تكررت كلمة الصابئة في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع مختلفة، وردت أولا في سورة البقرة في قوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”/62/. وفي هذه الآية ثناء مجمل على أهل الملل الأربع: المؤمنين، واليهود، والنصارى والصابئين، ويشير هذا الثناء إلى أن من الصابئة حنفاء موحدين، وهذا المعنى ذاته يظهر لنا في سورة المائدة، يقول الله تعالى:”إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”/69/، وهو الموضع الثاني.
ثم جاءت الكلمة في سورة الحج “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” /17/، والآية تذكر الفصل في الحساب والجزاء فأدخلت مع الملل الأربع السابقة المجوس والمشركين لأن البشرية جمعاء يتساوون في عرضهم على الله للحساب، وهذا يختلف عن الموضعين السابقين حيث كان الوعد لأهل الإيمان والعمل الصالح منهم بالأجر، فخرجت المجوس والمشركون لدعائهم آلهة غير الله سبحانه.
ويحصل لدينا من خلال هذه المواضع الثلاثة أن الأمم المذكورة ست، اثنتان شقيتان لكفرهما الواضح، وأربع منهم منقسمة إلى سعيد وشقي حسب الإيمان والعمل الصالح، وتفيد الآيات أن المسلمين واليهود والنصارى والصابئين منهم شقي وسعيد حسب إيمانهم وعملهم.
وتفيد الآيات أن المسلمين واليهود والنصارى والصابئين منهم شقي وسعيد، كل على حسب إيمانهم وعملهم
لكن ما يستوقفنا في هذا الموضوع أن هذه الملل الأربع التى وعد أهل الإيمان منها بالنجاة والفوز، نعرف جميعهم بمعتقداتهم وأصول دياناتهم وتفصيل العلماء في حقائقهم جميعا ما عدا الصابئين فإنهم وإن تكرر ذكرهم في القرآن الكريم شح الحديث عنهم، والكشف عن حقيقتهم، وتأتي أهمية هذا المقال من حيث إنه يعرف بقوم ورد ذكرهم في كتاب الله، ويناقش أصول عقيدة الصابئة ويسقطها على واقع صابئة العصر، وكذا يجيب إن كانت الصابئة بهذا الوضع المذكور في القرآن الكريم يعاملون معاملة أهل الكتاب حيث يحل اختيار الأزواج من نسائهم، وتؤكل لحومهم .
حقيقة الصابئة
اختلف المفسرون في حقيقة الصابئة هل هم قوم خرجوا من دينهم، وليس لهم دين ؟ أم هم قوم لهم دين وشريعة خاصة ؟
– ذهب بعض العلماء إلى أن الصابئة قوم تركوا دينهم وليس لهم دين، كما تدل عليه أصل الكلمة، حين يقال في اللغة العربية: صبأ رجل، إذا ترك دينه، وأخذ مكانه دينا آخر، وكما تقول العرب: صبأت النجوم إذا طلعت، والصابئ مفرد الصابئين. ونسب الطبري هذا القول في تفسيره إلى عدد من علماء السلف منهم مجاهد وابن جريج وعبد الرحمن بن زيد. قال مجاهد: الصابئون ليسوا بيهود ولا نصارى، ولا دين لهم.
وقال عبد الرحمن بن زيد: الصابئون أهل دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي، إلا قول لا إله إلا الله. قال: ولم يؤمنوا برسول الله، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي ﷺ وأصحابه:”هؤلاء الصابئون”، يشبهونهم بهم.
ولعل كلام عبد الرحمن بن زيد وضح المقصود بأن الصابئة ليس لهم دين، فإنهم يريدون بذلك أنهم ليسوا من أهل الكتاب ولا توجد لديهم متعقدات عملية، ولا ينافي ذلك إيمانهم بالله تعالى ووجوده وتوحيده، ولو حملناه على غير هذا المعنى لاختفى الفرق بينهم وبين أهل الشرك.
الصابئة من أقدم الأديان فكرا ووجدت قبل المجوسية التي يرجع نشاطها إلى (زرادشث)، وقبل الحنيفية التي دعا إليها إبراهيم عليه الصلاة والسلام
– القول الثاني: اختار بعض العلماء أن الصابئة قوم لهم عقائدهم الخاصة، وهم أتباع لكتاب سماوي، إلا أنهم اختلفوا على أي دين سماوي ينتمون. يقول قتادة: الصابئون قوم يعبدون الملائكة، يصلون إلى القبلة، ويقرؤون الزبور. وسئل السدي عن الصابئين، فقال: هم طائفة من أهل الكتاب.
– القول الثالث: في مقابل ذلك كله نرى بعض العلماء يرجحون أن الصابئة من أقدم الأديان فكرا ووجدت قبل المجوسية التي يرجع نشاطها إلى (زرادشث)، وقبل الحنيفية التي دعا إليها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان أتباعها أمما من الفرس والروم والهند والنبط، حتى نقل الشهرستاني أن هذه الأمة كانت من أكبر الأمم وأقدمها شملت دولا من الشرق، ودولا من الغرب.
ومما يقوي هذا القول ما ذكره الألوسي في بلوغ الأرب (2/24): الصابئة قوم إبراهيم، كانوا بحران، فهي دار الصابئة الأولى وكانوا قسمين هما: صابئة حنفاء، وصابئة مشركون. وهذا القول يفيد أن البابليين الذين سيطروا على العراق وقتها كانوا يدينون بالصابئة حتى جاءتهم رسالة إبراهيم عليه السلام فآمن فريق منهم وكفر آخرون، لذلك أطلق عليهم ابن حزم: أن الصابئين هم المكذبون بنبوة إبراهيم عليه السلام[1].
ويرى محمد الفيومي أن الصابئة كدين وفكر انتقلت إلى شبه جزيرة العرب من روافد مختلفة منها ما تم عن طريق الاتصال الفارسي بمكة المكرمة سياسيا، اقتصاديا، ودينيا، فإن أسلاف الفرس كانوا يقصدون الحرم المكي للطواف، وكانت العرب يسافرون إلى مناطق الفرس للتجارة وتبادل السلع والمتاع، هذا ويمكن القول إن انتقال المذهب الصابئي بمضمونه الفكري بدأ منذ رحلة إبراهيم وأسرته إلى مكة المكرمة، حيث كان ينبذه عليه السلام، واستعمله العرب مقابلا للحنيفية، فكان كل من أسلم بالنبي ﷺ كانت العرب تقول عنه صبأ[2].
وبناء على هذه الأقوال، فإن الصابئة حسب ما يظهر مذهب فكري وديني، موجود قديما قبل اليهودية والنصرانية وحتى المجوسية، وكلما ظهر دين من الأديان السماوية آمن بعض الصابئة به وكفر آخرون، لكنهم في الأصل لديهم الإيمان المجمل بوجود الله سبحانه وتوحيده. وما ذكره أصحاب القول الأول أن الصابئة ليس لهم دين فالمقصود منه كما قدمت أنهم ليسوا باليهود ولا النصارى، بل يرى ابن كثير أنهم يحافظون على دين الفطرة[3]، هذا ما يظهر من الآيات التي بدأنا بها المقال حيث أثنت على مؤمني الصابئة، وإذا تقرر هذا المعنى فما أصول عقيدة الصابئة؟
————————————————————————————————————-
[1] ابن حزم، الفصل بين الملل والأهواء والنحل.
[2] هذه الفكرة ملخصة من كتاب تاريخ الفكر الديني الجاهلي، محمد إبراهيم الفيومي (262).
[3] تفسير القرآن العظيم لابن كثير.