الشك من الأمور المقلقة التي تمنع الإنسان من التمتع بطيبات الحياة الدنيا، وتملأ قلبه بالمخاوف والهموم، ومع شره وضرره إلا أن الإنسان يقع فيه كعارض من عوارض الحياة يأتي ويزول أو يصير قرينًا ملازمًا، بتعبير المالكية: “مستنكح الشك”.
ما هو الشك والوسواس؟
تأتي الخواطر وتزول لتطرح أسئلة عادية حول صدق كلام البعض أو كذبه، ووجود المودة الخالصة أو الباحثة عن المنفعة، أو ترقى إلى الأسئلة الوجودية، وقد كان النبي ﷺ منتبها إلى مثل هذه الخواطر السيئة ونبه أصحابه عليها حين قال:
“إن أحدكم يأتيه الشيطان فيقول من خلقك؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الله؟؟[مسند أحمد وهو صحيح]
وأحيانا يبادر الصحابة إلى النبي ﷺ يسألونه عما يشغل عقولهم حتى يكاد أن يتلفها ، ومن ذلك ما جاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال:
«جاء رجل إلى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله، إني أحدث نفسي بالشيء، لأن أخرّ من السماء أحب إلي من أن أتكلم به».
لم تقتصر الوساوس على الشياطين، بل تكونت لها مراكز أبحاث تحاول التسلل إلى العقول والقلوب لكي تفسدها وتخرجها من إطار الفطرة.
كيف يؤثر الشك على حياة الإنسان؟
يكبر الشك في نفس صاحبه حتى يؤثر على علاقته بزوجته وأبنائه وأصدقائه وزملائه ومن يتعامل معهم ، وللأسف يسهل على الشاك أن يسير في اتجاه الاتهام ويصعب عليه أن يقارن بين الاتهامات وبين ما يعرفه عنهم من صدق وإخلاص و تجارب طيبة.
أسباب الشك والوسواس
تتعدد الأسباب التي تلقي بالإنسان في صحراء الشك المقفرة، ومنها:
1. النفرة من الناس والعزلة
النفرة من الخلق والانعزال عن أهل الخير ، وهذا سبب لورود الوساوس والتقصير في الواجبات واستيلاء شياطين الإنس والجن، فالشيطان إلى الواحد أقرب وهو من الاثنين أبعد، وربما حمل الإنسان على العزلة ما أصابه من أضرار بسبب ثقته التي لم تبن على تجربة فيضطر إلى الانعزال .
2. الشيطان ووساوسه
الشيطان فهو ملازم للإنسان يحاول أن يفسد عليه حياته ويطرق أبواب قلبه من كل اتجاه حتى يحول الخاطر إلى فكرة والفكرة إلى يقين.
3. حب الجدل وإظهار التفوق
كون بعض أهل الشك صاحب لسان وجدل يحب أن يظهر قدراته الكلامية واللعب بالألفاظ والدخول لحقول الألغام والولوج للمحرمات الدينية والاجتماعية، ويخرج أحدهم من كل معركة شاعرا بالزهو والفخر وغيرها من مشاعر التفوق.
4. القلق المعرفي والجموح الفكري
بعض الناس عندهم قلق معرفي وجموح فكري يدعوهم إلى الخروج عن المألوف وهم في رحلتهم هذه يصطدمون بعلماء الدين وتقاليد المجتمع الذي ينفر من الحوار فضلا عن الجدال ويعجز عن التواصل.
5. الإغراق في العلم التجريبي دون إيمان
في عصر ظهر فيه تفوق الإنسان على ما سبقه من بني آدم ففتت الذرة وحاول الخروج من الأرض، إلى غير ذلك من منجزات يخرج علينا العلم بها في كل يوم بل ربما في كل ساعة ، كل ذلك بالإضافة إلى الملفات المفتوحة للبحث العلمي في مئات أو ألوف القضايا ، كل هذا المجهود دون أن يصاحبه فرصة للتأمل في النفس والكون والتقدير الإلهي والتدبير المحكم يريد الواحد منهم أن يسجل اسمه في أحد الموسوعات العلمية ولعل هذا جزء من الطغيان الذي قال الله تعالى عنه ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق: 6-7] .
