الضابط الثاني: تأكيد المسؤولية عن إصلاح الوطن
يجب أن يكون الاجتهاد لفقه الأقليات دافعا إلى تأكيد دور المسلم في إصلاح وطنه و مجتمعه و عالمه لا أن ينحصر في فقه الحماية من الفتن و الوقاية من المحن، مثل من يدعون إلى وجوب إنشاء المدارس الإسلامية حماية لأبنائنا من الفتن لكن لا يوجد فكر قيادي إصلاحي لبناء قيادات حية من أبنائنا تنفع المجتمع و تقوده إلى رشده و مثل من يدعو إلى المشاركة في الانتخابات حتى لا تضيع حقوق الأقلية و تمنع الحكومات و لو جزئيا من التمييز العنصري أو مساندة الظلم العالمي على فلسطين أو العراق أو أفغانستان أو كشمير أو الشيشان، هذا الفقه ضيق عن استيعاب الرسالة كلها، أو الدور الكامل للمسلم أن ينفع نفسه و أهله وفي الوقت ذاته يصل خيره إلى مجتمعه صالحا أو طالحا، و بلده حتى لو كانت تحكم بالشر لأن هذا هو الميدان الحقيقي للدعوة و إلا فأين مجال الإصلاح الذي أوجبه الله علينا؟
و من الدلالة على وجوب تبني اجتهادات فقهية للأقليات تدفعهم إلى إصلاح بلدهم و مجتمعهم ما يلي:
أولا: قوله تعالى “فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه و كانوا مجرمين، وما كان ربك مهلك القرى بظلم و أهلها مصلحون” [هود: 116 ، 117]
هاتان الآيتان هما خلاصة سورة هود في رسالة الأنبياء حتى لا يدركهم الهلاك، والآية الأولى تتحدث عن قوم أولي بقية من عقل أو دين كما يذكر القرطبي يقومون بواجب الإصلاح و البيان والنهي الفساد عن الأرض و ليس في ديار الإسلام فقط، و أن قيام هؤلاء بواجب الإصلاح هو العاصم من القواصم و الحافظ من الإهلاك في الآية الثانية.
ثانيا: لقد شغل سيدنا إبراهيم عن البشرى الكبيرة أن يرزق بولد “إسحاق” من زوجته الأولى “سارة” شغل عن هذا كله بالجدال مع الملائكة عن قوم لوط ألا يعجلوا عليهم في العقوبة لإعطاء فرصة أخرى لإصلاحهم و لقد صور القرآن هذا المشهد المؤثر في حرص الداعية و المصلح على قومه حتى لو كانوا لوطيين في هذه الآيات: “فلما ذهب عن إبراهيم الروع و جاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب، يا إبراهيم أعرض عن هذا إن قد جاء أمر ربك و إنهم آتيهم عذاب غير مردود.” هذا الموقف المهيب الذي يقف فيه سيدنا إبراهيم يجادل عن قوم لوط ووصفه الله تعالى بالحلم و هي صفة ضرورية للمصلحين و امتدحت حرصه، لكن جاء الأمر الرباني بأن هؤلاء قد استنفذوا كل الوسائل و انتكست فطرهم و إنهم آتيهم عذاب غير مردود.
ثالتا: ما رواه البخاري بسنده عن عروة عن عائشة فالت سألت النبي –صلى الله عليه و سلم-: هل مر عليك يوم أشد من هذا اليوم “يوم أحد” فذكر لها يوم أن اشتد إيذاء قومه له فجاءه جبريل ومعه ملك الجبال بعرض عليه –صلى الله عليه و سلم- أن يهلك أهل مكة جميعا فقل –صلى الله عليه و سلم-: لا بل أدعو الله لهم: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله عز و جل”. هذا الموقف النبيل من النبي – صلى الله عليه و سلم- في الوقت الذي أمعنت فيه قريش في الإيذاء، و كانت تملأ المسجد الحرام أصناما حول الكعبة، و تطوف النساء و الرجال عرايا و تقول المرأة:
اليوم يبدو كله أو بعضه ** فما يبدو منه فلا أحله
وإذا خرجت من المسجد الحرام فستجد في مكة نفسها بيوتا للدعارة عليها رايات حمراء كما جاء في حديث البخاري عن عائشة أيضا، بالإضافة إلى ظلم الأغنياء للفقراء و السادة للعبيد، والقوي للضعيف و الرجل للمرأة ، لكن هذا كله لم يدفع النبي إلى طلب هلاكهم، بل سعى لإصلاحهم و دخل كثير منهم في دين الله أفواجا، و صاروا مادة للإسلام و عونا للمسلمين.
رابعا: ما روي أن النبي ﷺ قال: لقد دعيت إلى حلف في الجاهلية “حلف الفضول” لو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت، يبين بجلاء أنه إذا وجد المسلم سبيلا إلى إنشاء أو المشاركة في مؤسسات ذات هدف أخلاقي أو مبدأ إنساني، أو قصد إصلاحي يجب أن يبادر المسلم إليه.
