الضابط الرابع: الاجتهاد الجماعي في القضايا العامة
هناك قضايا جزئية أو فردية يمكن لعالم أو إمام أن يفتي فيها وحده سواء ناقلا للفتوى أو مجتهدا أصالة، لكن القضايا العامة أو بعبارة الفقهاء مما عمت بها البلوى الأصل أن تحال إلى العقل الفقهي الجماعي، كما ينبغي أن يتحرج أي عالم أو إمام أن يفتي فيها وحده، وذلك اقتداء بسلفنا الصالح الذي كان يبني الفتوى على هذا التشاور للعقل الجماعي لا الفردي ومنه:
1- ما قاله الإمام أبو عبيدة معمر بن المثنى البصري في كتاب القضاء: كان أبو بكر إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله ﷺ، فإن وجد فيها ما يقضي قضى به، فإن أعياه ذلك، سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله ﷺ قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا، فإن لم يجد سنة سنها النبي ﷺ جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شئ قضى به.
2- ذكر الإمام الدارمي في سننه بسنده عن المسيب بن رافع أن الصحابة كانوا إذا نزلت بهم قضية ليس فيها من رسول الله ﷺ أمر اجتمعوا لها، وأجمعوا، فالحق فيما رأوا …
3 – وذكر ابن القيم في إعلام الموقعين أن عمر بن الخطاب كان يجمع علماء الصحابة يستشيرهم فيما ليس فيه نص، فإذا اجتمع رأيهم على شئ قضى به، ولما سير أبا موسى الأشعري إلى البصرة أوصاه بذلك.
4- وروى الطبراني في الأوسط بسنده عن علي بن أبي طالب أنه سأل رسول الله ﷺ: إن عرض لي ما لم ينزل فيه قضاء في كتاب ولا سنة، فكيف تأمرني؟ قال: تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين من المؤمنين، ولا تقضي فيه برأيك خاصة. ولهذا نجد الإمام الماوردي في صفحاته الأولى من كتابه الأحكام السلطانية يؤكد على هذا المعنى بإيراده قول الشاعر: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
وأحسب أن من اللزوم الضرورية في الاجتهاد الجماعي ما تأسس في المجامع الفقهية من استصحاب ذوي العلم في التخصصات العلمية مثل الطب والفلك والاقتصاد والسياسة والاجتماع والقانون و… وذلك للتطور والتعقد الذي اصطبغت به الحياة المعاصرة وصار تطور كل جانب يقاس بمدى اتساع آفاقه وفروعه وجوانبه خلافا لبساطة الحياة وسهولتها من قبل حيث كان العالم الشرعي يلم بأصول الحياة التي تمكنه من الفتوى دون حرج، لكن الآن يستحيل أن يحيط علماء الشريعة وحدهم بجوانب الحياة المختلفة مما يوجب الاستعانة بالخبراء في المجال الذي يتصل بالفتوى أو موضوع الاجتهاد، ليس من باب الاستئناس بل من باب التأسيس.
ولا مانع هنا شرعا ولا عقلا أن يكون هؤلاء الخبراء غير مسلمين، مع ضرروة الإشارة إلى تكوين علماء وفقهاء ومتخصصين من أبناء البلاد الأصليين من الأمريكيين والأوروبيين و… ليكونوا جزءا من المجامع الفقهية بعد اعدادهم دون تعجل، لكنه أمر يجب أن يوضع في الحسبان، وأن توضع له البرامج التي تخرجه إلى حيز الوافع العملي.
الضابط الخامس:اجتماع الخشية القلبية مع الحجة الشرعية في الاجتهاد
لعل أكثر الناس حاجة إلى تقوى القلب هم العلماء والأئمة لأن زلة العالم يضل بها عالم، واجتماع الخشية القلبية مع الحجة الشرعية أمر لا مناص منه في الاجتهاد الصحيح، لأن غياب الحجة الشرعية يؤدي إلى ضعف الاجتهاد وارتباك الفتوى، ويؤدي إلى أن يضع الانسان نفسه على حافة جهنم والعياذ بالله من أفتى بغير علم فليتبوأ مقعده من النار. ابن القيم يذكر أن كثرة الفتوى من كثرة العلم أو قلته. أما الخشية القلبية فهي واضحة جلية في النصوص الشرعية حيث يقول الله تعالى: “الذين يُبلّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله” ويقول سبحانه: ( “إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ” والأحاديث كثيرة عن الذين يكبهم الله على وجوههم لأنهم خافوا الناس مع علمهم فسكتوا أو أفتوا بغير ما يعلمون ويقول الله تعالى لهم: كنت إياي أحق أن تخشى ويكب على وجهه في النار.