وعندما يقارن الشاك بين ما أنتجته هذه الحضارة من منجزات علمية وتقنية ومخترعات يسرت الحياة وقربت البعيد، وبين ما عند أهل الأديان من جدل وصراعات فكرية ومذهبية، يقف محتارا ، هل أصحاب كل هذا العلم على باطل بينما هؤلاء الذين لم يقدموا شيئا للبشرية على حق؟؟!
لقد قدموا في الماضي إن أردنا الإنصاف لكنهم يعيشون الآن عالة على الآخر الذي يكرهونه ويكفرونه. والأمانة الفكرية تقتضي أن يسأل هذا المتسائل الكثير التفكير: هل هؤلاء الذين لا يعجبونه يمثلون دينهم تمثيلا حقيقيا وينفذون تعاليمه كما أرادها الله تعالى منهم؟ أم أن جزءًا منهم يجتهد كل اجتهاده لكي يحمل صورة المتدين دون قلبه، وظاهر المتدين دون باطنه، ولسان المتدين دون أخلاقه، ولم لا ونحن في عصر الصورة والسطح دون الغوص في الأعماق، وبتعبير آخر هل هم صورة مثالية أو قريبة من المسلم الذي جاء وصفه في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ أم أنهم قصروا ولذلك تأخروا عن ركب الإنسانية؟؟
كيف نعالج الشك والوسواس؟
إن الشكوك من حولنا تحيط بنا من كل اتجاه، فالحديث عن الشر والأشرار يتزايد، لذا كان لابد من تحصين يحمي عقولنا وقلوبنا، ومن أدوات هذا التحصين:
1. الاستعاذة بالله من الشك
وهي شعور بالضعف الإنساني وتعبير عن الحاجة للاحتماء بالله تعالى وهذا هو لب العبودية الشعور بالفقر والحاجة والضعف لله تعالى الغني القوي مالك الملك والملكوت، عن ابْن عَابِسٍ الْجُهَنِيّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ لَهُ: ” يَا ابْنَ عَابِسٍ، أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَفْضَلِ مَا تَعَوَّذَ بِهِ الْمُتَعَوِّذُونَ؟ ” قَالَ: قُلْتُ: بَلَى. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ” {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ[1]» و«عن ابن عباسٍ في قولِه: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}. قال: الشيطانُ جاثمٌ على قلبِ ابن آدمَ، فإذا سها وغفَل وَسْوَس، وإذا ذكر الله خَنَس.»[2]
المداومة على ذكر الله
نحن بحاجة ماسة للذكر لكي تقوى أرواحنا وأبداننا على طاعة الله تعالى ومدافعة الخواطر السيئة وهجمات شياطين الإنس والجن، تلك الهجمات التي تتلف روح الإنسان وعقله وتترك بدنه جثة هامدة لا تستطيع الحركة ولا التفكير بطريقة صحيحة.ومن الأذكار التي أوصى بها النبي ﷺ لمن يعانون من هجوم الشيطان «فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَقْرَأْ: آمَنْتُ بِاللهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ عَنْهُ»[3] وفي حديث آخر قال :” فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينتهي”[4]. وفي حديث ثالث«فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ فَقُولُوا: {اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}، ثُمَّ لِيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلْيَسْتَعِذْ مِنَ الشَّيْطَانِ»
3. إشغال النفس بالخير
إعمال هذه الحكمة الرائعة: “نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل“،فإذا علمنا أن كل سلامى من الناس عليه صدقة وشغلنا أنفسنا بالقيام بهذه الصدقات لم يتبق لنا وقت يهجم علينا فيه الشك والوساوس، ونكون قد حصنا أنفسنا بمعية الله تعالى وملائكته ونحن نقوم بهذه الطاعات التي تتحول إلى صدقات تثقل موازين الإنسان عند الله وتقوم بواجب العبودية وتقوي الروح.
