كان الشيخ عبد الحميد بن باديس شديد الاحتفاء بالسنة النبوية الشريفة، يرى بأن الاحتفاء بها والاشتغال بعلوم الحديث من العلامات البارزة للحركة الإصلاحية التي أقام دعائمها، ووطد بنيانها، ووصل ليله بنهاره وبياضه بسواده، من أجل التمكين لها والذود عنها، تقرباً إلى الله وخدمة للأمة الإسلامية. ويرى أن السنة النبوية هي مصدر للدعوة إلى الله، والفقه والتشريع ويدعو للعمل على وصل الفقه بالحديث.
1. السنة النبوية مصدر للدعوة
كان الشيخ عبد الحميد بن باديس يحمل رؤيتة الشمولية عن الدعوة إلى الله عزَّ وجل، فكتب عند تفسيره، لقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف : 108] كلاماً نفيساً عن الدعوة إلى الله كيف تكون، وعن ماهية الدعوة.
فقال رحمه الله: فمن الدعوة إلى الله: دروس العلوم مما يفقه في دين الله ويعرف بعظمة الله واثار قدرته ويدل على رحمة الله، وأنواع نعمته، فالفقيه الذي يبين حكم الله وحكمته داع إلى الله، والطبيب المشرح الذي يبين دقائق العضو ومنفعته داع إلى الله، ومثلهما كل مبين في كل علم وعمل.
– ومن الدعوة إلى الله: بيان حجج الإسلام ودفع الشبه عنه ونشر محاسنه بين الأجانب ليدخلوا فيه وبين مزعزعي العقيدة من أبنائه ليثبتوا عليه.
– ومن الدعوة إلى الله: مجالس الوعظ والإرشاد والتذكير لتعريف المسلمين بدينهم وتربيتهم في عقائدهم وأعمالهم على ما جاء به، وتحبيبهم بيان ما فيه من خير وسعادة لهم، وتحذيرهم مما أدخل من محدثات عليه، وهي سبب كل شقاوة وشر لحقهم، وبيان أنه لولا عقيدته المتأصلة فيهم وبقاياه الباقية لديهم ومظاهره القائمة بهم لما بقيت لهم.
– ومن الدعوة إلى الله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو فرض عين على كل مسلم ومسلمة بدون استثناء، وإنما يتنوع الواجب بحسب رتب الاستطاعة، فيجب باليد وإن لم يستطع فباللسان، فإن لم يستطع فبالقلب وهو أضعف الإيمان وأقل الأعمال في هذا المقام.
– ومن الدعوة إلى الله: ظهور المسلمين ـ أفراداً وجماعات ـ بما في دينهم من عفة وفضيلة، وإحسان ورحمة، وعلم وعمل، وصدق وأمانة، فذلك أعظم مرغِّب للأجانب في الإسلام، كما كان ضده أعظم منفِّر لهم منه، وما انتشر الإسلام أول مرة بين الأمم إلا لأن الداعين إليه كانوا يدعون بالأعمال كما يدعون بالقول، وما زالت الأعمال غباراً على الأقوال.
– ومن الدعوة إلى الله بعث البعثات إلى الأمم غير المسلمة ونشر الكتب بألسنتها وبعث المرشدين إلى عوام الأمم المسلمة لهدايتهم وتفقيههم. كل هذا من الدعوة إلى الله ثابتة أصوله في سنة النبي (ﷺ) وسنة السلف الصالح من بعده.
وقد وجد الشيخ ابن باديس ـ رحمه الله ـ في السنة النبوية الشريفة القولية والفعلية والتقريرية مصدراً متميزاً ومادة حيوية في عمله الدعوي، فكان كثير العودة إلى السنة النبوية إذا أراد أن يحارب فكرة خاطئة أو يصحح وضعاً شاذاً، أو يدعو المسلمين إلى أمر جديد نافع، وأنه بهذا العمل كان يقوم بدور التأسيس والتأصيل لما يدعو إليه، ولأنه كان يعلم علم اليقين بأن عموم المسلمين، لما يؤصل لهم ما يدعوهم إليه؛ فإنه يكون أدعى للقبول عندهم ومن الأمثلة على ذلك:
(حق النساء في التعلم)
لقد أدرك ابن باديس رحمه الله أنه لا يمكن إحداث تغيير في الأعراف والعادات الجاهلية، وهي أعراف نافذة، وعادات محكمة ؛ ليس من اليسير تجاوزها أو العمل بخلافها، لأن أعداء الفكرة يهيجون العوام ضد الرجل وفكره، فلم يجد الشيخ ابن باديس فرصة مواتية للدعوة إلى تغيير هذا الواقع البئيس أحسن من الاستناد إلى سنة النبي (ﷺ).
