تردد على مسامعنا هذه الجمل من بعض الطلاب حول طرق تدريس العلوم * :
” درس العلوم ممل. إنه صعب للغاية”.
” إنها فترة غير متعة”.
“هي عبارة عن حفظ مجموعة من الصيغ “.
“معلم العلوم صعب المراس”.
“الواجبات المنزلية عديمة الفائدة” وقائمة الجمل السلبية نحو العلوم تطول.
بالطبع توجد استثناءات مذهلة و محفزة تلهم معلمي العلوم من جميع أنحاء العالم. قرأنا عن قصص كثيرة كيف أن معلما ترك أثرا على طالب حتى صار من أعظم العلماء في مجاله . ترى ما الذي ميز هذا المعلم عن الآخرين؟ ما سبب تفوقه ؟
إن عملية تدريس المواد العلمية للطلاب يجب أن لا تفصل عن العامل الإنساني و في كافة المراحل التعليمية عبر الدورات العلمية بالإضافة للدورات التقنية المتقدمة.
بالتأكيد يوجد دور مهم لأساليب التعليم وطرق تقديمها والكيفية التي تدرس بها المادة العلمية و منهج تعامل المعلم مع طلابه.
وقبل الحديث عن طرق التدريس يجب التعريج على محور مهم وهو الشغف بالتعليم لدى المعلم مما سيجعل معلم العلوم متميزًا عن أي معلم آخر.
إن الشغف بالموضوع .. الشغف بالعلم .. الشغف بمهنة التعليم .. الشغف بإحداث فرق في هذا العالم ، المعلم يصبح شخصًا فريدًا في حياة عدد من الطلاب خلال رحلته التعليمية.
عادة لا يخرج المعلم الناجح أبدًا خارج نطاق إنسانيته أثناء دخوله الفصل الدراسي، بل على العكس تمامًا ، يجب أن يكون عمله احتفالًا بالإنسانية المشتركة التي تجمعه مع طلابه ولكن مهمته تكمن في نقل المعرفة من جيل إلى جيل للحفاظ على شهية الاكتشاف وشعلة التفكير والاختراع.
توجد صيغ معينة في طرق وأساليب تدريس المواد العلمية ، على سبيل المثال مواضيع يجب تغطيتها ، حقائق يجب تقديمها ، أحيانا تكرار بعض الدروس ، وقد يصاب المعلم ببعض الخيبات مثل أي مهنة أخرى.
وبالرغم من ذلك التدريس أشبه بمهنة التمثيل حيث الأداء الجيد وطريقة عرض المعلومة قد تحدث فرقا. يستطيع المعلم شرح قوانين نيوتن بحركة بسيطة عن طريق كتابتها على السبورة ( أو أي لوحة جدارية أو لوحة تقنية مرتبطة بشاشة كبيرة ) والعمل من خلال بعض الأمثلة.
وهذا الأمر يتم عمله كل يوم في آلاف الفصول الدراسية في مختلف أنحاء العالم لكن إذا تم اقتصار الدرس على شرح قوانين نيوتن فقط فالمعلم بذلك يستبعد أفضل جزء في القصة ، وهي قصة نيوتن نفسه.
إننا نحرم الطلاب وعلماء المستقبل من رؤية عالمية أكثر شمولاً عندما يتم تدريس العلوم من زاوية تقنية فقط حيث يُنظر إلى العلم كجزء من حاجتنا البشرية لفهم العالم .
من هو إسحق نيوتن ؟ لماذا كان يفكر في قوانين الحركة والجاذبية في أوائل العشرينات من عمره؟ ما الظروف التاريخية المحيطة في أوروبا منتصف القرن السابع عشر؟ هل كان العلم في حالة حرب مع الدين مثلما حدث مع جاليليو ؟ أين كان نيوتن عندما جاء بأفكاره الأولى في صياغة الميكانيكا التي من شأنها تغيير العالم إلى الأبد؟
(الإجابة : اختبأ في مزرعة والدته هربا من جائحة الطاعون).
ما الذي ألهم نيوتن ؟ هل كان مجرد عقلاني متشدد يهتم فقط بوصف العالم من خلال الصيغ؟
(الإجابة: لا على الإطلاق! لقد كان نيوتن غريب الأطوار ومنعزل اجتماعيًا ، وهادئًا ، وربما مات من غير أن يتزوج. ومع ذلك ، حينها كان بعيدًا عن قوانين التبريد ، ركز اهتمامه بالحسابات فقط. كان تدينه العميق عامل محفز ودافع للبحث العلمي ، منطلقا من قناعته بأن مهمة الفيلسوف الطبيعي كانت كشف النقاب عن المخطط الكوني لفهم الله بشكل أفضل) .
بالنسبة لنيوتن كان العلم بمثابة عملا من أعمال العبادة والإخلاص الديني.
لماذا يحرم الطلاب من فهم هذا الجانب الإنساني للعلم؟ العذر المتداول تكراره – و غير مقبول – هو ضيق الوقت “ليس لدينا الوقت الكافي لتغطية المواد والتعمق في مثل هذه القصص”.