4. التعامل الصحيح مع الخواطر
من الناس من يستقبلها فاتحا ذراعي عقله وقلبه مفسحا لها كل مجال ومن الناس من يدافع خواطر السوء بذكر الله تعالى وباستجماع نفسه وعقله لكي يفكر فيما هو بصدده من أعمال وبذلك لا يجد الشك أو الوسوسة مجالا فينصرف، وفي حديث لمة الملك ولمة الشيطان بيان لخواطر الخير وخواطر الشر وكيف نتصرف فيها عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:” إِنَّ لِلْمَلِكِ لَمَّةً، وَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً، فَلَمَّةُ الْمَلِكِ إِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَهَا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إِيعَادٌ بِالشَّرِّ، وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَهَا فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ..[5]»
5. الاستماع للشاك وتقديم الدعم النفسي
من المهم وجود طائفة من المسلمين تسمع لهذه الشكوك وإن اعتبرها الكثيرون ترهات خرجت من نفس مريضة لا تستحق السماع، غير أن هذه الترهات عند أصحابها مقلقة مانعة من الراحة جالبة للتعاسة، ويزداد تأثيرها السيء كلما انغلق الإنسان الشاك على نفسه.
تبدأ هذه الشكوك في التهام عقله وقلبه حتى تأتي عليه كله فترى أمامك شبحا بلا روح ولا عقل ولا قلب، وإن هذا المجهود ينبغي ألا يغفل صاحبه عن ثوابه حتى لا يدفعه ما يبذل من جهد ووقت إلى التخلي عن هذا الأجر الكبير وليستحضر قوله ﷺ
« مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ”[6]
وأي أجر تبحث عنه فوق هذا الأجر أي مكافأة أعظم من هذه المكافأة؛ تفريج الله عنك كربة من كربات يوم القيامة ، وليس هناك أدنى مقارنة بين كربات الدنيا وكربات يوم القيامة ، أي جزاء أعظم على ما تبذله من جهد في الاستماع لأهل الشكوك وتبديد شكوكهم من معونة الله تعالى لك طالما كنت في عون أخيك، هذا الجهد قد يكفي وقد يحتاج الشاك إلى مراجعة طبيب في الحالات التي عشعش فيها الشك وباض وفرخ يقدم أدوية وعلاجا نفسيا أو يكتفي بأحدهما وقبل ذلك وبعد ذلك لابد من تكوين الإرادة وتقديم الدعم من المجتمع.
6. البيئة المطمئنة والعلاج الاجتماعي
البيئة المطمئنة تنشر من سكينتها على محيطها قولا وعملا وممارسة وسلوكا وتشعره بأن من حوله معه يشاركونه آلامه وآماله، ولعل العزلة لها أضرارها على النفس والعقل ومن ذلك الشك ، فينبغي أن يسعى أولئك الشكاكون في الانخراط في المجتمع المناسب لهم الذي يقدر حالتهم ويقدم لهم الرعاية المناسبة ، وعلى المجتمع أن يفتح أبوابه لهم أو على النخبة من المجتمع التي تملك رصيدا من العطاء وسعة الصدر أن تفعل ذلك لأن ضرر هؤلاء يعود على المجتمع بأسره.
7. التربية على السؤال والبحث العلمي
التربية على طرح الأسئلة بشكل لائق والإجابة عنها بشكل يناسب التطلع والقلق المعرفي والدأب في التعلم وعدم التوقف عن البحث عندما لا تكون الإجابة مقنعة ونستحضر قول من قال:
قل لمن يدعي في العلم فلسفة علمت شيئا وغابت عنك أشياء
وقد قسم الله تعالى الأرزاق ومن الأرزاق رزق العلم فهذا له نصيب كبير وهذا أقل، فإذا لم تجد إجابة مقنعة اطرح السؤال على شخص آخر واسأل الله تعالى أن يوفقك لمن يجمع بين العلم والبصيرة.
8. التسليم لأمر الله تعالى
التسليم الكامل من أركان الإيمان ومسألة التسليم مسألة صعبة عند من يرون أنهم يبحثون ويفكرون والحقيقة أن التسليم هو نتيجة لإيمان الإنسان بربه وحكمته وأنه تعالى لا يفعل شيئا عبثا، وأن الحكمة قد تبدوا لنا بعد قليل من التأمل وقد تظهر بعد مدة طويلة وقد تظهر لأناس وتختفي عن آخرين ، ومسألة محاولة الفهم تسير مع التوجيهات الشرعية فقد أنزل الله تعالى القرآن لكي يتدبر الناس وكلما تدبروا كلما تحسن إدراكهم للحياة.