الحج عبادة حنيفية : ثبت في الحديث الصحيح أن “الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة”، والمبرور هنا الجميل والمقبول، وهو الحج الذي لا يخالطه إثم ولا رياء[1]، وهو الحج الذي يرجع إثره المسلمُ وهو مغفور الذنب، كيوم ولدته أمه، لا ذنب عليه من سوابقه، وموعود بالقبول والجنة من ربه.
و للحديث عن الحج عبادة حنيفية، لنا أن نتساءل أي حج يحقق هذا الثواب المذكور؟ جواب هذا السؤال له شقان، أحدهما يرجع إلى الأعمال الظاهرة، ومنه إتمام أركان الحج وشروطه وواجباته، واجتناب محظوراته، ومرد ذلك إلى كتب الفقه. والشق الثاني يرجع إلى الأعمال الباطنة وهي التفطن إلى دقائق معاني الحج، وأسرار أعماله، فيعين قاصد بيت الله للحج أو العمرة على فهم هذا الركن، ويصفو قلبه حين يقوم بهذه الأعمال المشرفة، ويتحقق له الحال الأكمل في هذه العبادة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)، والحنيف هو المخلص لله في العبادة. فإنه كما لا تقبل صلاة بتمام ركوعها وسجودها إذا فقد خشوعها، وكذا لا يكتمل أجر الحج دون فهم الغاية التي منها فرضه الشارع، وأمر الإيذان به، فقال تعالى (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) /الحج: 27/.
والحج عبادة حنيفية كما قال ابن القيم هو “خاصة الحنيفة ومعونة الصلاة وسر قول العبد لا إله إلا الله فإنه مؤسس على التوحيد المحض والمحبة الخالصة وهو استزارة المحبوب لأحبابه ودعوتهم إلى بيته ومحل كرامته ولهذا إذا دخلوا في هذه العبادة فشعارهم لبيك اللهم لبيك إجابة محب لدعوة حبيبه ولهذا كان للتلبية موقع عند الله وكلما أكثر العبد منها كان أحب إلى ربه وأحظى فهو لا يملك نفسه أن يقول لبيك لبيك حتى ينقطع نفسه”[2].
الأعمال الباطنة هي التفطن إلى دقائق معاني الحج، وأسرار أعماله، فيعين قاصد بيت الله للحج أو العمرة على فهم هذا الركن
ونتناول في هذا المقال عن الحج عبادة حنيفية أسرار الحج ومقاصده حتى نفهم السبب الذي من أجله تتشوق أنفاس الربانيين إلى بيت الله الحرام، وتصيخ أسماعهم إلى ذكراه. وسأهتم في هذا المقال بهذا الشق الثاني.
الحج شعيرة معقولة المعنى
لا شك أن أحكام الشريعة في المجمل معللة، وتحفها الحكم والمقاصد، وهذه المقاصد معقولة المعاني يمكن للإنسان إدراكها وتصورها، ولا يتصور أن يقع أمر في الشرع عفويا اعتباطيا دون قصد، يقول ابن القيم: ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة يَعْقلُ معناه مَنْ عَقَله ويخفى على مَنْ خفي عليه[3]. وإنما يتصور ما يخفى معانيه من المأمورات في الشرع من جانب التفصيل، وهذا لا ينقدح في أصل كون الأحكام الشرعية معللة. وكان المطلوب على المكلف بحث هذه التفاصيل الجزئية الخفية المعاني والمقاصد[4]. ومن هنا يجب أن نقرر قواعد إدراك مقاصد الأحكام الشرعية:
– الأحكام الشرعية من حيث العموم معللة بالمصلحة والمنفعة
– وكذا أصول الأحكام الشرعية جميعا معللة وواضحة المعاني والحكم والفوائد
– أما الأحكام التفصيلية فقد تخفى منافعها الدنيوية الظاهرة، ولكن خفاءها لا يلزم منه انتفاؤها في نفسها. وإنما يحتاج في هذه الحالة إلى الاستنباط والنظر.
