لا زلت أعتقد اعتقادا جازما بأن بحث قضايا التسامح و الحوار في الحضارة الإسلامية لا يمكن أن ينفصل بحال من الأحوال عن مسألتين رئيستين، أولاهما: مسألة الشهود الحضاري للأمة الأوسط، وثانيتهما: مسألة الاستخلاف الإلهي للإنسان في الأرض.
ففيما يتعلق بالمسألة الأولى – مسألة الشهود الحضاري للأمة الوسط تبعا للآية الكريمة: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾.[البقرة: 143]، وما يرتبط بها من تحقُّق خيريتها واقعا عمليا، بحسب مدلول الآية الكريمة: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ﴾.[ آل عمران: 110]- فإن هاتين الخاصيتين (الشهود والخيرية) تتوقفان على، وترتبطان ارتباطا وثيقا، بمقدار التزام المسلمين بسياسة ونهج الحوار مع الآخر.
وتأويل ذلك؛ أن رسالة الأمة وواجبها ودورها ووظيفتها – فيما يؤكد عبد العزيز برغوث في كتابه: “الشهود الحضاري للأمة الوسط في عصر العولمة“- لن تتحقق بالصور المطلوبة مالم ترتفع هذه الأمة إلى مستوى “الشهود الحضاري” المنوط بها. فالأمة الإسلامية التي وُصفت في القرآن الكريم بأنها “أمَّة الخيرية” و “أمَّة الوسط”، لن تدخل في فعل حضاري شهودي كلي مالم تستوعب حقيقة وسطيتها، وطبيعة رسالتها الشهودية، ومالم تمتلك القدرة على اكتشاف سنن الفعل الحضاري، وفاجعة الوهن الحضاري التي أصابت الكثير من مفاصلها منذ زمن طويل.
وبديهي أن ذلك لن يتحقق بغير الحوار مع الذات من جهة، ومع الآخر من جهة أخرى. وإلا: فكيف لأمة الإسلام – على ما هي عليه اليوم من ضعف وهوان وعدم تطبيقها لمفهوم الحوار في الحضارة الإسلامية- أن تكتشف سنن الشهود الحضاري فيما هي منغلقة على ذاتها لا تتحاور مع الآخرين؛ خاصة إذا كانوا يملكون مفاتيح التحضُّر في الزمن الراهن؟! فإذا كانت الشهادة تقتضي توافر كل من: الدعوة، والحضور، والتبليغ، وإقامة الحجّة، والفاعلية الاجتماعية، والقدرة على البيان، والبناء لمضامين “الأمة الوسط” في قلب إشكالات الواقع، كما أنها تقتضي أيضا: الارتفاع بالإنسان إلى أسمى معاني إنسانيته، وتوطيد الصلة بينه وبين خالقه من ناحية، وبينه وبين أخيه الإنسان من ناحية أخرى؛ فإن فشهادة الأمة الوسط إذن مسئولية قبل أن تكون تكريما، وهذه الشهادة تقتضي أولا وأخيرا: الاستقامة.
والاستقامة لا تخرج، في أبسط معانيها، عن توخِّي العدل (القسط)؛ وهو ما شدد عليه القرآن الكريم كثيرا في توجيهه المسلمين ودعوتهم لضرورة فتح نوافذ للحوار مع الآخر؛ يقول تعالى: ﴿فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ مِن كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ اللَّـهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ اللَّـهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾[ الشورى: 15]. فتأمل كيف ربط سبحانه وتعالى الدعوة إلى الإسلام عبر الحوار بالاستقامة، وكيف ربطهما معا بتحقق العدالة ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾، وكأنه أراد أن يقول: عليك أن تبدأ وتباشر بالدعوة إلى الله عبر الحوار، وأن تلتزم نهج الاستقامة في معالجة قضايا الحوار، وأن تتذكر أن ذلك كله رهنا بتحقق العدالة مع الآخرين.
