إنه عام 2140، وهناك طفلان يركبان الأمواج بقلب مدينة مانهاتن الأمريكية على مقربة من تقاطع الشارع السادس وشارع برودواي. ومن يعرف هذا التقاطع يدرك أن المنطقة بعيدة كل البعد عن الساحل الأمريكي.
لكن الرواية التي كتبها كيم ستانلي روبنسون بعنوان “نيويورك 2140” تتخيل مانهاتن وقد غمرتها المياه بعد تغيرات مناخية مستمرة رفعت منسوب البحر بواقع خمسين قدما، وبات يتعين على السكان التنقل بالحافلات المائية والتعامل مع عالم غريب لا نعرفه. لكن ركوب الأمواج وسط مانهاتن ليس شيئا بعيدا تماما عن الحدوث مستقبلا.
وتنتمي الرواية التي كتبها روبنسون عام 2017 إلى ما يطلق عليه اسم “الخيال المناخي” وهو نوع من الأعمال التي تلقي الضوء على بلدان غارقة وعواصم ضخمة اعترتها تغيرات وخيمة بعد عشرات السنين من الآن. وبينما يعمل الدبلوماسيون على الخروج بمسودة للتعامل دوليا مع أزمة المناخ ويسابق المهندسون الزمن لابتكار ألواح شمسية أفضل، يضطلع الكتَّاب هم أيضا بدورهم عبر رواية ما يصفه روبنسون بـ”قصة القرن المقبل”، علَّهم يعينون قراء العالم على فهم الوضع الراهن.
وليس من السهل فهم قضية التغير المناخي، خاصة عند مقارنتها بكوارث أخرى من تأثير البشر. فلو ألقينا كيماويات سامة، على سبيل المثال، بأحد الأنهار فلن تمض أيام إلا ونرى سمكا ميتا طافيا على سطح الماء، لكن ما الذي سنعاني منه عندما نطلق انبعاثات ثاني أكسيد الكربون؟ وفي عام 2008، حذر تقرير أعده خبراء المناخ بالأمم المتحدة من أن العالم يتجه نحو كارثة محققه؟ فهل نتخيل إلى أي مدى تسير الأمور؟
هنا يأتي دور الرواية لرفع وعي القارئ من خلال التركيز على قصص وشخصيات في المستقبل. ويقول روبنسون إن عرض الرواية لتفاصيل مستقبل تغير فيه المناخ يجعل من السهل على القارئ تخيل هذا المستقبل، خاصة وأن الكاتب يصور شخصيات تبدو حقيقية وتواجه مشاكل تشبه المشاكل اليومية التي يعاني منها الإنسان في الوقت الحالي.
وتقول شيلي ستريبي، أستاذة الأدب والدراسات الإثنية بجامعة كاليفورنيا في سان دييغو، إن “الخيال العلمي يفتح مدارك المرء لاستيعاب ما لا يمكن تصوره بقراءة تقرير عن التغير المناخي، ويساعد الناس على توقع ما يحتمل أن يحدث في المستقبل وعلى فهم الحاضر أيضا”.
ومن الصعب الوقوف تحديدا على عدد روايات ما يعرف بالخيال المناخي، لكنها آخذة في الانتشار بصورة سريعة. وفي عام 2016، أشارت دراسة إلى أن هناك خمسين رواية تتطرق تحديدا للتغير المناخي بفعل البشر وتبعاته، عشرون منها خلال السنوات الخمس السابقة، رغم أن العدد يشمل أنواعا شتى من الروايات، ومنها رواية جون لانشستر التي تحمل اسم “الجدار”، والتي وصفت بـ”المقلقة والممتعة في الوقت ذاته”.
وتقول ستريبي إن الخيال العلمي يساهم في التوعية بقدر كبير، نظرا لقدرته على الاستنباط من خلال التركيز على ظروف قائمة اليوم وتخيل تداعياتها في المستقبل.
وربما يصعب تخيل التداعيات على عالم ارتفعت درجات الحرارة فيه بأكثر من درجتين مئويتين، وهو ارتفاع يؤكد العلماء أنه سيؤثر سلبا على الكثير من الأحياء على سطح الكوكب. كما يصعب إدراك أثر أنماط المعيشة الراهنة على هذا الوضع، لكن الخيال العلمي يسمح بالتركيز على الظروف الراهنة وتداعياتها في المستقبل بعد عشرات السنين وتخيل كيف سيكون حال التنقل أو شراء الخبز عام 2080!