لقد قمت بتدريس مواد الفيزياء لأكثر من 30 عامًا لكافة المستويات المختلفة ، من التخصصات غير العلمية إلى نظرية المجال الكمي لطلاب الدراسات العليا ، وأؤكد لكم أن الوقت يتوفر دائما عندما تتوفر النية والإرادة.
السبب الحقيقي وراء استبعاد الغالبية العظمى من فصول العلوم للجوانب الإنسانية المتأصلة في العلوم هو أن معظم العلماء يجهلون هذه القصص. كثير من المعلمين وأساتذة الجامعات لا يعرفون القصص الإنسانية المصاحبة للعلوم لأن هذه المواضيع ليست جزءًا من تكوينهم العلمي، أما القلة العارفة فقد بذلت مجهودا بحثيا فرديا.
لا يتضمن التعليم العلمي النموذجي السياق التاريخي والثقافي الذي نشأ فيه تخصص علمي معين ، أو الإلهام الروحي والديني وراء أفكار عدد من “عظماء” العلم من أمثال : يوهانس كيبلر ونيوتن إلى جيمس كليرك ماكسويل ومايكل فاراداي وتشارلز داروين وألبرت أينشتاين.
وحتى في حالة معرفة بعض المعلمين لهذه الجوانب الإنسانية فقد تم تدريبهم على عدم ذكرها ضمن المنهج الدراسي. يطلب منهم باستمرار “لا تذكر الفلسفة ، ولا تذكر تاريخ العلم وبالتأكيد قيل لهم ” لا تذكر الدين في فصل العلوم “.
تأثرت طرق تدريس المواد العلمية تأثرا بالغا بالتطبيقات التكنولوجية للتفكير العلمي في الصناعة والمجتمع على مدى القرنين الماضيين حيث تم تقليص تدريس العلوم إلى التعليم الفني المهني والذي يقتصر فقط على مهام محددة للغاية.
لقد أصبحنا فعالين بشكل لا يصدق في التعامل مع مسائل الرياضيات المعقدة وبرمجة الكمبيوتر ، ونمذجة أنظمة معينة والتعامل مع المتطلبات المختبرية ضمن تخصصات فرعية ضيقة : فيزياء البلازما ، وفيزياء المواد المكثفة ، وفيزياء الطاقة العالية ، والفيزياء الفلكية ، وما إلى ذلك. لقد تضاعفت المسافة الفاصلة بين العلوم البحتة والعلوم الإنسانية بعد عصر التنوير وأقميت الجدران بين التخصصات الفرعية التي لا حصر لها في كل مجال علمي ، من الفيزياء والكيمياء إلى علم الأحياء وعلوم الكمبيوتر. استحوذ مذهب الاختزال على التعليم وفقدنا رؤية المناطق المشتركة.
تتطلب التحديات التي نواجهها في عالم اليوم اشتراك المواد العلمية مع الجوانب الإنسانية ، لذا يجب أن نبدأ بأنسنة الفصول الدراسية كي تصبح عنصرا أساسيا من حياتنا.
نعم يوجد دور هائل للكم المعرفي المتراكم على مدى قرون ومازال ينمو بوتيرة عالية وفي كافة المجالات ، لكن ما لا يمكن تجنبه هو حرمان أي شخص من الحصول على فهم عالمي لموضوع ما من كل زواياه وبصور متكاملة، سواء كان من زاوية علم الفلك أو علم النفس المعرفي. وهذا الأمر لا يشكل مصدر قلق بالنسبة لدي كأحد المعلمين والمتخصصين. ما يثير قلقي هو التباعد الهائل بين طرق تدريس العلوم والنهج الإنساني للمعرفة.
من خلال مسيرتي المهنية في تدريس مادة الفيزياء لطلاب الأدب والشعر في كلية دارتموث لاحظت علامات الإثارة والتشوق لدى غير المتخصصين في العلوم عندما يفهمون أفكار علم الفيزياء ومن ثم معادلاتها عندما تقدم لهم ضمن أي سياق تاريخي نشأت فيه ، والآثار الفلسفية والدينية ، والإنسانية للعلم نفسه كتعبير عن حاجتنا البشرية لفهم من نحن والعالم الذي نعيش فيه.
بينما يتلقى الطلاب دروسا حول الرؤى الكونية المتغيرة، وحول أهمية دقة الملاحظة والانضباط المنهجي ، ومعاني الإخلاص والتفاني والشغف، وبالتالي ستغذي لديهم عملية البحث المعرفي وبصلتها التأسيسية والوثيقة بتعليم العلوم في عصرنا ، وسيعيدون الاتصال بالعلم الذي اعتبروه أمرا غير عمليا وسيجعلهم ينضجوم من الناحية الفكرية. تتطلب التحديات التي نواجهها في وقتنا الحالي مشاركة العلوم والإنسانيات التي تبدأ في الفصل الدراسي وتصبح محادثة أساسية في المجال العام.
* كاتب المقال هو الأستاذ الجامعي مارسيلو جليزر في تخصصات الفلسفة الطبيعية والفيزياء والفلك بكلية دارتموث بالولايات المتحدة