ومن جهة أخرى، ترتبط لفظة “الحضارة” في الوعي الإسلامي بقضايا الحضور والشهود، ومن ثم بفهم المسلمين لمعنى الاستخلاف الإلهي للإنسان في الأرض. فمن المعلوم أن كل حضارة تتكون من شقين أو جانبين رئيسين: ماديّ، ومعنوي. فالمادي هو ما نلمسه من عمران وصناعات وتقنيات وفنون وعلوم ومعارف وقوانين وأعراف… الخ.
أما المعنوي، فيتمثل في النوازع العقدية، والدوافع القيمية التي كانت وراء صناعة وإنجاز تلك الحضارات. وتبعًا لذلك، كلما اقتربت العقائد والأخلاق من المعايير العلمية والأخلاقية والمنطقية، كلما صارت أقرب من المدنية التي هي مرادف للحضارة عند البعض.
أما إذا أنتجت التصحر والعقم المعرفي، فإنها تكون بداوة ورجعية وتخلفا. فالحضارة نتاج إنساني في الأساس يعبر عن وحدة المنشأ، وتكامل الأدوار، وهي متداخلة فيما بينها، متكاملة في حلقاتها، لا يلغي اللاحق منها السابق، ولا يميت البعض منها الآخر، وإن تباعدت الأقطار، وتفاوتت الأزمان.
والفاعلية الحضارية – بهذا المعنى- تتوغل في صميم العمق الاستخلافي، بما أن شهود الأمة الوسط يدور أساسا حول تحقيق التوازن الكوني والحضاري في المسيرة الإنسانية، وبما أن الأمة الوسط أمة رسالية بمقدورها تحقيق الشهود الحضاري بحكم : تركيبتها الدينية التوحيدية من جهة (جذرها الإبراهيمي، واستيعابها لكامل التجربة بمعناها الشامل ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ﴾.[ آل عمران: 19]، واستمرار فلسفة الأمة المسلمة وتجسداتها النموذجية بتنوعاتها المتعددة عبر الجهود النبوية المتراكمة تاريخيا)، وبفضل تركيبتها الجغرافية العالمية من جهة ثانية، وتركيبتها البشرية الإنسانية الجامعة من جهة ثالثة.
ومن هنا يمكننا أن نُعرِّف الأمة الوسط بأنها تلك الجماعة البشرية المتنوعة والمتنامية التي تعمل على تجسيد وتجديد الوعي بالحقائق الدينية والتاريخية والثقافية والنفسية والعمرانية للإسلام، بمعناه الشامل. فالأمة الوسط: هي ذلك التجمع الإنساني المركب المستوعب لخلاصات وخبرات الوعي الرسالي والمشروع الحضاري الاستخلافي المنفتح على الزمان والمكان والتجارب كافة، والوعي الهادف إلى تحقيق التوازن الفاعل في الفعل الحضاري الإسلامي خاصة وفي الفعل الحضاري الإنساني عامة.
ولكي يحقق المسلم سر الوجود في الأرض: توحيدا، واستخلافا، وأمانة، ومسئولية، وتعميرا، فلابد وأن يربط حياته كلها، ومجالات نشاطه الفكري والثقافي والتربوي والتنظيمي بالقيم الحياتية العليا التي جاء بها القرآن الكريم، وطالب الناس بتحويلها واقعا في حياتهم، ومرجعا لسلوكهم. وعلى رأس تلك القيم: قيمتي التسامح والحوار في الحضارة الإسلامية، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بالقول: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللَّـهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ۚ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.[ الأنعام: 162- 165]
فتأمل كيف وازى القرآن الكريم بين غاية المسلم في الحياة من جهة، وتباين الآراء واختلافها من جهة أخرى، ثم كيف قرن ذلك جميعا بجعل البشر خلفاء لله في الأرض، مع ما يقع بينهم من تفاوت في الدرجات، أدعى للالتزام بالصبر والحلم واتباع نهج الحوار.