وتنطبق هذه القواعد على الحج وهو الركن الأخير من أركان الإسلام، فإن الغاية منه في أصله التعبد والتقرب إلى الله بما يرضاه من العمل، وهذا المعنى واضح في ذاته، وأما تفاصيل أعمال الحج من الطواف، ورمي الجمرات، والوقوف بعرفة، والبيات بمنى والمزدلفة، وحلق أو تقصير وغير ذلك، فإن الوصول إلى أسرارها والحكم التي تعلقت بها قد تخفى بعض الشيء، ونحتاج حينذاك إلى النظر والاستدلال. لكن ما كان شأن الوصول إلى معانيه النظر والاستنباط فإنه يدخل في باب الظنيات، ولا يعارض هذا الحِكم الأصلية إذا ثبتت بدليل من الكتاب أو السنة، فإن أصول الحج مثلا، مقاصدها قطعية، ولكننا في إثبات مقاصد جزئيات أعمال الحج لا يمكن الجزم بها أنها مراد الشارع فكانت مستنبطة ظنية[5]. وهذا ما حققه الشاطبي في الموافقات حين فرق بين العلوم القطعية والظنية، وذكر ضمن الظنيات:
“الحكم المستخرجة لما لا يعقل معناه على الخصوص في التعبدات، كاختصاص الوضوء بالأعضاء المخصوصة والصلاة بتلك الهيئة من رفع اليدين والقيام .. واختصاص الصيام بالنهار دون الليل.. واختصاص الحج بالأعمال المعلومة، وفي الأماكن المعروفة، وإلى مسجد مخصوص، إلى أشباه ذلك مما لا تهتدي العقول إليه بوجه ولا تطور نحوه فيأتي بعض الناس فيطرق إليه حكما يزعم أنها مقصود الشارع من تلك الأوضاع، وجميعها مبني على ظن وتخمين غير مطرد في بابهولا مبني عليه عمل “[6]
يفيدنا هذا النقل أن هذه الأمثلة التي ذكرها الشاطبي تصنف ضمن أعمال العبادات غير معقولة المعاني، ويمكن تتبع هذا في أعمال الحج، فإن مقاصدها المستنبطة لا يمكن الجزم بها، لانتفاء خاصية الثبوت والاطراد ، كما لا يمكن البناء عليها، لأنها في الغالب تعتمد على السماع والنقل، فكانت من باب الظنيات، وهذا لا يمنع البحث عن بعض مقاصده.
مقاصد الحج
يظهر من لال القول أن الحج عبادة حنيفية ومن خلال آيات الحج أن بعض مقاصده منصوصة، واضحة، وتوجد له مقاصد أخرى مستنبطة باجتهاد العلماء، أذكر كل هذه المقاصد تباعا بدءا بما دلت عليه النصوص من هذه المقاصد، ثم المعاني المستنبطة.
الهياكل المحسوسة تقوي الإدراك العقلي لمعاني التوحيد
المقصد الأول – تحقيق العبودية والانقياد لله، وهو معنى ظاهر في جميع أعمال العبادة، من صلاة وصيام وحج وغيرها، بل هذا هو المقصد الأصلي الذي من أجله وجد الخلق في أرجاء المعمورة، ولم تنزل الكتب ولا أرسلت الرسل إلا لتعميق هذه الحقيقة، وإقامة حجة الله على الخلق، وهذا واضح صريح في آية الذاريات (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) /الذاريات: 56/[7]. وأنكر الله على جهة التوبيخ فعل الكفرة الذين يفردون العبادة لغيره، لأنهم حادوا عن هذا المقصد الأصلي، يقول الله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)/الحج: 71/، والسلطان حيث وقع في القرآن فالمقصود منه الحجة[8]. لذلك يجب أن يعنى بهذا المقصد ويتقدم على مقاصد أخرى تبعية[9].
المقصد الثاني – ترسيخ معاني التوحيد بطريق المحسوسات، أبرز ابن عاشور[10] حكمة أخرى إلى جانب تحقيق العبودية، وهي أن العبد حين يرى بنيان الكعبة ماثل أمامه، يطوف حوله، ويصلي إلى جهته، ويتوجه إليه الناس من كل غاد ورائح، فإن ذلك يقوي في نفسه معنى التوحيد، ويؤيد ما امتن الله عليه من معرفة الله بالمحسوسات، وذلك بمشاهدته لمعالم التوحيد: الكعبة وهي أول بيت وضع للناس، ومقام إبراهيم – كون الإسلام عين ملة إبراهيم -، ومعجزة ماء زمزم وغير ذلك، فإن هذه الهياكل المحسوسة تقوي الإدراك العقلي لمعاني التوحيد.
