لا شك أن قضية القدس خاصة، وفلسطين عامة، لها جونب كثيرة متعددة، ينبغي الاهتمام بها، بما يناسب أهمية هذه القضية ومركزيتها في واقع العالم الإسلامي ومستقبله.. ومن هذه الجوانب، ما يتعلق بالقدس وفلسطين من الناحية المعرفية، وضرورة العمل على إشاعة حضور هذه القضية في وجدان المسلمين وعقولهم؛ حتى يمكن أن نبني على هذا الوعي خطواتٍ جادةً نحو التحرُّر والتحرير.
“إسلام أون لاين” التقي الدكتور أسامة الأشقر، للحديث عن واقع الحضور المعرفي عن القدس في عقل المسلم المعاصر.. وعن أهم القيم التي ينبغي استحضارها في هذا الشأن.. بجانب التعرف على كيفية إحياء التضامن مع القدس، خاصة على الجانب المعرفي.
والدكتور الأشقر مؤرخ وروائي فلسطيني، مستشار سياسي بمركز الراصد للدراسات، رئيس المكتب التنفيذي للحملة الأهلية لاحتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية 2009م. وله عدد من الكتب والدراسات في مجالات تتنوع بين الفكر والسياسة والأدب، خاصة القضية الفلسطينية بجوانبها المتعددة. ومن كتبه: “مدينة بيت المقدس في القرن الإسلامي الأول”، “فتوح فلسطين”، “موسوعة الصحابة على أرض فلسطين”، “مقامات السائرين لنصرة الأقصى وفلسطين”، “القدس في العصر العباسي المبكر”، “منهج اللغة العربية لكليات المجمع الطبي بجامعة الخرطوم”، “ديوان الفرقان. وله تحت الطبع: “الوافي في الأدب الفلسطيني القديم والوسيط (5 مجلدات)، “البحث عن التابوت” (رواية)، “عندما حدثني البحر” (مجموعة قصصية).. فإلى الحوار:
كيف ترون واقع الحضور المعرفي عن القدس في عقل المسلم المعاصر؟
في الجانب المتعلق بالاهتمام النفسي، لاشك أن للقدس حضورًا لدى كل مسلم مهما اختلفت مستويات تكوينه الأوليّ؛ إلا أن هذا الحضور لا يعني بالضرورة استحضار المعرفة عنها ولا حقوق القدس الناتجة عن هذه المعرفة.
والناظر إلى ميادين العمل النشطة في عالمنا، يمكنه بسهولة أن يؤشّر إلى ضعف شديد في هذا الحضور.. ومن ثم، ينبغي العمل على تعزيز الحضور المعرفي عن القدس.
هل هذا الحضور المعرفي عن القدس، يمكن أن نعده نوعًا من أنواع المقاومة، أو شرطًا من شرائط التحرير؟
ينبغي تحرير معنى “الحضور المعرفي” قبل تحرير الإجابة، فأنا لا أطالب أي ناشط أن يمتلك معارف تفصيلية عن القدس، بل أكتفي منه بمنظومة قيم أساسية تشكّل مرجعية حضور القدس لديه، وهي مصوغة بقواعد كلية يمكن استدعاؤها واستحضارها بسرعة، تتعلق بالجانب النفسي والسياسي والتاريخي والفكري والقانوني.
وأظن أنها كافية جدًّا في تحديد السلوك الناتج عن المعرفة الأساسية؛ فمثل هذه المعرفة ضرورية وتعدّ من واجبات المسلم، ومما يلزمه تعلُّمه ومعرفته.
وما أهم هذه القيم، من خلال رصدكم ومتابعتكم للقضية الفلسطينية؟
في الجانب السياسي مثلاً، يلزمنا أن نقرر أن القدس مدينة واحدة، وليست مدينة موحَّدة تجمع الشطرين الشرقي والغربي؛ فهذا تقسيم استعماري فصل المدينة وقسّمها، وهو غير مقبول ابتداءً فلا نقبل كل ما يترتب عليه.
ومن القيم السياسية أيضًا، أن يكون واضحًا لدينا أن القدس بدأ احتلالُها عام 1948 باحتلال الجزء الغربي منها، واستُكمل احتلالها عام 1967 باحتلال الجزء الشرقيّ؛ فالقدس بشطريها محتلة، ولا يجوز إغفال تاريخ الاحتلال الأول.
ومن القيم التاريخية المتعلقة بالقدس، أنه لا يوجد أي دليل أثري يثبت لليهود حقًّا تأسيسيًّا لهم فيها، وأن ما لديهم من قصص وأخبار تختص بثقافة محلية لواحدة من الشعوب العديدة التي مرّت على المكان، وأن هذه القصص المحلية لا تؤمن بها ديانات كبيرة أخرى، كما أن هذه القصص لا تؤيدها الأدلة الأثرية.
ومن القيم القانونية، أن قضية ادّعاء الحق التاريخي في أرضٍ ما، تعني الفوضى القانونية والسياسية؛ إذ يجوز بناء على إقرار ذلك أن نطالب بعودة الأندلس، وأن تعود أمريكا إلى حضن بريطانيا، وأن تعود الصين إلى اليابان، أو كثير من بلدان العالم إلى العثمانيين.. وأيّ بلد قام في أيّ حقبة تاريخية بحكم بلدٍ آخر، فمن حقه المطالبة بإعادته إليه إذا وافقنا على قضية الحق التاريخي المزعوم، التي هي ادّعاء بالأساس.
بالمقابل، كيف ترصدون” التزييف المعرفي” عن القدس، ضمن خطط التهويد وتشويه معالم المدينة؟
للأسف، تعرضت المدنية لحملة “أكاديمية” سبقت التهويد المعرفي استنادًا إلى عصبية دينية مسيّسة، جعلت الثقافة العالمية المرتبطة بعالمية الاستعمار تنظر إلى القدس باعتبارها مدينة إنجيلية توراتية، وأن الإنجيل بعهده الجديد مقترن بالعهد القديم في النظرة إليها.