هذه في الواقع صارت ضرورة بعد أن كانت غالبة في علمائنا حيث ابتلى الأئمة الأربعة وصبروا على البلاء وأبى كل أن يداهن أو يقول بخلاف ما يعلم، وكذا ابن تيمية والعز بن عبد السلام كان يصدع بالحق حتى جعل الله تعالى على يديه صناعة الأمراء ومنهم سيف الدين قطز وكان هذا سببا في مواجهة جيوش المغول التى أحرقت الأخضر واليابس وقتلت وهتكت الأعراض وأهدرت تراثا علميا رائدا لم يكن هدا الفتح من تحصيل العلوم والمعارف في لبنات العقل فقط بل صاحبه انكسار في القلب من خشية الله دفعتهم إلى قول الحق ولو كان مرا وهذا الذي يجعل العامة توقر العلماء أو تقتدي بالأئمة وتحول القضايا الأساسية من النخبوية إلى الشعبية حتى يشيع الخير ويتم التغيير والإصلاح.
على أن هناك جانبا آخر لهده القضية وهى التى تجعل من هؤلاء العلماء والأئمة أصحاب رسالة مؤثرة تخرج من جدران المجامع والجوامع إلى جميع المواقع هى أن يكون هؤلاء صمام أمان من انفلات المتهورين أو انعزال المتوجسين ليدفعوا بالناس إلى التوسط والاعتدال وحسن الحوار والجدال ولذا قال أستاذنا العلامة الشيخ القرضاوي عبارته الدقيقة في المجلس الأوروبي للإفتاء في دروته المنعقدة في فرنسا: إن اتباع أهواء العامة لا يقل عن اتباع أهواء السلاطين حيث يقترب بعض الدعاة أو الأئمة مما يسمى بـ ما يطلبه المستمعون” فإن وجد من حوله يميلون إلى مذهب معين زكاه على غيره، أو جماعة معينة رفع من قدرها على حساب غيرها، أو يميلون إلى التشديد والعنف يخشى أن يفتى باليسر. أو وجد بين قوم متساهلين يفتى لهم بالرخص في كل مذهب. وهذا كائن في الغرب خاصة لأن مشايخنا غالبا ما تخضع رواتبهم لمجالس إدارات مختلفة في أمزجتها واتجاهاتها وتضيع معالم الاجتهاد الإصلاحي ليظهر الاجتهاد التسويفي وبهذا يضعف دور العلماء في الشرق باتباع أهواء السلاطين وفي الغرب باتباع أهواء العامة من المسلمين إلا من رحم الله ورزقه قوة في عمله ويقينا في قلبه وشجاعة في نفسه لينهض بواجبه في تقدير المصالح والمفاسد وتحرى الأسباب والمقاصد ويفتى الناس بما يرضي رب الناس. ويحسن التوكل عليه ملتمسا منه الحفظ والأمان فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين. فإن ابتلى صبر موقنا أنه بصبره وتوكله على الله سوف تصل رسالته إلي نياط القلوب الحية والعقول الدكية فتؤتى ثمارها بإذن ربها كما ننهل الآن من علم أئمتنا الأعلام مع تباعد الزمان. وهده من سنن الرحمن التى لا تتخلف في أي زمان أو مكان.
الضابط السادس: اعتماد فقه المقاصد في العبادات والمعاملات
مما لا شك فيه أن أفعال الله تعالى وأوامره تخلو من العبث بل لكل أمر هدف أو أهداف ومقاصد تدركها العقول أو لا تدركها و نحن في فقه الأقليات يلزم أن نرجع الى تراثنا الفقهي وسنجد أن فقهاءنا لا يكاد يخلو أحدهم من فقه المقاصد والتعليل إلا ما ورد عن ابن حزم ومدرسته الظاهرية لكن الجمهور يقولون بالتعليل والمقاصد وإن كان بعضهم كتب مشيرا أو مؤصلا أو منظرا لكن أغلبهم في التطبيق العملي عند الإفتاء والاجتهاد يأخد بالمصالح والمقاصد وإلا ما ظهر القياس وهو جوهر التعليل المحدد والمصالح وهو التعليل الموسع والاستحسان وسد الذرائع والحيل الشرعية وهى في مجملها تدور حول فقه المقاصد.
