سُنن الله تعالى وإرادته وأقداره
وإذا كان القدَر مجموع الأوامر ومجمل الأحكام الإلهية التي وقع تقديرها وحسابها ووضعها ضمن خطة مضبوطة قياما لوظيفة الخلافة الربانية ([2])، فإن استيعاب الخطة وتنفيذها وتجسيدها على أرض الواقع بمراحلها المختلفة لا يتم إلا عبر مستلزمات…. هذه المستلزمات هي السنن الإلهية. من هذا المنظار يمكن تشبيه العلاقة بين القدر و السنن الإلهية بمصطلحين معاصرين : الفكرة والتصميم الفكرة هي المرادف المشبه للقدَر، والتصميم هو المرادف المشبه للسنن الإلهية. صاحب المشروع والمخطط له: الحق تعالى. ومصمم المشروع ومهندسه: الحق تعالى . والتصميم: مجموع السنن الإلهية التي تستوعب المخطط ،وبها يكون التنفيذ على أحسن وجه. هذا إذا نظرنا إلى مسألة السنن الإلهية من زاوية مشروع الخلافة الربانية، أما إذا نظرنا إليها من زاوية موازاتها بالنظريات العلمية والقوانين الطبيعية، فسيتراءى أن السنن الإلهية بمثابة القوانين الربانية والنواميس المطردة الممثلة والمجسدة واقعا لقدر الله تعالى؛ وأن القدر هو روح تلك القوانين والنواميس وجامعها في إطار واحد خدمة لقضية واحدة. ([3])السُنن الإلهية والتوكل
علمنا الحبيب المصطفىr كيف نتوكل على الله في كل أمور الحياة ،وتسليم الأمور كلها للخالق ، الرازق واهب الحياة . وقد تعددت وتنوعت توجيهات ووصايا رسول الله r لدفع المسلم إلى عقيدة التوكل حتى يجني مكاسبها ويستفيد من عطائها، فالمسلم المتوكل على الله توكلاً صحيحا غير مختلط بالتواكل سيعيش حياته راضياً قانعاً مطمئناً يضع نصب عينيه دائماً أن الله عز وجل الذي يقدر له الخير والشر يحب المتوكلين ،كما أخبرنا سبحانه في كتابه العزيز، وأن كل ما يصيب الإنسان مكتوب ومقدر، وشأن المسلم دائما أن يردد قول الحق سبحانه {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51] ، فالتوكل على الله هو أبرز صفات وخصائص المؤمنين الصادقين، يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] . ([4]) ويزعم البعض أنه من تمام التوكل ترك الأسباب ، وأن من تمام التوكل أن لا يحمل المتوكل الزاد في سفره فيدخل إلى الصحراء بلا زاد ولا ماء اتكالاً على الله تعالى . قال ابن تيمية: (إن الله تعالى خلق المخلوقات بأسباب ، وشرع للعباد أسباباً ينالون بها مغفرته ورحمته وثوابه في الدنيا والآخرة . فمن ظنَّ أنه بمجرد توكله مع تركه ما أمره الله به من الأسباب يحصل مطلوبه وأن المطالب لا تتوقف على الأسباب التي جعلها الله أسباباً لها فهو غالط) ([5]) . فالقيام بالأسباب محض العبودية . وليُعلم أن تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل ، بل إن التوكل نفسه من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب ويندفع بها المكروه ، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل . ([6]) فالتوكل هو الاعتماد الكامل على الله يقول الرسول r ( لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً ) ([7]). فهذا دليل على مشروعية العمل للكسب والأخذ بالأسباب. قال رجل يا رسول الله : ( أعقلها ـ أي ناقته أو بعيره ـ وأتوكل؟ أو أطلقها وأتوكل؟ قال : اعقلها وتوكل ) ([8]) فالصادق في توكله هو من يباشر الأسباب للحصول على مقصوده . إذا فهمنا التوكل بهذا الفهم فلن يتعارض تعليق التمكين بمشيئة الله مع وجود الأسباب والأخذ بها؛ لأن النواميس التي تصرِّف هذا الوجود كله صادرة عن المشيئة المطلقة، وقد أرادت هذه المشيئة أن تكون هناك سنن لا تتخلف؛ وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات، والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثرات خارجية، هي الأسباب الأرضية، وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الربانية الطليقة، فمن تلمسها تحققت له السيادة، ومن ضيعها ضاع في ركام الدنيا وبات لا يساوي شيئًا. ([9])السُنن الإلهية والتقوى
