“السنن الإلهية” هي الطرق أو القواعد أو القوانين المنسوبة إلى الله تعالى فيما يخص معاملته سبحانه لعباده، وعلى نحو ثابت مطَّرد؛ إنْ ثوابًا لهم على الطاعة والاستقامة، أو عقابًا على المعصية والانحراف([1]).
وقد اهتم القرآن الكريم بتناول السنن الإلهية، والتنبيه إليها، وفصَّل القول في بعضها؛ وجاءت السنة النبوية أيضًا، القولية والعملية، لتتناول السنن الإلهية، ولتنبِّه إليها، وتفصِّل بعضها؛ وذلك حثًّا للعقل المسلم على التدبر والتفكر في مراد الله تعالى من الناس، خَلقًا وتوجيهًا وتشريعًا وتأديبًا؛ فإن الإنسان لم يُخلَق عبثًا، ولن يُترك سُدى، ولا يَمضِي على غير هُدى؛ وإنما الإنسان قد وُضِع له منهج، ورُضِيَ له دين، ورُصِدَ له طريق؛ فمن اهتدى واتبع فلنفسه، ومن تنكب وخاب فعليها: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46).
ويمكن أن نوضح مكانة السنن الإلهية في السنة النبوية([2])، من خلال نقطتين:
أولاً: السنن الإلهية في السنة النبوية القولية:
ورد لفظ “السنة” في السنة النبوية القولية في عدة مواضع، وبعدة دلالات، منها:
أ- ورود لفظ “السنة” في السنة النبوية القولية مضافًا إلى الحسنة والسيئة:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ”([3]).
ففي هذا الحديث النبوية ورد لفظ السنة دالاًّ على مجرد الطريق، وليس ممدوحًا لذاته، وإنما أخذ حكمه مما أضيف إليه، فإذا كان الطريق حسنًا كانت السنة حسنة، وإذا كان الطريق سيئًا كانت السنة سيئة.
ب- ورود بعض السنن الإلهية في السنة النبوية القولية:
- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ”، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: “فَمَنْ”([4]).
فهذا الحديث قد وردت فيه ما يكون في سنن التراجع والانهزامية- أي قانون التراجع الحضاري- من التقليد والاتباع الأعمى، والانسياق خلف كل ناعق.
- عن أَنَسِ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: “أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي”([5]).
ففي هذا الحديث بيان لسنة الوسطية، التي هي قانون عام يطبع الأمة بطابعه في جميع تصرفاتها. ومن يخرج عن هذه السنة أو القانون، يمينًا أو يسارًا، إفراطًا أو تفريطًا، يخرج عن الصراط المستقيم الذي رضيه الله تعالى لعباده.
ثانيًا: السنن الإلهية في السنة النبوية العملية:
إذا كانت السنة النبوية تشمل أقوال النبي ﷺ وأفعاله وتقريراته؛ فإنه أفعاله ﷺ كانت نابعة ومتسقة مع السنن الإلهية، وجاءت تطبيقًا عمليًّا لها.
ويمكن أن نلاحظ ذلك في عدة أمور، منها:
أ- سنة الجزاء وعدم المحاباة:
عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214)، قَالَ: “يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ- أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا”([6]).
فهذا موقف عملي من النبي ﷺ يبيّن سنة الجزاء وعدم المحاباة، حتى مع أقرب الناس إليه ﷺ؛ فمن يعمل خيرا جُزي خيرًا، ومن يعمل سوءًا جُزي به.
ب- سنة السَّببية:
عن جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرْسِلُ نَاقَتِي وَأَتَوَكَّلُ؟ قال: “اعقلها وتوكل”([7]).
فالأخذ بالأسباب واجب، ولا ينافي التوكلَ؛ كما أن التوكل واجب ولا يعني تركَ السبب.. فالتوكل عمل القلب، والأخذ بالأسباب عمل الجوارح؛ ولا منافة بين العملين.
ت- سنة النجاة:
عن النُّعْمَانِ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا”([8]).
فسنة النجاة، كما يبينها الحديث الشريف، تستلزم التعاونَ على فعل الخير، والتكاتفَ على منع الأذى، وعدمَ السماح لمن يسلك سبيل الفساد أو الجهل، بالمُضِيّ فيما نتيجته الهلاك المحتم.
ج- سنة النصر والهزيمة:
عن الْبَرَاءِ قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرُّمَاةِ يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلًا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، وَقَالَ: «إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطِفُنَا الطَّيْرُ، فَلَا تَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ لَكُمْ؛ وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ، فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ». قَالَ: فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ. قَالَ: فَأَنَا وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يُسْنِدْنَ عَلَى الْجَبَلِ، فَقَالَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ الْغَنِيمَةَ- أَيْ قَوْمِ الْغَنِيمَةَ- ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنَ الغَنِيمَةِ. فَأَتَوْهُمْ، فَصُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ وَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ([9]).
ففي غزوة أحد، حينما خالف الرماةُ أمر النبي ﷺ بعدم ترك الجبل، مهما حدث في المعركة؛ فجلبوا الهزيمة للمسلمين في الغزوة. فهنا سرت سنة النصر والهزيمة، أو قانون النصر والهزيمة، على من أخذ بالأسباب، ودون محاباة.
د- سنة الاختلاف الديني:
فحينما هاجر النبي ﷺ كتب “وثيقة المدينة” لتنظيم العلاقة بين سكان المدينة من المسلمين وغيرهم؛ وفي هذه الوثيقة ضمان للاختلاف الديني، الذي هو سنة من سنن الله تعالى في الخَلق؛ حيث جاء فيها: “لليهود دينهم وللمسلمين دينهم”([10]).
فكانت “وثيقة المدينة” عملاً فريدًا في إقرار سنة الاختلاف الديني، وضمان عدم الإجحاف بها. وهذا أيضًا مصداق لما جاء في القرآن الكريم من تقرير هذه السنة، بمثل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الطبري: 99).
إذن، يتضح لنا عناية السنة النبوية، قولاً وعملاً، بالسنن الإلهية؛ لِمَا لهذه السنن من دور فاعل أساس في فهم المسلمين لدينهم من ناحية، وفي حياتهم بدينهم من ناحية أخرى.. ولهذا جاءت السنة القولية متعاضدةً مع السنة العملية في بيان ذلك تأصيلاً وتطبيقًا؛ بحيث يكون المسلم على بصيرة من أمره، ويتحرك في الحياة بخطوات راشدة.