وجرى تزييف تاريخ القدس استنادًا إلى هذه المقاربة الدينية، التي تأسّس عليها كل العمل الآثاري والمعرفي المتعلق بالقدس؛ فتعاملوا معها بالأساس أنها جغرافية العهد القديم، وأن كل شيء فيها يجب أن يتسمّى بما كان يتسمّى به من قبل، وأن هذا واقع لا يقبل الجدال، وتغافلوا تمامًا عن أن كل هذا ادّعاء، وأن ثمة وقائع تاريخية كبيرة تجاوزت الادّعاء، ورسمت حضورها على الأرض منذ دهر طويل.. بمعنى أن السياسة فرضت نفسها على المعرفة وألحقتها بها.
هل كانت القدس محورًا لحركة علمية وروحية، تاريخيًّا؟
وصفُ القدس بأنها محور لحركة معرفية ربما كان مبالغة، إذا قارنّاها بحواضر المعرفة الكبرى في القاهرة ودمشق وبغداد.. أما إذا قارنّاها بمكة والمدينة في العموم التاريخي، فربما كانت هي الأقل حضورًا بين الثلاثة في هذا المجال، وهي أفضل من مدن كثيرة عادية.
ويرجع سبب ذلك إلى كونها مدينة لم تحظَ باستقرار السلطات المركزية فيها عمومًا، وأنها ليست في طرق تجارة القوافل، كما كانت الحياة صعبة فيها لقلة الموارد المائية التي تغذيها، وكثرة الاختلاط بالديانات الأخرى التي جعلتها مدينة مفتوحة غير سهلة لطالب العلم، لاسيما قوة الحضور الأمني تاريخيًّا فيها.
ولكن اختصاصها بالرحلة العلمية في القرن الثالث الهجري، أدى إلى تطور حضورها كثيرًا، وزاد في الحقبة الأيوبية والمملوكية والعثمانية.
أما الجانب الروحي فهو شديد الحضور، ولاسيما في الثقافة الدينية؛ بحكم اختصاصها بالذكر القرآني، وورودها في نصوص نبوية تحث على زيارتها والتعبّد فيها، ثم زاد حضورها في الثقافة الشعبية في أناشيد الإسراء والاحتفال بهذه الليلة في السابع والعشرين من كل رجب.
ماذا عن وضع القدس في مناهج التعليم العربية والإسلامية؟
بالنظر إلى خصوصيات كل منظومة تعليمية محلية، فإن القدس في العموم مذكورة في مرحلة معرفية ما.. ولكن الإشكال في حضورها الخافت الخجول، الذي لا يعمل على تقرير قيمة أساسية تتعلق بها بشكل قاطع.
وماذا عن حضورها في الفعاليات الثقافية العامة؟
حضور القدس في الفعاليات الثقافية حضور احتفالي استعراضي محدود جدًّا؛ وهذا الأمر أتحدث به من واقع عملي المباشر، حيث كنت الرئيس التنفيذي للحملة الأهلية للقدس عاصمة الثقافة العربية عام 2009م.
وقد ثبت لي أن كل ما سيعطونك إياه عن القدس هو الكثير من المواقف الكلامية التي لا تترجم في الميدان العملي المباشر، وأن سقوف التصريح والعمل محدودة أيضًا.. وتجد التصريحات جاهزة في أدراجهم لا يتعدّون صياغتها، وهم كريمون جدًّا في وضع التصريحات في كل بيان تلقائيًّا..
ولكن الحقيقة المرة أن الدعم الثقافي الخاص بالقدس لا يمكن أن نضعه في مقارنة مع أي دعم ثقافي يهودي أو غربي موجّه؛ حيث إن الفارق هائل جدًّا. وهذه من الكوارث؛ لأن النشاط الثقافي المتعلق بالقدس هو- في حقيقة الأمر- الحد الأدنى الواجب للعمل تجاه القدس المحتلة الأسيرة، لاسيما أنه قليل الكلفة السياسية والمادية.
إذن، كيف نحيي التضامن مع القدس، خاصة على الجانب المعرفي؟
في اجتهادي الشخصي، أكتفي باستحداث مؤسسات وأطر تعمل على تأصيل القيم المتعلقة بالقدس وبثّها في المحيط المؤثر، أو تبني هذه القيم في المؤسسات القائمة التي يمكنها أن تسهم في البناء المعرفي والتربوي لأفرادها.
وهذا يتطلب جَعْلَها قضية مركزية في النظر والسلوك الناظم لأي مجموعة عمل، من خلال برمجة حضورها ضمن الأدبيات والأولويات السياسية.. وهذا واجب كل إطار وكل مؤسسة، وينبغي على كل نافذٍ في أيّ مؤسسة أن يعمل على ذلك، ولا عذر لأحد أن يبذل الجهد في ذلك.
كيف ترون موقع القدس من قضية فلسطين؟
القدس قضية متلازمة مع قضية فلسطين، لا تنفكّ عنها؛ بل هي العنوان الأبرز لها.. وهي تزيد عليها بأن فيها نمطًا حادًّا من المنافسة الحضارية والسياسية، التي تجعل من السيادة على القدس معيارًا لقوة الأمة وضعفها.
وأعتقد أن الاستثمار السياسي والقانوني والمعرفي والثقافي والاقتصادي… إلخ، في القدس، ينبغي أن يكون قضية كل جهة تسعى أن تكون قوية حاضرة مؤثرة، بوصفها قضية رابحة في عالمنا الإسلامي، تجذب الناس إليها بقوة.