الرقمية والخلافات الزوجية : في العام 1936 أصدر “ديل كارنيجي” كتابه الشهير “كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس“وفيه نقل حكاية ذات دلالة عن أحد القضاة في “شيكاغو” الأمريكية يسمى “جوزيف سابات” المختص في الفصل في الخلافات بين الأزواج، والاصلاح بينهما، ومما ذكره القاضي أنه خلال عمله، نظر في (40) ألف خلاف زوجي، واستطاع الاصلاح بين (2000) حالة منها، أما الخلاصة التي خرج بها من تلك التجارب الطويلة، هي أن “التفاهات هي التي تقف وراء معظم التعاسة في الحياة الزوجية” وأن الأشياء البسيطة مثل تلويح الزوجة لزوجها أثناء خروجه للعمل قد يكون مانعا للطلاق.

مضى أكثر من ثمانية عقود على تلك الحكمة العميقة التي لم يلتفت إليها الغالبية العظمى من الأزواج، وتدفقت في نهر الحياة مياه وتغيرات كثيرة، وما تزال الخلافات الزوجية في تصاعد، وكذلك التعاسة بين الأزواج، وحالات الطلاق، لكن في العقدين الأخيرين، ومع تغلغل الرقمية في أنشطة الحياة، واستبدادها بالنشاط الإنساني، وتحولها إلى نافذة يطل منها غالبية البشر على الحياة، ويشكلون آرائهم من خلالها، طرأت مسببات جديدة للتعاسة مثل علاقة التأثير بين الرقمية والخلافات الزوجية.

فتش عن الرقمية في الخلافات الزوجية

الرقمية دخلت حياتنا، ولن تخرج منها، تلك حقيقة يجب التعامل معها، وهو ما يفرض تخفيف حدة التغيرات التي تشكل بها الرقمية علاقاتنا وتفاعلتنا، فالغالبية العظمى من البشر أصبحوا يملكون التقنيات الرقمية، وغالبية هؤلاء على اتصال شبه دائم مع الانترنت، هذا الاتصال، شكل عبئا على العلاقات الإنسانية خاصة الزوجية، من نواح متعددة، منها:

الوسائل الرقمية في التواصل بين الزوجين

الرقمية والخلافات الزوجية وضعف التواصل الإنساني

وجود كثافة في الاتصال لا التواصل، فالزوج  يستطيع الوصول إلى زوجه، في أي لحظة، ويعرف مكانه بالضبط، لكن التواصل الإنساني بات أقل، وذا سطحية، كما أن اختفاء الزوج أن يكون Online  أو متصلا دائما، يثير الشكوك والقلق من غيابه، ويفتح بابا للخلافات، التي تعكر صفو الحياة الزوجية، وكأن الرقمية أخضعت الزوج لرقابة دائمة .

الرقمية والوقت الأسري

غياب الحدود الفاصلة بين العمل والمنزل، فقد أوجدت الرقمية تغيرات عميقة في بيئة العمل، فلم يعد الوصول للبيت يمثل انقطاع عن العمل، ولكن فرضت تغيرات العمل أن يمتد للبيت، ويلتهم من وقته، سواء بمتابعة الرسائل الاليكترنية، أو متابعة سير أعمال معينة، فضاق الهامش الزمني المخصص للتفاعل بين الأزواج وبقية أفراد الأسرة، وطغت الرقمية على الوقت الأسري، وتنامي الشعور بالوحدة، والفراغ العاطفي.

الوباء الرقمي

تحولت الرقمية لتكون الوسيلة الأساسية للتواصل بين الأزواج أو الكثير منهم، من خلال الاتصال والرسائل، وانعكس ذلك على التواصل الإنساني المباشر، الذي ينقل الأحاسيس والمشاعر من خلال نبرة الصوت وملامح الوجه ونظرات العين، فأدى ذلك إلى تيبس العلاقة الزوجية في نصوص وإشعارات رقمية تتشابه مع ما يرسله الملايين من لبشر، وبذلك انتفت الخصوصية الزوجية، لتتشابه الخلافات، وكأنها وباء ذو أعراض واحدة.

الرقمية وتراجع نسب الزواج

تراجع قيمة الزواج في العصر الرقمي، فلم يعد الزواج حلما للشباب والفتيات لتحقيق الاشباع العاطفي والجسدي، وأنتج هذا الغياب انكماشا في المحافظة على الزواج كقيمة ومجالا مشروعا لإشباع الحاجات النفسية والجسدية، بعدما أوجدت الرقمية مسارات أخرى للإشباع كالمحادثات بين الجنسين، ومشاهدة المواقع الإباحية، ومن ثم فهناك أزمة في تشكيل الأسرة ابتداءا في تلك الأجيال التي تفتح وعيها في الطوفان الرقمي، وبالتأكيد ستنعكس على استمرار الزواج وجودة العلاقة بين الزوجين.

الرقمية والخلافات الزوجية

تشير احصاءات أن 54% من مستخدمي مواقع وسائل التواصل الاجتماعي هم من النساء، وأنهن يستخدمن تلك المواقع ضعفي استخدام الرجال، وأن المرأة إذا كانت جذابة، ستحظى باهتمام كبير، خاصة وأن أكثر من 45% من أصدقائها على تلك المواقع هم من الذكور، وأن الإعجاب الذي ستتحصل عليه سيشكل تعويضا عاطفيا عن الزواج، ومن ثم يُتوقع زيادة إدمان استخدام الهواتف الذكية[1]، وهو ما يجعل الأجيال الجديدة تعاني من أزمة في الانتقال من العالم الافتراض إلى الواقع الحياتي.

