لا شك في أنَّ التفكير في مسائل الاجتماع السِّياسي، وطرائق تدبيره في “الـمجال العام”، على أرض الواقع إنما ينطلق من بديهية أن الإنسان “مدنيٌّ بالطبع” يجد نفسه في قلب الـجماعة الإنسانية، مضطرا إلى التعاون معها، والدِّفاع عن الـمصالح الـمشتركة التي تجمعه بها، فحيثما وجدت تلك الـمصالح الـمشتركة، ينشأ “الـمجال العام”، الذي يكون ساحة للقاء أصحاب تلك الـمصالح.
ضمن هذا السياق هناك العديد من النَّظريات الفلسفية التي تحاول أن تفسِّر كيفية نشوء الـمجال، أو الـحيز، العام: إمَّا باعتباره تجريدًا للدَّولة، وإمَّا باعتباره يشير – في حالة الـحداثة – إلى فضاء اجتماعيٍّ/ سياسيٍّ/ قانونيٍّ/ ثقافيٍّ، بصفة خاصة، وإمَّا باعتباره نتيجةً وثمرةً مباشرة لشورى الـجماعة وجدلية العمران البشري.
وذلك على اعتبار أنَّ الدَّعوة الدِّينية التي تُحدِّد الغايات النَّهائية، باتت تُشكِّلُ أمرَ الـجماعة الـمؤمنة؛ انطلاقا من القول بأنَّ الأمرَ بالـمعروف والنَّهيَ عن الـمنكر فرضُ عينٍ، والفعل السِّياسي الذي يُحدِّد الأدوات بات يُشكِّلُ أمرَ الـجماعة كذلك؛ حيث إنَّ تحقيقَ الـمعروف ومنعَ الـمنكر ليس دعوةً فحسب؛ بل هو فِعْلٌ تاريخيٌّ بأدواته السِّياسية المتاحة، على اختلاف أشكالها.
وهنا فقط ينشأ “الـمجال العام” على أساس التَّشاور والتَّنافس في العُمران البشري، وفقًا لِمبدأ التَّدافع القرآني: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّـهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾.[البقرة: 251] وذلك من أجل نقل الإنسان من منطق “التَّاريخ الطَّبيعي” – الذي تحكمه الضَّرورة والقوَّة – إلى منطق “التَّاريخ الـحضاري” الذي تحكمه الـحرية والـحُجَّة.
فالشُّورى كانت تمثِّل، في تجربتنا التَّاريخية مع السُّلطة السياسية، أحدَ تقليدين أساسيين: التَّقليدُ التَّعاقديُّ الشُّورويُّ، والتَّقليد الامبراطوريُّ أو السُّلطانِيُّ. وللتقليد الأول شواهد تأسيسية في لحظة قيام الـمجتمع السِّياسي بالـمدينة الـمنورة بعد الهجرة، كما يظهر من كتاب النَّبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بين الـمهاجرين والأنصار، والذي تصف مقدِّمته، أو ديباجته، أنَّه كتابُ “تعاقُدٍ” بين الـمؤمنين والـمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومَنْ تبعهم أو لَحِق بهم وجاهد معهم، وأنَّهم “أمَّة واحدة” من دون النَّاس؛ مما يعني أنَّهم يُعلنون إقامة مجتمع سياسي ذي تنظيمات داخلية، وأنَّهم “جماعة واحدة” تجاه الـخارج. ولا حاجة بنا إلى التَّذكير بأنَّ تعاقدًا كهذا قائم على الإرادة الـحرَّة والاختيار الكامل من جانب الـمتعاقدين، إنَّما يضعهم في موقع صاحب الـحق والسُّلطة في إدارة شؤون تعاقدِهم.
أمَّا التَّقليد الامبراطوري في فهم الـخلافة والإمامة، فنجد إشارات مبكِّرة إليه أيضًا في كلمات منسوبة إلى الـخليفة الرَّاشدي الثالث عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب إبَّان خلافتيهما. لكنَّ الأصول، أو التَّدعيمات، الثِّيوقراطية لذلك تظهر بوضوح للمرَّة الأولى في الـمسكوكات النَّقدية الأموية منذ أيام عبد الـملك بن مروان (65- 86هـ)، وفي رسائل كُتَّاب دواوين بني أمية، ثمَّ في خُطب أولئك الـخلفاء ومدائح الشُّعراء لهم، وكذلك الأمر بالنِّسبة للعباسيين الذين لَم يختلفوا في ذلك عن بني أميَّة.