وبينما تركز أفلام هوليوود، كفيلم “يوم بعد غد” أو “2012”، على التغير المناخي بشكل كارثي، فإن أغلب الأدب القصصي للتغير المناخي يتجاوز ذلك بسؤال: ماذا سيكون حال العالم بعد وقوع الكارثة؟
وهناك حركة أدبية تتخيل مستقبلا أفضل، فنجد كتابا مثل سارينا أوليباري من نيو مكسيكو لا تحبذ تصوير المستقبل بشكل كارثي قاتم، بل تتجه بدلا من ذلك لتخيل عالم أمثل يعتمد على الطاقة المتجددة. وقد بدأ هذا النوع من الأدب خطواته الأولى عام 2012 حين قام ناشر برازيلي بتجميع قصة قصيرة ومنذ ذلك الحين شهد هذا المجال ازدهارا كبيرا، خاصة على المدونات وموقع تامبلر.
وتقول أوليباري: “أي خيال علمي يتناول المستقبل القريب ولا يتطرق للتغير المناخي هو محض خرافة”.
وفي أحد المشاهد من رواية روبنسون “نيويورك 2140” يهاجم أحد الشخصيات النظام الاقتصادي قائلا إن “العالم في فوضى بسبب الأوغاد الذين يظنون أنه بإمكانهم نهب كل شيء دون حسيب أو رقيب، وليس أمامنا إلا التغلب عليهم وإعادة نهج العدالة”.
وبعد سؤال الشخصية عما إذا كانت الظروف مواتية لتحرك كهذا يرد بالقول: “بل هي مواتية جدا، فالناس يخشون على أولادهم، وفي لحظات كتلك يحدث التغيير”. وقد يظن المرء أن شخصيات الرواية تتحدث عن 2018 وليست 2140، أو كأي حوار جيد لخيال علمي يحتار المرء فيما إذا كان القول ينطبق على المستقبل أم الحاضر. ويصف روبنسون هذا التوجه بـ”المتفائل الغاضب” ويقول إن الأمور قد تتحسن، لكن التغيير لن يحدث إلا إذا كان الناس مستعدون للقيام بذلك.
وفي أغلب قصص الخيال العلمي في السابق كان الرجل الأبيض هو من يهيمن على الساحة، وكان البطل هو عالِم أو مستكشف أبيض بينما جرى تهميش أصوات النساء والمجموعات الأصلية والملونين. لكن ستريبي تشير إلى ضرورة تحرير الخيال العلمي من هذا الشكل من “الاستعمار”، وتُذكِّر بالروائية الأمريكية من أصول أفريقية أوكتافيا إي باتلر والرواية التي كتبتها عام 1993 بعنوان “مثل الزارع” والتي تلقي الضوء على قصة مراهقة سوداء ترحل عن كاليفورنيا بعد أن أصابها الجفاف بمنتصف عشرينيات القرن الحادي والعشرين، وتقول إن باتلر بجعلها امرأة سوداء بطلة لرواية عن مستقبل المناخ مهدت السبيل لكتاب آخرين وحتى للقراء لتصور مستقبل جيد للسيدات ولأصحاب البشرة السمراء.
وتقول الكاتبة البريطانية إنجيلا تشان إن أصوات المجتمعات الأصلية والملونين ليست جديدة بل موجودة منذ عقود، لكن الغرب لم ينتبه إليها إلا أخيرا. وتشير تشان إلى أن تخيل المستقبل من منظور الخيال المناخي يعد فعلا من أفعال المقاومة في مجتمع يضار فيه المهمشون بصورة أكبر جراء هذا التغير.
وقد بحثت تشان، وهي من أصول صينية في المملكة المتحدة، مؤخرا كيفية تعبير كُتَّاب الخيال العلمي في الصين عن الحاضر وتحديات المستقبل عبر قصص التغير المناخي. وتحذر تشان من النظر للأدب الصيني بمنظور غربي وتقول إن الصين لديها باعا طويلا في هذا المجال، بما في ذلك مجلة “ساينس فيكشن وورلد” أو “عالم الخيال العلمي” التي تُوصف بدورية الخيال العلمي الأكثر شيوعا في العالم.
وهكذا يركز الكُتاب على قضية التغير المناخي عبر سرد قصص شيقة قد يتخللها التفاؤل برغم الأزمة الراهنة دون أن يفقدوا بوصلتهم، أو كما يقول أحد شخصيات رواية روبنسون “نيويورك 2140” إن العلماء “خرجوا بأبحاثهم وصاحوا منذرين بالخطر، وقلة من كتاب الخيال العلمي ذوي الحنكة كتبوا تصورات مريعة لتبعات ذلك، بينما استمر الباقون يضرمون الأرض نارا غير آبهين بما يحدث!”