المقصد الثالث – تحقيق مصالح دنيوية ودينية مختلفة، جاء هذا المعنى بشكل مجمل في قوله: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) /الحج: 28/، وهذه المصالح المجملة في هذه الآية من حكم الحج المنصوص عليها، وكنى عن المصالح التي يحوزها الإنسان في حجه بشهود المنافع للدلالة على نيلها، وإن لم يأت تعيين هذه المنافع بالذكر إلا أننا نتلمسها في أمور منها:
– اجتماع أهل التوحيد في صعيد واحد ليتلقى بعضهم عن بعض ما به كمال إيمانه.
– حصول الثواب والأجر لكل حاج بيت الله الحرام
– الإكثار من ذكر الله، وقد خص بالذكر من بين المنافع الحاصلة في أيام الحج لكثرته والتنويه إلى أهميته، ويندب هذا الذكر من الحاج وغيره بدليل قوله ﷺ: أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله .
– التعارف والتعاون والتواصل بين أجناس البشر وألوانهم، واستيعاب جميعهم على أسس العقيدة.
– التجارة وتبادل الأعراف والمصانع والسلع.
المقصد الرابع – الانقطاع عن الدنيا للعبادة والتحنث، وهذا معنى جلي في قوله تعالى (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، والتفث كما رجح ابن عاشور بالقرينة هو أعمال الحج، فهو المقصد من حج البيت بعد تحقيق التوحيد، وهو الإتيان بجميع أعمال الحج الواجبة، فكان المشار إليه بـ(التفث)، و(النذور) جمع النذر وهو التزام طاعة الله تعالى بنية القربة، ويأتي بتعليق الحصول على مرغوب وبدون تعليق، ويقتضي هذا الإيفاء بالأعمال الزائدة مثل نذر زيادة طواف، أو نسك أو إطعام فقير، وقوله (وليطوفوا) يشير إلى الإكثار من الطواف بالبيت، الإفاضة منه والمنذور منه وطواف الوداع.
الإمام الغزالي يطلق على الحج أنه رهبانية الإسلام، لما في أعماله من الانقطاع عن الدنيا والتجرد لعبادة رب العالمين
وهذه الآية وحدها أشارت إلى معاني الانقطاع عن علائق الدنيا وأشغالها للعبادة، ويتحقق ذلك من خلال انتقال الحاج من عبادة إلى عبادة أخرى، فأيامه يملؤها بالتكبير والتهليل والصلاة والطواف والدعوات.. لهذا السبب نرى الإمام الغزالي يطلق على الحج أنه رهبانية الإسلام، لما في أعماله من الانقطاع عن الدنيا والتجرد لعبادة رب العالمين.
ورأى الغزالي أن معنى التجرد لله تعالى يكتمل بكمال العبودية بين يدي الله تعالى، لذلك فرض عليهم أعمالا لا تأنس بها النفوس ولا تهتدي إلى معانيها العقول كرمي الجمار بالأحجار والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار، وحسب قوله فإن بمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية[11].
المقصد الخامس – إظهار كمال الاتباع بالسمع والطاعة، وهذا يعلل لنا ما طلب الشارع من أعمال الحج مما لا تدرك حكمها العقول، واعتبرت من مُلَح العلم معرفة مقاصدها كما اختار الشاطبي، والحديث عن هذا المقصد يكمل ما سبق من معاني التجرد للعبادة، فأفعال مثل تكرار السعي والرمي، وشعيرة الحلق أو التقصير، فإن من كمال العبودية قصد الامتثال بالمامورات لأن معانيها لا تهتدي إليها العقول، وقد عمق النظر في هذه الأعمال المعينة الإمام الغزالي، فقال – واللفظ له -:
أما ترددات السعي ورمي الجمار وأمثال هذه الأعمال فلا حظ للنفوس ولا أنس فيها ولا اهتداء للعقل إلى معانيها فلا يكون في الإقدام عليها باعث إلا الأمر المجرد وقصد الامتثال للأمر من حيث إنه أمر واجب الاتباع فقط، وفيه عزل للعقل عن تصرفه، وصرف النفس والطبع عن محل أنسه، فإن كل ما أدرك العقل معناه مال الطبع إليه ميلاً ما، فيكون ذلك الميل معيناً للأمر، وباعثاً معه على الفعل، فلا يكاد يظهر به كمال الرق والانقياد، ولذلك قال ﷺ في الحج على الخصوص لبيك بحجة حقاً تعبداً ورقاً[12] ولم يقل ذلك في صلاة ولا غيرها.