ولذا يبدو لي أن من الأهمية إعادة دراسة من كتب مشيرا أو منظرا مثل ما كتبه أبو منصور الماتريدي في مأخد الشرائع أو ما كتبه القفال الكبير أبو بكر في محاسن الشريعة وما كتبه أبو بكر الأبهري المالكي في مسألة الجواب والدلائل والعلل وما كتبه الباقلاني في الأحكام والعلل والمقنع في أصول الفقه وما كتبه الجويني في البرهان والغياثي وما كتبه الغزالي في المستضعف وشفاء العليل والإحياء والنحول وما كتبه فخر الدين الرازي في التفسير الكبير وما كتبه الآمدي في الأحكام في أصول الأحكام وما كتبه ابن الحاجب في منتهى الوصول والأمل في علمى الأصول والجدل وما كتبه البيضاوي في منهاج الوصول إلى علم الأصول وما كتبه الإسنوى في نهاية السول في شرح منهاج الأصول وما كتبه العز بن عبد السلام في شجرة المعارف وقواعد الأحكام في مصالح الأنام وما كتبه شهاب الدين القرافي في الفروق وما كتبه نجم الدين الطوفي في المصلحة رغم جنوحه أحيانا. وما كتبه ابن تيمية في الفتاوى وما كتبه تلميذه ابن القيم في أعلام الموقعين عن رب العالمين والطرق الحكمية في اصلاح الراعي والرعية وبدائع الفوائد وما كتبه ابن السبكي في جمع الجوامع بحاشية البناني وما كتبه وأصله وفرعه الإمام أبو إسحاق الشاطبيفي الموافقات والاعتصام وما كتبه الشوكاني في إرشاد الفحول ونيل الأوطار وما كتبه شاه الله الدهلوي.
وما كتبه الشيخ محمد عبده وتلميده الشيخ محمد رشيد رضا في المنار وما كتبه ابن عاشور في المقاصد الشرعية والتحرير والتنوير وما كتبه علاء الفاسي عن المقاصد الشرعية وما كتب على يد أعلام الفقه المعاصر مثل شيخنا أبي زهرة والخضري وعلى حسب الله والشيخ القرضاوي ود. عبد المجيد النجار ود. إسماعيل الحسني وأحمد الريسوني ود. يوسف العالم ود. طه العلواني ود. محمد البلتاجي وآخرون.
هده الثروة الهائلة تحتاج إلى دراسة ووعي وهضم يجعل للمقاصد مكانها في العبادات والمعاملات.
وإني هنا لا أفرق بين العبادات والمعاملات في فقه المقاصد وإمكانية إدراكه فقد تخفى على فقيه دون غيره لكن لكل مقصد قد تدرك كثيرا منه في المعاملات ويكون أقل في العبادات لكن عدم العلم لا ينفي الوجود ولذا لم يكن هناك بأس من صلاة التراويح في المسجد أيام عمر وجعلها عشرين وزادها سيدنا عثمان غلى ست وثلاثين وأحدث أذانا في الزوراء وجاز إخراج زكاة الفطر نقدا أو من غالب قوت أهل البلد وجاز في الرجم اختيار أيسر الأوقات للنساء والضعفاء وأصحاب العلات. لكن فقه المقاصد لا يعنى تجاوز نص قطعي في حكم جزئي لمخالفته في ذهن المجتهد مقصدا عاما بل الأولى إعمال النص لا إهماله والجمع وليس النسخ أو الترجيح من أول بادرة لأن المقصد الكلي أخد من نصوص جزئية ويستحيل تعارض الجزئي مع الكلي في النصوص الشرعية ولو كان من عندغير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
ولعل أكثر الفقهاء الأول الذين جمعوا العمل بالنص في الأمر الجزئي والمقصد الكلي سيدنا عمر بن الخطاب حيث توقف في تقبيل الحجر الأسود والاصطباع والرمل مع النص، وتوسع في الاجتهاد المقاصدي في سهم المؤلفة قلوبهم في مصادر الزكاة وقطع يد السارق في باب العقوبات والإلزام بالطلقات الثلاث، ومنع أبي حديفة من الزواج بالكتابية ومنع توزيع أرض السواد وورث الأم الثلث الباقي بعد الزوج ليعطي للأب ضعف الأم والعول والمسألة المشتركة و… مما أجاب عنه أستاذي الدكتور محمد بلتاجي في منهج عمر بن الخطاب في التشريع في أن سيدنا عمر كان ممن ينحو نحو فقه المقاصد والمصالح في جميع الأحكام والأقضية.
ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إن حادثة صلاة العصر في بني قريظة كانت اجتهادا مقاصديا في أمر تعبدي فيه نص قطعي دلالة وثبوتا لكن الذين صلوا في الطريق هم سلف أهل المعاني والقياس والذين صلوا في بني قريظة هم سلف أهل الظاهر كما ذكر ابن القيم وهما نمطان فكريان وتبقى أن تجتمع القلوب مهما اختلفت العقول فإن اختلاف العقول ثراء واختلاف القلوب وباء.