ضمن هذا السياق يرصد رضوان السيد تحولين كبيرين كان لهما تأثير حاسم فيما يتعلق بمسائل السلطة والشرعية والشريعة وعلاقة ذلك كله بالمجال العام من منظور الاجتماع السياسي:
التحول الأول: انفصال الشريعة عن السياسة، ثم انقسام النُّخب الإسلامية إلى أهل السَّيف، وأهل القلم. وقد حدث ذلك إبَّان القرن الثالث الهجري بمبادرة السُّلطة الـمركزية أيام الخليفة الـمأمون، الذي لاحظ تصاعد وعي النخب العالِمة بذاتها مع انتشار مرويات من مثل: “العلماء ورثة الأنبياء“، و “الأمراء حُكَّام على النَّاس والعُلماء حُكَّام على الـملوك”، وتفسير مصطلح “أولي الأمر” في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾.[النساء: 59]، بأنَّهم أهل العلم والفقه والدِّين. ولأنَّ الزعم بخلافة اللَّه تتَّخذ من الدِّين سندًا في السَّيطرة والضبط، فقد خشي الـمأمون من زعزعة أسس سُلطتِه إن اسْتأثر العلماءُ بالدِّين، فاختار أن يخوض معهم معركة “خلق القرآن” التي اتضحت أبعادها تمامًا أيام الـخليفة الواثق (227- 232هـ) في أنَّها صراعٌ على مَنْ يلي أمر الشَّريعة تحمُّلا وحفظًا ودعوةً واستنباطًا، في سياق كان الإمام الشَّافعيُّ (ت 204هـ) قد حسمه في رسالته لصالح العلماء الـمجتهدين. وانتهى الأمر بتنحية العلماء عن الـمجال السِّياسي في مقابل استئثار الـخلفاء والأمراء بذلك الـمجال؛ فالطَّاعة للأمراء والـمرجعية في قضايا الشَّريعة للعلماء.
التحول الثاني: تمثل في جعل الـمسألة السِّياسية قصرًا على الـحُكَّام أو الواصلين للسُّلطة بالقوة. فمنذ أواخر البويهيين، مطلع القرن الـخامس الـهجري، بدأت تظهر في أدبيات السَّمَر والتَّاريخ وكتب نصائح الـملوك والفلسفة تقسيمات طبقية للمجتمع تسترشد بدثائر الفرس واليونانيات الـمنحولة، وتقول بأنَّ الـمجتمع منقسمٌ بالطَّبيعة إلى: خاصَّة وعامة، والـخاصة صنفان: الأمراء والأدباء، والعامَّة أصنافٌ تجَّارٌ وزُرَّاعٌ …إلخ. ثمَّ صارت القسمة صريحةً أيام السَّلاجقة واستمرت حتَّى أواخر أيام السَّلطنة العثمانية: هناك أهل سيفٍ، وهناك أهل قلمٍ، ثمَّ هناك العامَّة التي تشمل بقية فئات الـمجتمع.
من هنا تتأتى أهمية محاولة الإمام محمَّد عبده الـمتعلِّقة بتأكيد الطابع الـمدني للسلطة في الإسلام، وهو ما عبَّر عنه بـ “الأصل الـخامس للإسلام: قَلْبُ السُّلطة الدِّينية”. والـحال أنَّ الإمام محمَّد عبده لم يقتصر في نفيه وجود سلطة دينية في الإسلام على مسألة رفض الكهنوت فحسب؛ وإنَّما مدَّ نظاق هذا الـحكم من جانبه ليشمل السُّلطة السِّياسية في الـمجتمع الإسلامي، بحيث يصبح الـحاكم في هذا الـمجتمع حاكما مدنيًّا من جميع الوجوه. وهذا يعني أنَّ مسألة اختياره، أو عزله، إنَّما تخضع في الـمقام الأول والأخير لرأي الأمَّة، لا لِحَقٍّ إلهيٍّ في تنصيبه “فالأمَّة، أو نائب الأمَّة، هو الذي يُنصِّبه، والأمَّة هي صاحبة الـحقِّ في السَّيطرة عليه، وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، فهو حاكم مدنِيٌّ من جميع الوجوه”.