وإذا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى ربط نجاة الخلق بأن تكون أعمالهم على خلاف هوى طباعهم، وأن يكون زمامها بيد الشرع، فيترددون في أعمالهم على سنن الانقياد، وعلى مقتضى الاستعباد كان ما لا يهتدي إلى معانيه أبلغ أنواع التعبدات في تزكية النفوس وصرفها عن مقتضى الطباع والأخلاق إلى مقتضى الاسترقاق[13].
وما ذكره الغزالي في معنى “الحج عبادة حنيفية” يؤصل لما جاء في قوله تعالى (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)، فإن كلمة الحنف من الأضداد، تقع على الاستقامة أو الميل، فكانت الإشارة إلى حالة المؤمنين الحجاج، وهم يقومون بأفعال الحج مستقيمين غير مائلين عن الجادة، أو غير مائلين إلى الأهواء أو إلى دين زائغ، وكان الباعث لهم على عبادتهم رغبة محضة، ومحبة خالصة في امتثال أوامر الله، تحقيقا لمعنى الحنيفية وليس مجرد امتثال الأوامر[14].
[1] شرح النووي على صحيح مسلم (9/119)
[2] مفتاح دار السعادة، ابن القيم (2/4).
[3] أعلام الموقعين عن رب العالمين (3/294)
[4] يقول ابن القيم: “الحق أن جميع أفعاله وشرعه سبحانه لها حكم وغايات لأجلها شرع وفعل، وإن لم يعلمها الخلق على التفصيل، فلا يلزم من عدم علمهم بها انتفاؤها في نفسها”. شفاء العليل (214)
[5] من الوسائل القطعية لإثبات مقاصد الحكم الشرعي: كاستقراء تصرفات الشريعة، ودلالة النصوص القطعية من الكتاب والسنن المتواترة
[6] الموافقات (1/111 – 112).
[7] والغاية من الخلق كأنها محصورة في العبادة، ومتصورة فيها، فكأن العباد في ظاهر الأمر لم يخلق إلا لهذا القصد، لو حملنا الآية على ظاهرها، ويكون مبالغة في العبادة، اغو يحمل على أن المقصود أن الخلق جبل على العبادة من حيث التمكن والاستعداد بالقوة، وأما بالفعل فإنه باختياره. أفاد ذلك أبو السعود في تفسيره = إرشاد العقل السليم (8/144).
[8] تفسير ابن عطية (4/133).
[9] علم المقاصد الشرعية، الخادمي (171).
[10] التحرير والتنوير (17/243)
[11] إحياء علوم الدين (1/266)
[12] أخرجه البزار موقوفا في مسنده البحر الزخار(13/266)، عن ابن سيرين عن أخيه يحيى بن سيرين قال: كانت تلبية أنس: لبيك حجا حقا تعبدا ورقا. قال البزار : ولم يسنده حماد وأسنده النضر بن شميل ولم يحدث يحيى بن سيرين، عن أنس إلا بهذا الحديث.
وأسنده الدارقطني مرفوعا في كتابه العلل (3/13)، ورجح وقفه.
ورواه الطيالسي في مسنده (231)، والطبراني في الكبير (1/151)، وعنه الصياء المقدسي في الاحاديث المختارة (3/308) عن طريق المسعودي من قول زيد بن عمرو، وحسنه.
[13] إحياء علوم الدين (1/266)
[14] مفتاح دار السعادة، ابن القيم (2/4).