الحج والوباء، متلازمة تشهدها السنوات الممتدة بين القرنين التاسع عشر والعشرين، أكثر من أربعين وباء يضرب العالم والشرق، يختص منها الحج بسبعة وعشرين منها، عشرات الالاف من الحجيج تصعد أرواحهم في تلك الأوبئة، التي انتقلت عدواها إلى مجتمعاتهم عقب عودتهم، فكان الحج في تلك السنوات مصدرا للرعب، وكان الحاج موضع توجس، وكانت الذرائع الصحية يستخدم الاستعمار لمنع الفريضة.
منذ العام 1814م والأوبئة تضرب العالم، تقدم وسائل المواصلات، وكثرة التنقل، واتساع التجارة، وضعف الاجراءات الصحية، يساهم في تعدد سنوات الأوبئة طوال تلك العقود، وكان الحجاز أحد الأماكن التي يضربها الوباء ويخرج منها ليصيب أماكن أخرى.
تستقبل الأماكن المقدسة في مكة والمدينة المنورة في فترة الحج عشرات الالاف من البشر بما يفوق طاقتها الاستيعابية والخدمية، وكان اشتداد الحرارة، وقلة المياه النقية، والذبائح التي قُدرت في بعض السنوات بتسعين ألفا، والتي كانت تنحر في أماكن غير مجهزة ويترك بعضها في العراء، وكذلك اختلاف الطبيعة المناخية للبلاد التي يقدم منها الحجاج عن مناخ الحجاز المرتفع الحرارة، أضف إلى ذلك أن كثيرا من الحجاج كان من كبار السن والمرضى الذين يصلون إلى الأماكن المقدسة بعد رحلة قاسية، كل تلك العوامل جعلت فترة الحج بيئة محتملة للإصابة بالأوبئة، وبيئة مُصدرة لها في أحيان أخرى، فشهدت العقود الأولى من القرن التاسع عشر تلقي الأوبئة من الهند، فحصد وباء 1814م أرواح ثمانية آلاف حاج، وأطلق على أوبئة تلك الفترة بـ”الأوبئة الآسيوية”.
كان بعض الفقهاء يذهبون أن مكة المكرمة والمدينة المنورة مُحصنتين من الوباء، استنادا إلى حديثين للنبي -ﷺ- رُوى أحدهما في صحيح البخاري، والآخر في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ” أما الرواية الأخرى فذكرت مكة، ورأى بعض العلماء أن الحديث اختص الطاعون فقط، وليس سائر الأوبئة مثل: الكوليرا والزحار والتهاب السحايا، إذ يشير تاريخ المدينتين المقدستين إلى إصابتهما بأوبئة متعددة ليس فيها الطاعون.
لم تهتم كثير من كتب رحلات الحج بالحديث عن الأوبئة إلا قليلا، فالرحالة المغربي الفقيه “محمد بن أبي بكر الحيوني” دون في رحلته للحج عام 1846م، معلومات سريعة عن انتشار وباء في ذلك العام، بل إنه أصيب به وانتفخت بطنه ورجليه، وعاني من آلام المرض شهرا كاملا قبل أن يُشفى، وسجل مشاهدت عن إصابات بعض الحجاج في الوباء، فكان بعضهم يسقط من فوق راحلته ميتا، وآخر يموت على راحلته وهو مربوط فوق ظهرها، ومع اشتداد الوباء تحولت بعض البيوت إلى قبور من كثرة الموتى، ووصف حال الرعب بقوله:” “فطارت العقول للحناجر ووجفت القلوب، وسكت الركب ويبس الريق من أفواه الرجال”.
أما الطبيب الفرنسي “فيرمان دوغيه” في كتابه ” الحج إلى مكة: من وجهات نظر دينية واجتماعية وصحية”[1]، – نشر في عام 1932 م – وكان يشغل المفتش العام بمجلس الحجر الصحي الدولي في الإسكندرية، فكتب عن وباء 1832م، الذي انتشر بعد موسم الحج، فأكد أن بناء السكك الحديدية وحفر قناة السويس أدى إلى تسارع انتشار الأمراض المعدية، فقد كانت الصحراء التي تسير فيها القوافل تُطهر الحجيج من الوباء؛ لطول المسافة، ونقاء الصحراء، وطول الزمن، الذي كان يقلل الوفيات في أدنى مستوياتها.
كما أن طول مسافة السفن في البحر-قبل حفر قناة السويس- كان يُنقي الحجيج من الأوبئة قبل وصلهم إلى بلادهم لطول الفترة التي يمكثون فيها في البحر، وقد أطلق على الرحلة بـ”حج الرعب” عام 1893، بعدما حصدت الأوبئة الكثير من الحجيج، وذكر الكتاب أن الوباء كان يصيب 40% من الحجيج، فمن بين (46) ألفا حجوا، حصد الموت أرواح (21) ألفا، ويضم الكتاب كثيرا من البيانات الصحية المهمة عن الحج والوباء في تلك السنوات الشديدة.
