحدّث عن الحُبّ والعيش المشترك والسلام المجتمعي ويكتب في هذه الموضوعات يعيش غريبًا، بل إن بعضهم يرى كتابته وحديثه مستهجنًا.
الاستثمار في الحُبّ يجعل الحياة تتسع لقبول المختلِف والعيش معه بسلام، تعزيز الحُبّ وإثراؤه بالتربية والتعليم والإعلام والثقافة والمنابر والوعظ الديني تعزيزٌ وإثراء للسلام المجتمعي والعالمي. تضيق الحياة كلّما ضاقت مساحة الحُبّ في قلب الإنسان، مثلما تكتئب الحياة كلّما ضاق فضاء الأمل والحلم والمتخيَّل في ذهن الإنسان.
الحنان هو المرآة التي تعكس شعورَ الإنسان العميق باحتياجات الآخرين العاطفيّة، وهو تعبير نبيل عن تحسّس آلامهم ومعاناتهم. الحنان يمثل أسمى تجليات سخاء الروح وإنفاقها للمعنى، هذا النوع من الإنفاق يحتاجه كلُّ إنسان، وهو أثمن بكثير من إنفاق المال، لأنه يؤسّس البنية الضروريّة للمودة والتعاطف والتراحم في حياة أي مجتمع. إنفاق المعنى يفيض بأصدق أنماط السخاء الأخلاقي الذي يحتاجه كلُّ إنسان، خاصةً في لحظات المرضِ والحرمان والأسى. أسخى الأرواح وأكرمها هي الأرواح التي تحتفل بنجاحات الآخرين، تفرح لفرحهم، وتحزن لحزنهم. القلب الذي يبتهج بسعادة الإنسان، وإن كان بعيدًا عنه، هو قلب يعيش بالحُبّ وللحُبّ، هذا القلب يحتفل دائمًا لحظة يسكب حُبّه بأوعية الكلمات الصادقة ويسر بها أيّ إنسان.
بعض الناس لا يكترث بفاجعة الآخرين، فلو حدثت كارثة طبيعيّة ونكبة لمجتمع آخر يبتهج، وربما يشعر بأنّه ومجتمعه لا يتقدّم إلا بانحطاط المجتمعات المتقدّمة في العالم. وكأنه لا يعلم أن تقدّم أي مجتمع يتوقف على بناء قدراته باستثمار مكامن القوة لديه على وفق المناهج العلمية للتنمية الحديثة، فضلا عن أن حاضر الإنسانية ومصيرها مشترَك، ما يعني أن نكبة أيّ مجتمع هي نكبة للإنسانية بأسرها، وأن تطور أيّ مجتمع هو تطور تنعكس مكاسبه على الإنسانية بأسرها.
يتقدم المجتمع إن كان يفكّر تفكيرًا علميًا يواكب ما تنجزه العلوم والمعارف والتكنولوجيات المتقدمة في بناء وتعزيز مختلف مؤسساته وبناء دولته الحديثة، ويوظِّف مكاسب الحقوق والحريات في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، بوصفها رأسمالًا كونيًا مشتركًا لا يختصّ بمن أنجزه، بل يمكن أن تستثمره أيّة دولة تتخلص من الاستبداد والحكم الشمولي، وكان إنسانها قادرًا على الانفتاح على المختلِف، وتجاوز العناصر المعطلة في تراثه، والتحرّر من انغلاق هويته وتصلبها وعجزها عن استيعاب الجديد وتوظيفه في البناء والتنمية.
مَن لا يشعر بآلام الإنسانِ، مات في داخله الله والإنسان. شعور الإنسان بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الإنسان الآخر يفرضها الضمير الأخلاقي السليم، يؤنب الإنسانَ الأخلاقي ضميرُه عند ارتكابه خطأ أو تجاوزا أو خطيئة بحقّ أيّ إنسان. حقوق الإنسان وحمايةُ كرامته وحرياته هي حقوقُ الله. الطريق لا يصل إلى الله إلا عبر احترام الإنسان وتكريمه، وحماية حقوقه وحرياته.
يتراءى التقصيرُ بحقّ الله عندما يرتكب الإنسان خطأ أو تجاوزا أو خطيئة تنتهك حقوقَ الإنسان وحرياته. بعض الناسِ يتهرّب من أية مسؤولية أخلاقية تجاه الغير، يترقب تضحيةَ الكلّ من أجله، من دون مكافأة أحدٍ حتى بكلمة شكر. التهرّبُ من المسؤولية ضربٌ من خيانة الضمير الأخلاقي، تحمّلُ المسؤولية ضربٌ من التضحية، كلُّ تضحيةٍ تمنحُ الإنسانَ معنى جديدًا لحياته لا يتذوقه خارجَها. التضحية بكلِّ مستوياتها وأنواعها وتعبيراتها تُسعِد مَنْ يضحّي، سواء أكانت التضحيةُ بإنفاق المال أو الجهدِ أو الراحة أو الوقت، أو الشفقة على أنين الضحايا والبؤساء والصبرِ الطويل على إغاثتهم ماديًا وعاطفيًا، أو غير ذلك من المبادرات الإنسانية لإسعاد الغير.
تحمّلُ المسؤولية ينتقل بالإنسانِ إلى طورٍ أخلاقي أنبل، لأنه يتقاسمُ حياتَه مع إنسان آخر، ويسهم بجعل العالَم الذي يلتقي فيه الجميع أجمل. تحمّلُ المسؤولية تجاه العائلة والمجتمع والوطن والطبيعة وغيرها من أسمى ما تتجلى فيه إنسانيةُ الإنسان. ما يواجه الإنسانَ الأخلاقي من متاعبَ وآلام من أجل إسعاد الغير لا يرهقُه بل يشعرُه بالرضا والغبطة.
قدرات الإنسان أضعف من تحمل آلام الحياة الموجعة ومراراتها. التضامن الروحي والأخلاقي في العائلة والمجتمع يعزّز قدرات الفرد والمجتمع على تحمل الآلام، ويثري الأمن العائلي والمجتمعي، بما يمكّنهم من عبور تلك الآلام والمرارات بلا جروح أبدية نازفة، لكن مثل هذا التضامن أضحى قليلاً في مجتمعنا. أتذوق روحيا وأخلاقيا نكهة التضامن مع كلّ مَن يتألم في هذا العالم.
أن تزور مريضا أو تهاتفه، أو تفرّج عن مكروب، تثري حياتك قبل أن تثري حياته، تمتلك حياتك معنى لم تمتلكه من قبل. لحظة زيارتك يشعر المريض أنه ما زال هناك ما يستحقّ العيش من أجله في هذا العالم، يفيض عليك هذا المريض طاقة إيجابية، تؤثر في الشفاء من آلامك قبل شفائه من آلامه. لكلمة المحبّة الرحيمة الدافئة مفعول سحري يداوي جروح الروح. الكلمة الآسرة تأسر الروح، الكلمة العنيفة تجرح الروح.