قال تعالى : (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ ، بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ) [آل عمران : 125 ] . فمدد الملائكة للمؤمنين كان بسبب تقواهم ؛ لأن صبرهم من جملة تقواهم ؛ لأن التقوى كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى : “التقوى تجمع فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه”([10]) ، والصبر من جملة ما أمر الله به. ثم إن مدد الملائكة للمؤمنين لتحقيق نصرهم على الكفار ، فكانت التقوى ـ تقوى الله ـ من العوامل المؤكدة لنصر المؤمنين حسب سنّة الله تعالى ([11]). وقد بين القرآن العظيم أن من سنن الله تعالى التي أجرى نظام المجتمع في ظل سلطانها أنه إذا اعتصم المجتمع أي مجتمع بحبل الإيمان ، واستمسك بالتقوى ، واستقام في منهج حياته على طريق الخير والحق تنزلت عليه بركات الله ورحماته وإنعاماته من السماء ، وتفتحت له الأرض عن خيراتها وكنوزها فقال {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96]، أما إذا أمالت بهم شهواتهم عن مهيع الإيمان والاستقامة فإن الله تعالى يأخذهم بذنوبهم وإفسادهم في الأرض ولهذا اختتمت الآية بهذا الإنذار المرعب والإخبار المهلك {وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }[الأعراف: 96] . ([12])السُنن الإلهية والخوارق
الخوارق، هناك لله سبحانه وتعالى -قال العلماء- سنن جارية وهي المعروفة بين الناس بما يعرف بالقوانين وهناك سنن خارقة وهي استثنائية، الأصل في حياة الناس هي السنن الجارية، السنن الخارقة تأتي لتأييد نبي كمعجزة وتأتي لتأكيد أو مساندة ولي ككرامة وهذه موجودة في القرآن الكريم فيما يتعلق بالأنبياء مثل قال الله سبحانه وتعالى {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}[الأنبياء:69، 70] ،فمعروف أن النار تأكل الإنسان وتقضي على الأوكسجين ويموت الإنسان ولكن هذه معجزة لإبراهيم عليه السلام لإقامة الحجة على قومه، مثل أيضا {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، َأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ، وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ}[الشعراء:63- 65] فكون أن العصا بضربة من سيدنا موسى عليه السلام ينفلق البحر ويكون كل فرق كالطود العظيم كالجبل العظيم فهي معجزة من معجزات الله سبحانه وتعالى أجراها على يد موسى عليه السلام، ومثل يونس عليه السلام في أعماق البحر في بطن الحوت لما قال الله سبحانه وتعالى {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}[الأنبياء: 87، 88] فكون السنن الخارقة موجودة وأجراها الله سبحانه وتعالى. ([13]) (وإذ فرقنا بكم البحر) أي: واذكروا من نعمنا عليكم إذ فرقنا بكم البحر فجعلنا لكم فيه طريقا يبسا سلكتموه في هربكم من فرعون (فأنجيناكم) بعبوره من جانب إلى آخر (وأغرقنا آل فرعون) إذ عبروا وراءكم (وأنتم تنظرون) ذلك بأعينكم، لولاه لعظم عليكم خبر غرقهم ولم تصدقوه. (قال الأستاذ الإمام) : فلق البحر كان من معجزات موسى. وقد قلنا في ” رسالة التوحيد “: إن الخوارق الجائزة عقلا، أي التي ليس فيها اجتماع النقيضين، ولا ارتفاعهما لا مانع من وقوعها بقدرة الله – تعالى – في يد نبي من الأنبياء، ويجب أن نؤمن بها على ظاهرها، ولا يمنعنا هذا الإيمان من الاهتداء بسنن الله – تعالى – في الخلق واعتقاد أنها لا تتبدل ولا تتحول، كما قال الله في كتابه الذي ختم به الوحي، على لسان نبيه الذي ختم به النبيين، فانتهى بذلك زمن المعجزات، ودخل الإنسان بدين الإسلام في سن الرشد، فلم تعد مدهشات الخوارق هي الجاذبة له إلى الإيمان وتقويم ما يعرض للفطرة من الميل عن الاعتدال في الفكر والأخلاق والأعمال، كما كان في سن الطفولية (النوعية) بل أرشده – تعالى – بالوحي الأخير (القرآن) إلى استعمال عقله في تحصيل الإيمان بالله وبالوحي، ثم جعل له كل إرشادات الوحي مبينة معللة مدللة حتى في مقام الأدب (كما أوضحنا ذلك في رسالة التوحيد) . فإيماننا بما أيد الله – تعالى – به الأنبياء من الآيات لجذب قلوب أقوامهم الذين لم ترتق عقولهم إلى فهم البرهان، لا ينافي كون ديننا هو دين العقل والفطرة، وكونه حتم علينا الإيمان بما يشهد له العيان، من أن سننه – تعالى – في الخلق لا تبديل لها ولا تحويل. ([14])السُنن الإلهية والشرك
