هناك فرق كبير بين صاحب الخلق الكريم تربيةً وأصالةً وقناعةً وطبعاً وثباتاً، والمتصنّع للخلق الكريم مداهنةً ونفاقاً، كالفرق بين الصدق والكذب، أو بين الإخلاص والرياء. ومن السلف من اعتبرَ الدين هو الخلق الكريم، فقال ابن عباس – رضي الله عنهما – في قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4] أي: لعلى دين عظيم.

وقال ابن القيم رحمه الله: الدِّينُ كلُّه خلق كريم، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين. وسُئل عن الدِّين فأجاب: «حسن الخلق»([1]).

وسُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق الرسول ، فقالت: «كان خلقه القرآن»([2]).

والخلق الحسن الكريم أن يسيطرَ المسلمُ بروحه على بدنه، ويسمو بنفسه فوقَ حِسّه، ويُحسن الوفاقَ بين عقله وقلبه، فإذا هو سليم الفؤاد، حكيم المقال، رشيد الفعال، لديه من الحصانة الإيمانية والخُلُقية ما يجعلُه يتأبَّى على كل خطيئة أو إثم، ويدفع كل شبهة أو تشكيك. ولديه من نور البصيرة والهداية ما يجعله أهلاً لرحمة الله في دنياه وأخراه.

وفي القرآن الكريم تفصيل للأخلاق الكريمة، كسورة الحجرات والنساء والنور، وإجمال في كثير من سوره، وبينَ شتَّى الأحكام والموضوعات، وإيجاز معجز في بعض الآيات، كما في قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199].

وأبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى فصَّل الأخلاق الإسلامية في كتابه «إحياء علوم الدين» فاختصرَ ذلكَ الشيخُ جمال الدين القاسمي رحمه الله في كتابه «موعظة المؤمنين» وأوجزَ ابنُ القيم في كتابه «مدارج السالكين» فردَّ الأخلاق إلى أربعة أنواع هي: الصبر، والعفة، والعدل والشجاعة. وكل نوع منها في نظره يشتمل على مزايا وأصناف في الأخلاق، مما ينتظم الأخلاق كلها.

وللأخلاق الفاضلة مرتبة عالية سامية في الإسلام، وعناية بالغة، فهي:

1- من أهم أهداف البعثة «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق»([3]) ولذا فقد كان يدعو في افتتاح الصَّلاة «اللهم اهدني لأحسن الأخلاق، فإنه لا يَهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني أسوأها فإنه لا يصرف عنِّي أسوأها إلا أنت»([4]).

2- من أحسن ما يُمدح به المرء، ولذا فقد اصطفاها الله تعالى لمدح رسوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4].

وقوّاها بـ: (إن) و(اللام) المزحلقة للتوكيد، وعلى التي تُفيد الاستعلاء، والوصف: عظيم، ليُبيِّن أن أحسن قدوة وأفضل أسوة يرجع إليه في الفضائل والمكرمات والخلق القويم هو سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم:

(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21].

(وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159].

3- من أسباب دخول الجنة، ففي الحديث الشريف: «أنا زعيمٌ ببيت في أعلى الجنَّة لمن حَسُنَ خلقُه»([5]). «أكثر ما يُدخلُ النَّاسَ الجنَّة حسنُ الخلق»([6]). «مَنْ يضمنْ لي ما بينَ فكَّيْهِ – لسانه – وما بينَ فخذَيْه – فرجه – عن الحرامِ أضمنْ له الجنَّة»([7]).

4- مرتبطة بالعبادة، فهي ثمرةُ العبادات التي شُرعت كمظهر من مظاهر شكر العبد لخالقه، وإقراره بالعبودية له، وهي بالإضافة إلى ذلك شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تُؤتي أكلها وثمراتها من العمل الصالح، والسلوك المستقيم، بإذن وفضل ربها.

فالصَّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصيام سبيلٌ للتقوى والحفظ المادي والمعنوي. وفي الحج منافعُ كثيرة، والزكاة طهارة، وتزكية، ونماء للغني والفقير والمال.

5- مرتبطة بالعقيدة. ففي الحديث الشريف: «الإيمانُ بضع وسبعون شُعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان»([8]). «لا يَزني الزَّاني حينَ يَزني وهو مؤمنٌ، ولا يسرقُ حين يسرقُ وهو مؤمن، ولا يشربُ الخمرةَ حين يشربُها وهو مؤمن»([9]).

ولذا فأنت تقرأ في سورة المائدة: (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [المائدة: 5].

فالآية من أولها بيَّنت ما يحلُّ للمؤمن من الطيبات طعاماً، ومن النساء زواجاً حلالاً.

ثم بينت أن العلاقة المشروعة بين المؤمن وأية امرأة تحلُّ له،إنما تقومُ على عقد شرعي بشروطه المعروفة، المؤدية إلى الإحصان والزواج المشروع الشريف.

وما عدا ذلك من صلة عشق أو غرام أو فساد، أو باسم صداقة أو زمالة، فهي محرمة، وهي مزلق من مزالق الهوى والشيطان: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف: 53].

وامتثال أخلاق وأحكام الإسلام في ذلك من صُلب الإيمان والعقيدة السليمة، فمن رفضها وانسلخ منها وانطلقَ من قيودها يفعل ما يُريد، فقد طغى وبغى، وآثر طريق الكفر على الإيمان، فحبطَ عمله وخابَ وخسِر، ولذا فقد انتهت الآية بقوله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [المائدة: 5].

معتبراً مكارم الأخلاق جزءاً وعضواً أساساً في جسم الإيمان وكيانه، من تخلَّى عنها فقد ضلَّ وأضلَّ.

وفي سورة الحجرات قال الله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) [الحجرات: 7].

6- مرتبطة بالتشريع: فالحدودُ التي شرعَها الله تعالى كحدِّ القتل والزنا والقذف وبيَّنها رسوله ، والتعزيراتُ التي وكلَ أمرها للقاضي، وهي فيما لم يرد فيه حدٌّ، فيقدر القاضي في كل عصر ومصر خطورة ذلك الذنب أو العمل الضار، ويفرض على فاعله عقوبة زاجرة رادعة يراها عادلة مناسبة مؤدِّبة.

وإنما شُرعت الحدود والتعزيرات لحماية الضرورات الخمس: الدين والعقل والعرض والنفس والمال في كل مجتمع ولكل فرد، ولا يمنع المجرم عن جريمته مثل أن يعرف أن سهمه سيرتد إلى صدره فيقتله.

(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 179].


([1])  رواه أحمد وابن حبان.

([2])  رواه أحمد ومسلم وأبو داود.

([3])  رواه البخاري في الأدب المفرد والحاكم والبيهقي.

([4])  رواه الترمذي والدارقطني.

([5])  رواه أبو داود.

([6])  رواه الترمذي وابن حبان.

([7])  رواه البخاري والترمذي.

([8])  رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

([9])  رواه البخاري ومسلم.