الرقمية والفردانية

عمقت الرقمية من الخصوصية، والفردانية، فالهاتف الذكي أصبح ملتصقا بصاحبه فقط، لأنه مستودع أسراره، الذي لا يرغب أن يطلع عليه أحد غيره، هذه الخصوصية الشديدة أعطت مساحة كبيرة للتجاوزات في العالم الافتراضي، وخصوصية لاخفائها، خاصة إذا ادركنا أن استطلاعات للرأي تؤكد أن 50% من المتزوجين يلعب الهاتف الذكي دورا رئيسيا في حياتهم.

الرقمية ومفتاح الحلول للخلافات الزوجية

وحسب إحصاءات أخرى، فإن 70% من الأزواج الذين يقضون وقتا طويلا أمام الشاشات هم أقل سعادة في زواجهم، وأن تلك التعاسة ترجع إلى عاملين، أولهما: أن علاقتهم الزوجية أقل، وبالتالي يوجد حرمان عاطفي وجسدى أعلى، ويكون التعويض-في كثير من الحالات- من خلال الانغماس أكثر في الرقمية، والانتقال من إهدار الوقت الطويل أمام الشاشات الرقمية، إلى الانجرار لانحرافات مؤلمة كالابتزاز والتنمر والخيانة الزوجية ومشاهدة المواقع الاباحية، وثانيهما: أن ذلك الانغماس وتلك الانحرفات تعيد انتاج التعاسة، ليدور الزواج في حلقة من الانغماس الرقمي والتعاسة، وصولا إلى الطلاق.

الرقمية وتجاهل الشريك

أوجدت الرقمية ظاهرة جديدة في حياة بعض الأزواج، وهي تجاهل شريك الحياة، والانشغال عنه انشغالا تاما باستخدام الهاتف الذكي، وتمسى هذه الظاهرة الجديدة [2]Phubbing، وتكشف تلك الظاهرة عن وجود حالة إدمان للرقمية، أو خضوع أحد طرفي العلاقة الزوجي للاستخدام القهري للرقمية، وهي حالة تٌفقد الزواج حالة الرضا والسعادة والمودة والسكن التي من المفترض أن تظلل البيت، وذكرت استطلاع أمريكي للرأي أن 37% من الزوجات يكن مشغولات بالهاتف عندما يكن في حديث مع أزواجهن، وأن هذه النسبة تزيد إلى 44% في الأسر المنخفضة الدخل.

نظرية انتهاك التوقع

وتؤكد إحدى النظريات الاتصالية الحديثة، وهي نظرية انتهاك التوقع Expectancy violations theory‏ أن لدى الأفراد توقعات بشأن سلوكيات الآخرين أثناء التفاعلات بينهم، وإذا ما أدرك الفرد أن شخصا ما ينتهك تلك التوقعات، فإن ذلك يؤدي إلى ردود فعل سلبية، وإذا طبقنا تلك النظرية على استخدام أحد الزوجين لهاتفه أثناء الحديث بينهما بصورة تنتهك توقعات الطرف الآخر، فمن المتوقع أن ينتج عن ذلك إحباطات وردود أفعال سلبية، وقد يلجأ ذلك الشخص المحبط إلى البحث عن ميزة تعويضية لتلك العلاقة الزوجية المأزمة، وقد يكون بالانغماس في الرقمية لتعويض ذلك الحرمان وصولا للرضا النفسي، وهنا تقدم الرقمية نفسها كبديل تعويضي قادر على تلبية تلك الحاجات النفسية.

نبش الماضي

أتاحت الرقمية لكل شخص أن ينبش تاريخ أي شخص ويصل لماضيه، فالرقمية تحتفظ بكل ما كتب عليها، ما دام أنه لم يلغها، هذه الذاكرة الشاملة للرقمية مكنت كل طرف في العلاقة الزوجية أن يتتبع تاريخ وماضي الطرف الآخر، بل ويحاسبه على أخطائه، ويتخذ من تلك الأخطاء القديمة ذريعة لمشاكل جديدة في الحياة الزوجية.

الرقمية والمقارنات

بثت الرقمية شعور المقارنة، فالكثير لا يكتم لحظات سعادته، ويصدرها مباشرة لأصدقائه على وسائل التواصل الاجتماعي، وهي لحظات في الغالب سعيدة مبهرة ذات بهجة، لكن تلك اللحظات قليلة المكوث ومن الصعب أن تكون في الصفة الدائمة للحياة، فاشتعلت المقارنات التي يعقدها أحد الأزواج  وبين شريكه وين ما يشاهده في العالم الرقمي.

إذا كانت الرقمية هي قدر الإنسان المعاصر الذي لا يستطيع الفكاك منها، فإن التسليم لها بأن تفعل بذلك الإنسان ما تشاء، هو ركون وقعود عن مواجهة سلبياتها وأضرارها، تلك الأضرار التي أخذت تعشعش في أهم مؤسسة في التاريخ الإنساني، وهي الأسرة.