إن ما وقع فيه العرب ومن قبلهم يقع فيه غيرهم بعدهم إذا ما جهلوا مثلهم أصول الدين وبالغوا في التبرك بالصالحين؛ فإن الله يقول: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 23]، وعلماء الاجتماع يقولون: ” التاريخ يعيد نفسه “، والمتكلمون يحكمون بأن ” ما جرى على المثل يجري على المماثل “؛ فإذا كان مجموع المسلمين قد انتهوا في الدين إلى جهالة المشركين؛ فمحاولة تبرئتهم من الشرك غش وتضليل، وجحد للشريعة وتعطيل. ([15]) يقول الله عزوجل :{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً}أي إنه سبحانه سيحكّم في أعدائكم الكافرين سننه ويلقى في قلوبهم الرعب بسبب إشراكهم بالله أصناما ومعبودات لم يقم برهان من عقل ولا نقل على ما زعموا من ألوهيتها، وكونها واسطة بين الله وخلقه، وإنما قلدوا في ذلك آباءهم الذين ضلوا من قبل، ومن ثم كانوا عرضة لاضطراب القلب، وإتباع خطوات الوهم، فهم يعدّون الوساوس أسبابا، والهواجس مؤثرات وعللا، ويرجون الخير مما لا يرجى منه الخير، ويخافون مما لا يخاف منه الضّير. وفى الآية إيماء إلى بطلان الشرك،وسوء أثره في النفوس،إذ طبيعته تورث القلوب الرعب،باعتقاد أن لبعض المخلوقات تأثيرا غيبيا وراء السنن الإلهية، والأسباب العادية، فالمشركون الذين جاهدوا الحق،وآثروا مقارعة الداعي ومن استجاب له بالسيف،بغيا وعدوانا يرتابون فيما هم فيه ويتزلزلون إذا شاهدوا الذين دعوهم ثابتين مطمئنين،ولا يزال ارتيابهم يزيد حتى تمتلئ قلوبهم رعبا ([16]).السُنن الإلهية والدعاء
إن الدعاء من أعظم ما يستعين به المؤمن على تحقيق مطلوبه وتحصيل مبتغاه ، وليس أعظم من الهداية يسألها المؤمن من ربه تبارك وتعالى ، كما أرشدنا الله عز وجل في الحديث القدسي “يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهد وني أهدكم “وقد بين ابن تيمية رحمه الله السر في دعاء المسلم ربه الهداية في كل ركعة من ركعات الصلاة بقوله {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم} [ الفاتحة :5]، حيث قال :” ولما كان العبد في كل حال مفتقرا إلى هذه الهداية ، الهداية إلى الصراط والهداية فيه،ـ في جميع ما يأتيه ويذره من أمور قد أتاها على غير الهداية فهو محتاج إلى التوبة منها ، وأمور هُدي إلى أصلها دون تفصيلها ، أو هدي إليها من وجه دون وجه ، فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها ليزداد هدى ، وأمور هو محتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها في المستقبل مثل ما حصل له في الماضي ، وأمور هو خال عن اعتقاد فيها هو محتاج إلى الهداية فيها ، وأمور لم يفعلها فهو محتاج إلى فعلها على وجه الهداية ، إلى غير ذلك من أنواع الهدايات ، فرض الله عليه أن يسأله هذه الهداية في أفضل أحواله ، وهي الصلاة ، مرات متعددة في اليوم والليلة ” ([17]) . فهذا يونس عليه السلام وهو في شدة الكرب والهم والغم دعا هذا الدعاء قال تعالى:{وَذَا النُّون إِذْ ذهب مغاضبا فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَات أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين}[ الأنبياء : 87]، فاستجاب الله له قال سبحانه:{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} أي الكرب والضيق الذي كان فيه { وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي وهذا صنيعنا بكل من دعانا واستجار بنا.الكزرى العربي5>