فأورد حديث البخاري، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قالت النساء للنبي (ﷺ): غلبنا عليك الرجال اجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن، فكان فيما قال لهن، ما منكن امرأة تقدم ثلاثاً من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار. فقالت إمرأة واثنين؟ قال واثنين.
ودعا صراحة إلى تعليم المرأة، لأن المجتمع لا ينهض إلا بالجنسيين معاً، مثل الطائر لا يطير إلا بجناحيه معاً، فقال: النساء شقائق الرجال في التكليف، فمن الواجب تعليمهن، وقد علمهن (ﷺ) وأقرهن على طلب التعليم.
ولم يكتف رحمه الله بالدعوة إلى تعليم المرأة، بل دعا صراحة إلى خروجها إلى المساجد، لتشهد الخير وتتفقه في الدين، وتكون معولاً للبناء، وأداة للإصلاح في المجتمع، فأورد حديث مسلم في صحيحه بسنده عن سالم ابن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله (ﷺ) يقول: لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنّكم إليها، قال: فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن قال فأقبل عليه عبد الله فسبَّه سباً سيئاً ما سمعت سبَّة مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وتقول: والله لنمنعهن.
2. السنة النبوية مصدر للفقه والتشريع والعمل على وصل الفقه بالحديث:
كتب ابن باديس يقول: وإذا رجعت إلى موطأ مالك سيد أتباع التابعين، فإنك تجده في بيان الدين قد بنى أمره على الآيات القرآنية، وما صح عنده من قول النبي (ﷺ) وفعله، وما كان من عمل أصحابه الذي يؤخذ منه ما استقر عليه الحال آخر حياته، لأنهم كانوا يأخذون بالأحداث والأحداث من أمره وكذلك إذا رجعت إلى كتاب الأم لتلميذ مالك الإمام الشافعي، فإنك تجده قد بنى فقهه على الكتاب وما ثبت عنده من السنة، وهكذا كان التعلم والتعليم في القرون الفضلى مبناهما على التفقه في القرآن والسنة.
وعليه، فلقد كان من الطبيعي أن يغتنم الشيخ عبد الحميد بن باديس فرصة شرحه للسنة النبوية الشريفة، لمد جسور التواصل بين علمي الحديث والفقه والرجوع بالتعليم إلى ما كان عليه من عهوده الزاهرة منطلقاً من التفقه في الكتاب والسنة وربط الفروع بالأصول، وبالتالي التحرر من ربقة التقليد والتعصب. ومن أمثلة شرحه لأحاديث السنة النبوية الشريفة:
(إنما الأعمال بالنيات)
عند شرحه لحديث الصحيحين: ” إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرأئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه”.
قسم الأعمال إلى طاعات ومخالفات: فالطاعات بقسميها «الوجوب والاستحباب»، تؤثر فيها النية بالقبول والرد، وكذلك المباحات فإنما تؤثر فيها النيات فتقلبها طاعة أو معصية. وأما المخالفات وهي كل ما نهى الله عنه فحرمه أو كرهه، فهذه لا تؤثر فيها النيات ولا تقلبها إلى طاعات، لأنها في نفسها عمل غيرصالح، فقصد الشارع إلى تركها وعدم وجودها، فإذا وجده المكلف يكون قد عمل بنقيض مقصود الشارع.
وعلق على هذا الحديث فقال: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرأئ ما نوى ـ قاصدين إلى تبريرها غير ملتفتين إلى كونها من قسم الطاعات أو المخالفات أو المباحات، وكثيراً ما يرتكبون البدع كدعاء المخلوقات وكالحج إلى الأضرحة وإيقاد الشموع عليها والنذر لها، وكالرقص وضرب الدف في بيوت الله وغير هذا من أنواع البدع والمنكرات ويتوكؤون في ذلك كله على: إنما الأعمال بالنيات.
كلا ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب فإن البدع كلها من قسم المخالفات وإن المخالفات لا تنقلب طاعات بالنيات.