لُبْنى سعيد
“عامِل الآخرين كما تحبُ أن يعاملَك الآخرون” إنها “القاعدة الذهبية” التي أقرّها الفلاسفة؛ وأخذها عنهم علماء الاقتصاد في العصر الحديث.
ويوضح لنا كل من “Douglas J.Dalrymple و “Willian L.Cron” أشهر أساتذة التسويق في الجامعات الأمريكية في كتابهما “إدارة المبيعات .. مبادئ وحالات” أن هذه “القاعدة الذهبية” تساعد المرء أن يحدد كيف يريد أن يعامله الآخرون في المعاملات التجارية، وبناءً على ذلك يعاملهم بنفس الطريقة.
وقد استهل المؤلفان حديثهما بكلمة للقديس “Francis de Sales” يقول فيها: “اجعل نفسك بائعًا عندما تشتري، ومشتريًا عندما تبيع، وعندئذ ستشتري وتبيع بالعدل والحق”؛ ولأن المرء بطبيعة الحال يطمع في المزيد من الخير لنفسه، فباتباع كلمة “القديس” عندئذ ستشتري وتبيع بـ “سماحة”.
ومرادف كلمة “سماحة” في الثقافة الغربية هو جمع بين كلمتي : ““Magnanimity و”Generosity” أي “الكرم” و “الشهامة” وعلى الرغم من نبل هذه المعاني إلا أن مفهوم السماحة له معانٍ ودلالات أعمق وأوسع من ذلك بكثير في التراث العربي والشرع الإسلامي.
ففي اللغة تأتي السماحة بمعنى “الجود والكرم” ، ويقال” عود سَمْح” أي العود الذي لا عقدة فيه، والملة السمحة “هي الملة التي ما فيها ضيق. فهذه الكلمة قليلة الأحرف ولكنها تحمل الكثير من الصفات والأخلاق، أهمها الكرم والتيسير وطيب النفس والإيثار.
أشكال السَّماحة
وقد روي عن الرسول -ﷺ- قوله: “رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى. رواه البخاري وابن ماجه واللفظ له.
والسماحة في البيع قد تظهر في أوجه مختلفة؛ كتخفيض السعر لذي الحاجة لسلعة لا يمتلك ثمنها كاملاً .. أو إمهاله وقتًا لأداء حقها، أو إعطائه المزيد حتى تتم له الكفاية.
أما السماحة في الشراء فلعل أبرز مثال عليها هو “بيع المضطر” ، فإذا كان أحدهم “مضطرًا ” لبيع ما يملك لضائقة مرّت به، فإن السوق الذي تحكمه قوى العرض والطلب قد يُغري المشتري بشرائها بأقل من ثمنها، وإن كان عادلاً فسيشتريها بسعر السوق المتعارف عليه أما إذا كان سمحًا فسيشتريها بأكثر من سعرها قدر المستطاع ليساعد المضطر!
وهناك أيضًا السماحة في الاقتضاء، فقد روي عن أبي هريرة: أن رجلاً أتى النبي – ﷺ – يتقاضاه، فأغلظ له (أي للنبي) ؛ فهم به أصحابه، فقال رسول الله – ﷺ- “دعوه، فإن لصاحب الحق مقالاً، ثم قال: “أعطوه سنًا مثل سنه” (أي من الإبل) قالوا: يا رسول الله، لا نجد إلا أمثل من سنه، قال: “أعطوه، فإن خيركم أحسنكم قضاءً”. رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.
ومن السماحة إنظار المدين المعسر، وإعطاؤه فرصة أو أكثر، حتى يرتب أموره، ويقدر على الوفاء بالتزامه، قال تعالى: ]وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون[ ومعنى “تصدقوا” تنازلوا عن بعض الدين أو كله.
والمرء لا يقوم بعمليات البيع والشراء والاقتضاء في المعاملات التجارية المادية فحسب، بل إن واقع الأمر يقول إن كل منا يقوم بعمليات تبادل المنفعة – فيما يشبه البيع والشراء والاقتضاء – طيلة يومه؛ كتبادل الخبرات والمعلومات وغيرها من التعاملات المعنوية والفكرية التي نغفل عن كونها شكلاً من التجارة المتبادلة رغم ما فيها من ربح.
وأخيرًا نصل إلى السماحة في علاقة الخلق بالخالق؛ إذ لا يقتصر خلق السماحة على دائرة التعاملات البشرية الدنيوية بل يمتد إلى عقد الصفقات والتعاملات مع الله – عز وجل – في الحياة الدنيا والآخرة. والله -جلّ في علاه – يعلمنا ذلك حين يحدثنا عن تجارتنا معه سبحانه فيقول: [ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله] و [إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة] و [من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له] .
فرأينا هنا عملية البيع والشراء والاقتضاء في المتاجرة مع الله عز وجل. ورغم أن النفس والمال من عند الله إلا أنه – سبحانه وتعالى- يجازي بائعهم له بالجنة.. فيرد على سماحة البيع بسماحة الشراء، كما يرد القرض بأضعافه. وقد جُعل القبول والسماح شرطًا لصحة أي عقد. بدءًا من العقد مع الله – عز وجل- الذي لا يقبل العمل إلا بالنية السمحة لوجهه الكريم، إلى عقد البيع والشراء في المعاملات التجارية، إلى عقد الزواج وغيره من العقود التي تربط العلاقات الإنسانية.
آثار السماحة على الفرد والمجتمع
العاقل هو من يزن نتيجة أفعاله قبل القيام بها، واتباع خلق مثل السماحة في البيع والشراء يمكن أن تقاس نتائجه في الآتي:
-كفاءة الأداء في العمل: جزء من حرص التاجر على سماحة الخلق هو تعيينه لأفراد ذوي نفس المبادئ والأخلاق وبذلك يضمن أمانتهم وكفاءتهم في العمل.
– إرضاء العميل أو المستهلك: في ظل ما يشهده الاقتصاد العالمي من تحرر وانفتاح فقد أصبح المستهلك هو سيد الموقف؛ أمامه البضائع المختلفة وله الخيار أن يشتري ممن يشاء، وبالطبع سيفضل من يحسن معاملته.
-تحقيق أهداف العمل التجاري: من كسب.. وكثرة العملاء.. وسمعة طيبة توعد بالمزيد.
فالسماحة باعتبارها خلقًا وقيمة تجعل من السوق -جوهر الاقتصاد- الذي تكثر فيه الشياطين، ومن أسوأ الأماكن عند الله كما تروي الأحاديث- تجعل هذه السوق تحكمه القيم والأخلاق ولا تحكمه قوانين العرض والطلب فقط والتي تنتفي فيها الأخلاق.
هذا فيما يخص الحسابات التجارية في الحياة الدنيا، أما الجزاء الأوفى فيكفينا رواية حذيفة – رضي الله عنه- عن رسول الله “أتى الله بعبد من عباده أتاه الله مالاً ، فقال له: ماذا عملت في الدنيا -قال: ولا يكتمون الله حديثًا- قال يا رب: آتيتني مالاً، فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي الجواز (التسامح) فكنت أيسر على الموسر، وأنظر (أؤخر) المعسر، فقال الله تعالى: أنا أحق بذلك منك، تجاوزوا عن عبدي”. رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
وهكذا السماحة.. تراحم في الدنيا بين العباد، ورحمة في الآخرة من رب العباد.