خامسا: قوله تعالى “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله”[آل عمران: 110] توضح أننا أمة لا تتقوقع حول نفسها، ولا تنحصر في ذاتها بل هي أمة ابتعاث وإخراج إلى الناس بنور القرآن والسنة، أمة تمشي بالنور في الناس وليس في المسلمين فقط، أمة أمرها الله تعالى بالسير في الأرض كلها اثنتى عشرة مرة، وبالضرب في الأرض أربع مرات، وبالمشي فيها أربعا أخرى، أي عشرين مرة سيرا وضربا ومشيا.
وإذا جئنا من هذه النصوص الجلية إلى أوضاعنا الحالية فسنجد أن مجتمعاته الغربية صارت فيها الحرية جزءا من الهواء الذي يتنفسونه وهي فرصته كما قال الشاعر: وعاجز الرأي مضياع لفرصته حتى إذا فاته أمر عاتب القدرا
وإذا كان نكسون قد كتب كتابه “الفرصة السانحة” فهي أيضا فرصته لنا أن نتقدم ببرامج إصلاحية لنا وللمجتمع الذي نعيش فيه وأضرب على ذلك مثالاً: شكل وزير التعليم الأمريكي “تيربل بل” عام 1981م لجنة من ثمانية عشر عضوا من الخبراء في التعليم والتربية والاقتصاد والاجتماع و… لدراسة كيفية النهوض بالتعليم في أمريكا، وأجرت اللجنة حوارا مفتوحا مع الآباء والأمهات وأساتذة المدارس والجامعات والطلاب والطالبات و… انتهت إلى تقرير أن أمريكا أقل دولة في مستوى التعليم بين 19 دولة متطورة تم إجراء استبيان فيها مرارا وأن هناك 23 مليون أمريكي أميون ونصف الموهوبين لا يحققون مستوى علميا يتناسب مع مواهبهم، و40% من طلاب المدارس في سن سبعة عشر لا يستطيعون نسخ مادة مكتوبة، وذكر التقرير أنه لو أرادت قوة معادية أن تفرض أداء تعليميا قليل الجودة على الشعب الأمريكي لاعتبر ذلك مدعاة لإعلان الحرب لكن ذلك يحدث من خلالنا، لقد بددنا هذه المكاسب التي حصلنا عليها في رفع حصلنا عليها في رفع المستوى العلمي لطلابنا بعد التحدي الذي واجهناه بإطلاق القمر الصناعي “سبوتينك” ودعت الجميع إلى المشاركة في إصلاح التعليم.
وأقول: ماذا لو شارك المسلمون في هذا الحوار وقدموا رؤية تعليمية تربوية فيها التوازن بين الروح والجسد، الأخلاق والواقع، الفرد والمجتمع، دور الرجل والمرأة، طرق محاربة الجريمة، بل كم من الخير لو تبنى المسلمون محو أمية 23 مليون أمريكي كم يمكن أن يسلم لله تعالى أو يحمل الخير للإسلام والمسلمين أو يكون حياديا.
لذا يجب أن تسير الفتاوى والاجتهادات الفقهية إلى دفع المسلم أن يكون مواطنا مصلحا وإنسانا نافعا، لا يتردد في إنشاء مؤسسات أو المشاركة إن وجدت والتعاون مع أبناء بلده مسلمين وغير مسلمين لوقف الظلم ووقف الحروب والحفاظ على البيئة، ووقف العنف الاجتماعي، وإحياء الأمومة والأبوة والاهتمام بالمرضى والأيتام والفقراء و المساكين، والتأكيد على النظافة وتعميم الخدمات الصحية والرفق بالحيوان ومحاربة المخدرات والتدخين، ورعاية فقراء العالم والمتضررين من الحروب واللاجئين.
إنني أرجو ألا يغالي علينا أعداء الإسلام بأن المسلمين بيننا قوم نفعيون قد أفادوا من المال والعلم والحرية لأنفسهم لكنهم لم يقدموا لبلادهم أوموطنهم شيئا! بل يكون واقعنا العملي “خير الناس أنفعهم للناس”.
فقه النص والواقع
الضابط الثالث: ضرورة فقه النص والواقع معا
لا أعلم مخالفا من علماء المسلمين أن الفتوى أو الاجتهاد يجب أن يصدر ممن جمع فقه النص والواقع وأن يجيد إنزال النص على الواقع، والحق أن مجتمع الأقليات المسلمة مبتلى في هذا الجانب بلاء شديدا وعلى سبيل المثال:-
في أمريكا حسب إعلان وزارة الخارجية الأمريكية أكثر من 2000 مركز إسلامي، وروادها حسب دراسة أجرتها جامعة هارتفورد مستعينة بعدد من المؤسسات الإسلامية أكثر من 2 مليون مسلم، والواقع أكثر من هذا ولكن:
أ. لا يوجد أئمة عندهم مؤهل شرعي (فقهي، دعوي، دراسات إسلامية عامة) إلا 240 إماما والباقون غير متخصصين، وبعضهم فيه نبوغ علمي وشرعي ولكن كثيرا منهم يحمل فكرا عشوائيا، فهو يحضر موضوعا لخطبة أو درس أو يقرأ في باب لأنه استفتى فيه، أما الدراسة المنظمة لعلوم القرآن والحديث وأصول الفقه حتى يصل من الجزئيات إلى مقاصد الشريعة ويتكون لديه الحس الفقهي أو فقيه النفس فهذا أمر نادر جدا.
