لو نظرنا إلى أهم مقومات الداعية الحقيقي وأهم وسيلة في تحقيق النجاح للداعية وأهم ما يجب ان يتحلى به في الوصول إلى عقول وقلوب الناس لأدركنا دون عناء أو إمعان نظر؛ أن الداعية الحقيقي تلزمه القريحة الفطرية والذكاء الذي يهبه الله لمن يشاء من عباده، ثم التحلي بعمق التفكير الذي يأتي بكثرة المطالعة المركزة مع تعلم حسن اقتباس الحكمة من أفواه أهلها .
ويمكن أن نقول أن الداعية هو الذي يمتلك المقدرة على أن يستشهد بأصل من كتاب الله أو سنة رسول الله ﷺ ، ويوظف الشعر والأدب والحكمة والأمثال والقصص في بيان وشرح هذين الأصلين كأدوات لترسيخ المفاهيم وتوسيع للتصورات .
فهي قريحة قبل كل شيء ثم مقدرة تكتسب بالتحصيل والتمرين والممارسة والرغبة في الوصول إلى أعلى درجات الكمال . ولن يستطاع ذلك إلا لعقل مرن يطل على مساحات معرفية واسعة ومتنوعة تتوافر فيها الصور والقضايا والجزئيات؛ وهو يستوعبها كلها ويعقلها ويجيد ترتيبها ويحسن توظيفها فيحركها تقديما وتأخيرا وتلميحا وتصريحا ويجمع بين ثنائياتها المتقاربة أو المتلازمة، فيخرج بترتيب متناسق تتضح فيه قيمة كل جزئية مع مثيلاتها التي تساهم في توضيح مفهوم الفكرة المطروحة ومقاديرها، و أولوياتها ومقاصدها وغايتها، وتبين الحكم بشكل تلقائي دون استشكال أو عناء استنباط؛ أي المقدرة على طرح الموضوع بأسهل وأوضح صورة دون تشويش على ذهن المتلقين المتعددي المشارب والغير متكافئين في الفهم والتعقل لما يطرح من مواضيع .
وهذا يتأتى باستعمال أسلوب النظرة الموضوعية الموحدة و استخدام المنطق المتجانس، والتوازن النسبي الذي يتيح أكمل صور الفهم للموضوع المطروح وفق الضابط الجامع .
إن قضايا الدعوة حياة متحركة ذات صلة مباشرة بالواقع اليومي المعاش، ولذلك لا يكفي أن ينحصر فقه الدعوة في العلوم الشرعية المدونة في أمهات كتب الفقه ، وإنما يجب أن يضيف الداعية إلى تحصيله العلمي علم أخر وهو علم فقه الواقع الذي يعيشه وتعيشه الدعوة، فإن نجاح الداعية لا يتحقق إلا إذا كان يعيش الواقع ويتعايش مع هذا الواقع ويتحرك من خلاله .
ولابد له من معرفة واقعه من كافة جوانبه، ودراسة نفسيات افراد المجتمع الذي يعيش فيه – محيط ومجال الدعوة – ويمارس فيه الدعوة ليعرف مدى تأثيره و أثر الدعوة سلبا أو إيجاباً ليدرك ما وصل إليه من قبول وانتشار وتأثير من عدمها.
أي لابد أن يكون للداعية بصيرة نافذة يدرك بها أثر دعوته وانتشارها بين الناس ومدى قبولهم لها من عدمه، فإن رأى الأثر يعتريه الضعف أو عدم القبول عليه أن يبحث عن اسبابه ويقوم بمعالجتها وإن رأى القبول استمر في مسيرته الدعوية ورسالته الربانية التي نذر نفسه لها .
ولابد لفقيه الدعوة ان يعرف واقع الناس وتعقيدات الحياة والقوانين الوضعية السائدة في المجتمع محل الدعوة التي توجب على الناس امورا لا يرغبونها او يطيعونها مكرهين بحكم الواقع، ولابد له من معرفة أعراف الناس وسلوكهم الأخلاقي والسياسي وفروق هذه الأعراف بين المدن والمناطق والدول .
ثم لابد للداعية من أن يعاني قضايا الدعوة كداعية منتسب ينفعل ويتفاعل مع الأحداث وتفاعلات المجتمع من أفراح وأحزان، ويكون وراثا لتجربة الأجيال السابقة من رجالات الدعوة المعتبرين الذين كان لهم السبق بالقبول والتأثير ، فقضايا الدعوة لا يصلح لها الا الداعية الحاذق الماهر ولا يصلح لها تقليدي لم يمارس عمليا فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهما بلغ من تقوى وسعة علم.
أن تجميع النصوص المتشابهة عن علماء وفقهاء سابقين لا يكفي لبروز داعية جديد معاصر يتناول معالجة قضايا المستحدثة والمتجددة؛ بل عليه أن يتسلح بخلفية ثقافية عامة شاملة عريضة الامتداد عميقة الأبعاد تطلعه على قصص التاريخ ، وخواطر الأدباء ومثالية الفلاسفة ومناهج المنطقيين وأرقام الإحصائيين و حروف اللغويين .. بحيث يتولد عنده رادع يمنعه من الغلو أو الشذوذ أو المبالغة ويكسبه اسلوب الرفق الجميل دون تكلف أو نزول في التسهيل، ولا يبالغ في الاستطراد، ويحرص على التذكير بمقاصد الشرع، ويدعوا إلى جلبها وتحقيقها في منحى صاعد دوما نحو العزة التي تليق بكل مسلم مؤمن موحد الله تعالى . وعلى الداعية أن يدرك أن الشمول الدعوي لا يناله مستعجل، ولا منعزل عن واقع مجتمعه، ولا متجرد للفقه بل الدعوة هي صناعة الحكيم الصابر المتأني المتنوع الثقافات صاحب العاطفة الذواق المتلطف الذي يمتلك خاصية القياس على الأقرب وعلى الأشباه العارف بمكمن الداء الحاذق في وصف الدواء .
يصدق فيه قول : الخطيب البغدادي ( ينبغي أن يكون قوي الاستنباط جيد الملاحظة رصين الفكر صحيح الاعتبار صاحب أناة وتؤدة ، وأخا استثبات وترك عجلة ، بصيرا بما فيه المصلحة، مستوقفا بالمشاورة حافظا لدينه مشفقا على أهل ملته، مواظبا على مرؤته، حريصا على استطابة مأكله، فإن ذلك أول أسباب التوفيق، متورعا عن الشبهات، صادفا عن فساد التأويلات صليبا في الحق ) .