أما المصور والرحالة الفرنسي المسلم “جول جرفيه كورتيلّمون” Jules Gervais- Courtellemont، فقام برحلة إلى الحج عام 1894م، ودونها كتابه “رحلتي إلى مكة” Mon voyage à La Mecque وفي تلك السنة كان انتشار وباء الكوليرا، الذي أودى بحياة ثلاثين ألف حاج.
وفي كتابه “حكاية طبيب” يحكي الدكتور “نجيب باشا محفوظ، رائد طب النساء والتوليد في مصر، عن ذلك الوباء الذي أصاب مصر عام 1902م[2]، عندما كان طالبا في كلية الطب، وكان بسبب أحد الحجاج في الصعيد، والذي حمل معه ماء ملوثا، فأصاب قريته، ومنها انتقل الوباء إلى أكثر من ألفي قرية ومدينة، وحصد أرواح أكثر من خمسة وثلاثين ألفا، وفي ذلك الوباء كتب أحمد شوقي قصيدة، من أبياتها:
لهفي على مُهجِ غوالِ غالها خافي الدبيب مُحَجبْ الأظفار
خمسونَ الفاً في المدائن صادهم شِركُ الردى في ليلةٍ ونهارِ
ذهبوا فليت ذهابهم لعظيمة مرموقة في العصر أو لفخار
الوباء والاستعمار
استخدم الاستعمار “الوباء” للحد من الحج، وحمل الحجيج انتشار الأوبئة والطواعين، نظرا لتأثيرات رحلة الحج في مقاومة الاستعمار، وفي رسالته للدكتوراه، بعنوان “مسألة الحج في السياسة الاستعمارية الفرنسية بالجزائر” يسرد الباحث “قبايلي هواري”، جانبا من السياسة الاستعمارية الفرنسية تجاه الحج، حيث استغل الاستعمار ذريعة الوباء لمنع الفريضة.
فكانت المحاجر الصحية التي أنشأها الاستعمار تعامل الحجيج وكأنهم مجرمون، بل استغل الوباء لتنفيذ إجراءات قاسية ضد الحجيج لا تراعي الشرعية الإسلامية، ففي العام 1887 تم إلقاء (18) حاجا جزائريا في البحر دون تغسيل أو تكفين، بحجة الوباء، وبعد التحقيق تبين أنه لم تسجل أي حالة لانتشار وباء في تلك الفترة، أما الحاكم الفرنسي للجزائر “تيرمان” فكان من أشد كارهي فريضة الحج، وكان يتخذ من الوباء ذريعة لوقف الفريضة، بل إنه كان يصطدم بوزارة الخارجية الفرنسية التي لم يكن يروقها المنع المتكرر للحج، حفاظا على صورة فرنسا في الخارج، وقد أصدرت فرنسا قرار بمنع الحج عام 1847 لانتشار الوباء في ليبيا والحجاز، وكانت تلك أول منع للحج لأسباب صحية
وفي عام 1893 انتشر وباء الكوليرا، لذا قرر الحاكم الفرنسي “كامبون” إصدار قانون الحج في (10/12/1894)، وذلك بعد وفاة ألفي حاج جزائري من صل سبعة آلاف بسبب وباء الكوليرا، الغريب أن الفرنسيين حملوا ماء زمزم الذي يحمله الحجاج المغاربة بعد عودتهم لديارهم السبب في انتشار وباء “الزحار” والتيفود في بعض السنوات، وزعموا أن الحجاج يضعون ماء زمزم في الآبار لنشر الوباء، لذا كان ماء زمزم يُعقم في محجر الطور بسيناء ابتداء من 1918.
[1] اسم الكتاب باللغة الفرنسية : Le pèlerinage de la Mecque, au point de vue religieux, social et sanitaire
وقد ترجمه وعلق عليه محمد خير البقاعي
[2] أصاب مصر الوباء عشرة مرات خلال تلك الفترة من منتصف القرن التاسع حتى منتصف القرن العشرين، جاء في ست مرات منها عن طريق الحجاج، فخلال شهرين أنهي حياة 6% من سكان مصر عام 1831 وأسموه وقتها “الهيضة”، أما بقية الأوبئة الخمسة فحصدت أرواح نصف مليونا من المصريين، وكان محجر الطور في سيناء، الذي يقضي فيه الحجيج قرابة الأسبوعين قبل العودة إلى ديارهم، يخضع لإشراف طبي دولي منذ مؤتمر الآستانة الصحي عام 1866م وحتى العام 1939 عندما أشرفت عليه الحكومة المصرية