ب. كثير من هؤلاء الأئمة رغم فضلهم وشرفهم وسمو رسالتهم ودورهم إما لم تؤهلهم مدارسهم الشرعية التأهيل الكافي، أو تمت عمليات تسطيح فكري تحت ضغط ظروف المصلين المتعجلين فصار الاجترار أكثر من الابتكار، وآفة العلم الترك فنسي بعضهم ما تعلمه ودار في فلك المواعظ والخطب التي تشبه الأكلات السريعة.
ت. أن الجميع في حاجة إلى فقه المجتمع الأمريكي تاريخا وتحديات وآمالا ومشكلات وجرائم وحلولا وهو أمر لا غنى عنه حتى يستطيع أن يشارك في بناء الشخصية الإسلامية الحية في مجتمعها التي تحمل الاعتدال لا الاعتداء أو الاعتزال، هؤلاء جميعا بحاجة إلى دراسات منظمة وليست قراءات عشوائية، ودورات متدرجة ليرتفع إلى المستوى الذي ابتلى بالإصلاح فيه.
والحق أن علوم الإدارة قد تطورت وصارت تعتمد التخطيط للحاضر والمستقبل ولا بد أن يبنى التخطيط على فهم وعلم بأدوار أربعة جمعوها في (SWOT) هى:
(1) معرفة عناصر القوة في المجتمع (Strength)
(2) معرفة عناصر الضعف (Weakness)
(3) معرفة الفرص المتاحة (Opportunities)
(4) معرفة التهديدات (Threat)
هذه فقط مجرد قاعدة بيانات قبل وضع الهدف الكلي والأهداف التفصيلية ثم وضع الوسائل العملية ثم تنزيلها في فترات زمنية وخطوات مرحلية (قصيرة وبعيدة المدى) ثم المتابعة الميدانية والتغذية الارتجاعية، وفي إطار هذا توضع الميزانية ويتم اجتلاب الأكفاء ذوي التخصصات العلمية. فهل يجوز لنا أن نتقدم لإصلاح دنيا الناس وآخرتهم مع الغفلة عن هذه الجوانب الحيوية في واقع الناس حولنا.
أحسب أن عملية التأهيل لفقه النص والواقع والتدريب على الفتوى التي تعالج آلام الواقع ولا تنقل هموما تاريخية أو بعيدة مكانا إلى موقع يمتلئ بالأزمات ويحتاج إلى مفتي أو فقيه شجاع يخوض بعلم وخشية من الله كي يصلح واقعه.
يبدو لي أن نجاح فقهائنا ارتبط بهذا المستوى الرفيع من فقه النص والواقع الذي جعل سيدنا عمربن الخطاب لا يتردد في فتاوى وقرارات إدارية شرعية كان قد أشاربغيرها على سيدنا أبي بكر، وواجه قضايا جديدة بفقه فريد، وتبعه علي بن أبي طالب حيث رد حد الشارب إلى أربعين ،وهو الذي أشار على عمر بن الخطاب بثمانين قياسا على حد القذف ، وكان عمر بن عبد العزيز يفتي في المدينة بشاهد واحد ويمين لصاحب الحق ، وجاء تلاميذ أبي حنيفة أبو يوسف والشيباني وابن أبي ليلى ليخالفوا إمامهم اختلاف عصر وزمان ، وليس اختلاف حجة وبرهان ،وكان للشافعي فقهه في العراق ،وآخر في مصر . وناقش ابن تيمية وابن القيم قضايا فقهية قيل فيها إجماع الفقهاء على حكم اجتهادي لا نص قطعي ولم يترددوا في طرح قضايا جديدة تناسب واقعهم وكتب ابن القيم في هذا بما لم يسبق إليه في اختلاف الفتوى لتغير الزمان والمكان والأحوال. وبحق يجب أن تأخذ بنصيحة د. المقري الإدريسي المغربي لا يجوز نقل الفتوى في الفروع إلا بعد اعادة الاجتهاد فيها إذا مر عليها خمسون عاما أو تغير المكان ألف ميل وهي اشارة جلية إلى أن كل عرف له أحكامه في الفروع لا الثوابت والأصول. والقضية قطعية لا تحتاج إلى مزيد أدلة لكنها تحتاج إلى جهد جهيد لتحقيق مناطها في واقع المجالس الفقهية وتدريب الأئمة والقيادات الإسلامية حتى تصدر الفتوى من امتزاج فقه النصوص ومقاصدها الشرعية مع واقع المشكلات الحقيقية.